إعادة نشر بواسطة محاماة نت
أثارت عملية ذبح الطفل عبد الله عيسى من قبل أحد التنظيمات الإرهابية في حلب بدم بارد وبشكل مروّع وشنيع، عاصفة من الإدانة والانتقادات لما تشكله هذه الجريمة من انتهاك سافر لكل القيم الإنسانية وحقوق الطفولة، وتحدياً بربرياً للمواثيق الدولية التي سعت إلى حماية الأطفال في النزاعات المسلحة من هذه الأعمال الهمجية والوحشية. وتم طرح العديد من التساؤلات عن موقف القانون الدولي من هذه الأعمال اللأخلاقية وضرورة ملاحقة مرتكبيها أمام المحاكم الجنائية الدولية وعدم إفلاتهم من العقاب. فهل ثمة قواعد تجيز/ تفرض تلك الملاحقة وتؤمن الحماية للأطفال في النزاعات المسلحة؟
أظهر المجتمع الدولي الاهتمام بالأطفال ـ وخاصة أثناء النزاعات المسلحةـ منذ عام 1913 في أول مبادرة لمساعدة الأطفال في بروكسل. وفي عام 1920 تأسس الاتحاد الدولي لمساعدة الطفل برعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تلاها بعد ذلك سنة 1923 نشر إعلان جنيف الذي وافقت عليه عصبة الأمم آنذاك سنة 1924، إلا أنه، وعقب الحرب العالمية الثانية، لوحظ نقصاً في مجال القواعد الخاصة بحماية الأطفال، ما دفع المجتمع الدولي إلى التحرك من جديد وبذل المزيد من الجهد لوضع قواعد قانونية دولية تكفل إلى حد ما حماية الأطفال في النزاعات المسلحة، وهو ما تُوج بإبرام اتفاقيات جنيف الأربعة لسنة 1949. وتعززت فيما بعد من خلال بروتوكولين إضافيين.
وكان ذلك في مؤتمر دبلوماسي عقد من سنة 1974 إلى سنة 1977؛ غطّى البرتوكول الأول المنازعات المسلحة الدولية، في حين غطى البرتوكول الثاني المنازعات المسلحة غير الدولية. وتوالت الجهود الدولية وصولاً لتوقيع اتفاقية حقوق الطفل عام 1989، ثم توجت بتوقيع برتوكول اختياري خاص بإشراك الطفل في النزاع المسلح سنة 2000.
وعلى الرغم من كثرة النصوص الدولية التي تحمي الأطفال، إلا أن تجاهلها هو سيد الموقف سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان أو سورية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، والعصابات الإرهابية المسلحة المدعومة غربياً؛ مما يطرح السؤال عن فعالية هذه القواعد وما إذا كفلت للأطفال في هذه المناطق حماية جدية أم لا؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل لا بد من تحديد مفهوم الطفل المشمول بالحماية المقررة بهذه الاتفاقيات. وبالعودة إلى نصوص اتفاقيات جنيف والبرتوكوليين الإضافيين لسنة 1977 نجدها وضعت عدة معايير لتحديد الطفل الذي تشمله الحماية؛ فالمادة 38 من اتفاقية جنيف الرابعة تعتبر أن الطفل الذي لم يبلغ 15 سنة من عمره يعد من السكان المدنيين الذين يمكن إدخالهم في المستشفيات أو المناطق الآمنة. وبحسب هذا النص فإن من تجاوز سن 15 لا يستفيد من الحماية المنصوص عليها وهو الأمر الذي أكدته المادة 37 فقرة 2 من البرتوكول الأول، والمادة 4 فقرة 3 من البرتوكول الثاني، حيث نصت جميع هذه المواد على أنه يستفيد الأطفال دون سن 15 من حماية خاصة سواء كانوا أسرى حرب أم لا.
بالمقابل، نجد أن ثمة نصوص دولية أخرى أقرّت سناً مخالفاً للسن الوارد في المواد السابقة كما هو الحال في المادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل، التي اعتبرت كل إنسان لم يتجاوز 18 ولم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المطبق عليه في بلده، وكذلك المادة 68 فقرة 4 من اتفاقيات جنيف التي تنص على عدم جواز إصدار حكم بإعدام شخص محمي تقل سنه عن 18 سنة وقت اقتراف المخالفة، وهو ما يعني أن كل من لم يتجاوز سن 18 يعد في حكم الأطفال الذين تشملهم الحماية. كما أن المادة 78 من البروتوكول الأول تحدثت عن إجلاء الأطفال بصفة مطلقة دون أن تحدد سناً معينة للطفل الذي يتمتع بهذا الحق.
ما هي التدابير والحماية المنصوص عليها لحماية الأطفال في النزاعات المسلحة؟
يمنح القانون الدولي في النزاعات المسلحة الأطفال نوعين من التدابير؛ الأول، تدابير عامة بصفتهم أشخاص مدنيين لا يشاركون في الأعمال العدائية، والثاني، تدابير خاصة كونهم ضعفاء لا يقوون على الدفاع عن أنفسهم:
أولاً ـ التدابير العامة:
وتتمثل بالحماية ضد تجاوزات الأطراف المتحاربة للحقوق الأساسية للإنسان، وقد نصت عليها المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة. وتقع في ثلاثة عشرة بنداً وغايتها حماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب، وذلك باحترام أشخاص الأطفال وشرفهم وحقوقهم العائلية، وعقائدهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية، ومعاملتهم معاملة إنسانية في جميع الأوقات، وحمايتهم بشكل خاص من جميع أعمال العنف أو التهديد أو السباب، وفضول الجماهير.
