مبدأ استقلال القضاء والدستور الليبي
يتفق المختصون في علم القانون على أن مبدأ استقلال القضاء يأتي كنتيجة منطقية لمبدأين آخرين هما: مبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ سيادة القانون (مبدأ المشروعية), ولما كان لنا في دراسة التاريخ لعِبرٌ وحِكَم يُستفاد منها لتجنب الأخطاء التي وقعت في الماضي عند الإعداد للمستقبل, فإنه ينبغي لنا – ونحن على الطريق نحو إعداد الدستور – تسليط الضوء على عدد من المسائل التي اعتمدت من قبل النظام السابق، وكان هدفها العمل على تعطيل كل ما من شأنه تأمين استقلال القضاء من الضغوط السياسية وتدخل (أو تأثير) السلطات الأخرى في أعماله.
وعليه, فإن الغاية المبتغاة من هذا التسليط هو تفادي مثل هذه المسائل (مستقبلا) عند وضع الدستور الليبي المُنْتظرِ انتخاب لجنته التأسيسية – لجنة الـ60- في الأيام القريبة القادمة.
أولا/ فيما يتعلق بمبدأ الفصل بين السلطات:
يقتضي مبدأ استقلال القضاء – بطبيعة الحال – التأكيد على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ونبذ مبدأ وحدة السلطة الذي اعتمده النظام السابق مند عــام 1977, والــذي كان لــه سيء الأثــر عـلى استقلال القضـاء الليبـي. فالدول الحديثة والديمقراطية تقوم على نوع من التوازن بين السلطات الثلاث, هذا التوازن يقضي بأن تستقل كل سلطة عن الأخرى، وأن تحد كل واحدة منها جموح السلطة الأخرى.
وبناء على ما تقدم, فإنه يقصد بالفصل بين السلطات: عدم جواز تدخل إحدى السلطات في أعمال السلطتين الأخريين, وبالنتيجة فإنه يقصد باستقلال القضاء: عدم جواز تدخل الغير (بما في ذلك السلطتين التشريعية والتنفيذية) فيما يتخذه القضاء من إجراءات وما يصدر عنه من قرارات أو أحكام.
ولتحقيق هذه الغاية على أكمل وجه يجب التركيز على نقطتين أساسيتين، عمل النظام السابق على تعطيلهما بهدف زعزعة استقلال القضاء الليبي لأجل سيطرة حكم الفرد, وهما:
أ- أن يكون القضاء سلطة لا مجرد وظيفة: استقر الفقه المعاصر على ضرورة اعتبار القضاء سلطة مستقلة تقف على قدم المساواة مع بقية سلطات الدولة من الناحية الدستورية، وذلك لضمان استقلالها من الناحية الوظيفية التي تنبسط إلى مراقبة أعمال السلطات الأخرى، وتأكيداً لذلك أكدت لجنة حقوق الإنسان في مؤتمر سانتياجو سنة 1961 أن ” وجود قضاء مستقل يعد أفضل الضمانات للحريات الشخصية وأنه يتعين وجود نصوص دستورية أو قانونية ترصد لتأمين استقلال السلطة القضائية من الضغوط السياسية وتأثير سلطات الدولة الأخرى عليها، وذلك بالحيلولة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبين ممارسة أية وظيفة قضائية أو التدخل في إجراءات القضاء”.
إن طرح هذه النقطة مرده إلى الفلسفة التي فرضها النظام السابق مند عام 1977 والتي تقوم على هجر مبدأ الفصل بين السلطات – الذي كان معمولا به قبل ذلك التاريخ – لصالح مبدأ آخر هو مبدأ وحدة السلطة, وبينما كان الهدف الظاهري من هذا الهجر هو القول بأن: مبدأ الفصل بين السلطات يشكل تعارضا مع مبدأ وحدة السلطة الذي لا يقبل القسمة على اثنين. كان الهدف الخفي هو التحول بالقضاء من سلطة إلى وظيفة (هيئة قضائية لا سلطة قضائية), ففي وثائق وتشريعات النظام السابق لا وجود لكلمة “السلطة القضائية” رغم النص فيها على استقلال القضاء, وبهذه الطريقة (الملتوية) تمكّن النظام السابق من الإجهاز على استقلال القضاء, بأن جعل منه استقلالا نظرياً بإفقاده لأحد أهم دعامات الاستقلال الفعلي والحقيقي ألا وهي اعتبار القضاء سلطة منفصلة مستقلة على قدم المساواة مع باقي السلطات.
إذ يترتب على اعتبار الجهاز القضائي سلطة مستقلة نتائج عدة ومهمة, قد يفقدها هذا الجهاز إذا ما تم الإجهاز على استقلاليته وأهمها: أن تمتد هذه السلطة إلى كل ما يتصل بأغراضها، وألاّ تخرج من نطاقها أية خصومة على النحو الذي سيتم بيانه لاحقا عند التعرض لفقرة مبدأ سيادة القانون.