وعلى ذلك الأساس فإن هذه التدابير العامة تهدف إلى ضمان السلامة البدنية والمعنوية للطفل والحق في الحياة، والتي تعتبر أهم الحقوق على الإطلاق؛ إذ يشمل حق السلامة البدنية حظر المساس بحياة الطفل أو صحته، ومن ثم وجوب معاملته معاملة إنسانية تجعله بمنأى عن أي عرضة للإبادة أو القتل أو التعذيب أو التجارب التي لا يستوجبها العلاج الطبي، كون هذه الأعمال تعدّ باتفاق الفقهاء أعمالاً مخلة بواجب المعاملة الإنسانية. وهذه التدابير فرضتها شدة المعاناة التي تسببها النزاعات المسلحة على الأطفال، وما تتركه في نفسية الطفل من قسوة وخوف.. ومثال على ذلك ما جاء في دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة بشأن الأطفال والحرب سنة 2001، أنه:
“عندما ندرس طبيعة المعاناة النفسية للطفل الذي يقع ضحية للحرب، فإننا نكتشف أن ما يؤثر في انفعالات وعواطف الطفل، ليست هي وقائع الحرب ذاتها كالقصف والعمليات الحربية لأن روح المغامرة بصفتها وسيلة للتخريب والحركة يمكنها التكيف مع أسوأ المخاطر ولا يحس الطفل بالمهالك المحدقة به طالما يظل قريباً ممن يحميه فهذا يجعل الشعور بالأمان مجسداً في قلبه الصغير، وأن ما يؤثر على الطفل هو وقع الأحداث وأقسى ما يؤثر على الطفل أن ينفصل عن أمه فجأة”.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الطفل يتمتع بوصفه شخصاً مدنياً، بالحماية أثناء العمليات العسكرية، التي تقتضي التمييز بين المدنيين والعسكريين واتخاذ الاحتياطات أثناء الهجوم، وهو ما نصت عليه المادة 48 من البرتوكول الأول، وكذلك ما نصت عليه المادة 51 من ذات البرتوكول حين أكدت على:
1ـ عدم جواز جعل السكان المدنيين محلاً للهجوم.
2ـ وجوب تمتع الأشخاص المدنيين بالحماية طالما هم بعيدين عن مباشرة الأعمال العدائية.
3ـ حظر الهجمات العشوائية التي تعتبر كذلك متى وجهت إلى هدف عسكري محدد واستخدمت فيها طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها.
وهو ما تفعله التنظيمات الإرهابية عند إطلاق قذائف الهاون على الآمنين من المدنيين في حلب ودمشق وغيرها من المدن السورية.
ثانياً ـ التدابير الخاصة:
وتتمثل في ضرورة إعطاء الأولوية للأطفال عند توزيع شحنات الإغاثة والعون للسكان المدنيين. كما نصت المادة 23 من اتفاقية جنيف على ضرورة السماح بمرور رسالات الإمدادات الطبية والمواد الغذائية والملابس والمقويات المخصصة للأطفال دون 15 سنة. كما نصت المادة 77 فقرة 2 من البرتوكول الأول؛ أنه يجب على أطراف النزاع اتخاذ التدابير المستطاعة التي تكفل عدم إشراك الأطفال دون 15 سنة في الأعمال العدائية بصورة مباشرة، وعلى هذه الأطراف أن تمتنع عن تجنيد الأطفال في قواتها المسلحة، وهو ما نصت عليه أيضاً اتفاقية حقوق الطفل في المادة 38 فقرة 2و3 منها. وبناء على ذلك، وفي سابقة قضائية دولية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمها بالإدانة على “توماس لوبانغا دبيلو” بارتكاب جريمة حرب تمثلت في تجنيد الأطفال دون 15 سنة سواء إلزامياً أو طوعياً في القوات الوطنية لتحرير الكونغو واستخدامهم بشكل فعال في الأعمال القتالية.
وللأسف، أنه ورغم عشرات الوثائق التي تثبت استخدام المنظمات الإرهابية في سورية للأطفال في الأعمال القتالية والتحريض على أعمال الإبادة والقتل وبث الكراهية بين أفراد المجتمع، لم نشهد تحركاً دولياً لإدانة هذه الأعمال، أو على الأقل احترام قرارات مجلس الأمن ومنها القرار رقم 1612 لسنة 2005 الذي أكد على ضرورة اعتبار حماية الأطفال في الصراعات المسلحة جانباً مهماً في أي استراتيجية شاملة لفض الصراعات.. وبقيت مواثيق جنيف وبرتوكولاتها وقرارات مجلس الأمن والمنظمات الدولية التابعة لها شاهد أصم وأعمى وأبكم على “أمنيّة” عبد الله عيسى الأخيرة بالموت رمياً بالرصاص وليس ذبحاً.. وكم من عبد الله سوف يذبح حتى يقتنع الغرب الداعم للإرهاب أن أدواته ترتكب جريمة حرب بحق الطفولة والإنسانية..؟!!
اترك تعليقاً