ب- حق التجمّع للقُضاة: يقتضي استقلال القضاء ليس فقط منع السلطات الأخرى من التدخل في أعمال القضاة وإنما أيضا – وهو الأهم – امتناع القضاة أنفسهم عن الاستجابة أو القبول أو الخضوع لأي تدخل أو تأثير من الغير. ولتحقيق هذه الغاية – وبعد رفع كل القيود التي وضعها النظام السابق على حق التجمع – فإنه يجب أن يكون للقضاة حرية التعبير عن آرائهم والدفاع عن استقلال وظيفتهم منفردين أو مجتمعين, وذلك بتأسيس تجمعات قضائية هدفها ليس الدفاع على حقوق القضاة المهنية, وإنما تعزيز وعي القاضي بمسؤولياته ووعيه بالقيم القضائية والانتماء إلى السلطة القضائية والمحافظة على استقلالها, والوقوف صفا واحدا ضد كل ما من شأنه المساس بهذه الاستقلالية.
وبمعنى آخر، فإن الأهداف السامية للتجمع لا تتمثل في الأساس في تشكيل تجمع نقابي للدفاع عن المصالح الخاصة للقضاة – وهو حق مشروع – وإنما في تشكيل تجمع يسهم في تعزيز استقلال القضاء, ويركز أهدافه على وجهين.
الأول (الوجه الخارجي)؛ العمل على تعزيز استقلال القضاء إزاء السلطات الأخرى ولاسيما السلطة التنفيذية.
الثاني (الوجه الداخلي) العمل على إنشاء مجلس قضاء أعلى ومساندته في أن يتولى صلاحيات واسعة في إدارة شؤون القُضاة على نحو يحد من تدخل السلطات الأخرى.وقد بدأت بوادر هذا الاتجاه تظهر مبكراً في ليبيا عقب ثورة 17 فبراير المجيدة عندما تم في بنغازي تأسيس المنظمة الليبية للقضاة بتاريخ 15 أبريل 2012م من قبل مجموعة من الشبان الليبيين يعملون وكلاء نيابة وقضاة في محاكم ابتدائية على امتداد ربوع الإقليم الليبي, والهدف الأسمى للمنظمة هو: العمل على ضمان استقلال القضاء الليبي ولاسيما استقلال القاضي الفرد وعدم قابليته للعزل، وحظر إنشاء أي لجان أو محاكم ذات طبيعة خاصة أو مؤقتة خارج إطار السلطة القضائية لمحاكمة أشخاص معينين أو للنظر في قضايا محددة.
ثانيا/ فيما يتعلق بمبدأ سيادة القانون (مبدأ المشروعية):
يقصد بمبدأ سيادة القانون (أو مبدأ المشروعية): أن تكون سائر تصرفات السلطات العامة في الدولة في حدود القانون متفقة مع أحكامه. ومبدأ المشروعية هو ما يميّز دولة القانون (أو دولة المؤسسات) عن الدولة الدكتاتورية (أو الدولة البوليسية) التي لا تلتزم مؤسساتها المختلفة باحترام سيادة القانون وحريات المواطنين.وعليه, فإن مقتضى هذا المبدأ هو أن تخضع الدولة في تصرفاتها للقانون القائم, وأنه يمكن للأفراد عبر وسائل مشروعة مراقبة أعمال السلطات العامة في الدولة عند أدائها لوظائفها ومخاصمتها إن هي خرجت على حدود القانون, ويعد القضاء أحد الوسائل المشروعة المتاحة للأفراد لضمان احترام سيادة القانون ومخاصمة المخالفين له.ذلك أنه من أهم نتائج اعتبار القضاء سلطة مستقلة – كما سبق القول – هو: امتداد صلاحية هذه السلطة إلى كل ما يتصل بأغراضها، وألاّ يخرج من نطاقها أية خصومة, فالحديث عن دولة المؤسسات وعن مبدأ سيادة القانون أو المشروعية في دولة لا يوجد فيها قضاء مستقل يصبح نوعاَ من العبث، لأن هذه الأمور جميعا مرتبطة ارتباطا وثيقا لا ينفصم، فحيث يوجد إيمان بمبدأ المشروعية وسيادة القانون وحيث يوجد الدستور، فإن السلطة القضائية المستقلة تأتى نتيجة طبيعية، أما عندما يختفي مبدأ المشروعية أو عندما لا يكون هناك إيمان بمبدأ سيادة القانون، فإنه لا يمكن تصور وجود سلطة قضائية مستقلة في مواجهة بطش السلطة التنفيذية.وبالرغم من أنه أصبح من المسلمات اليوم, ألاّ يكفي لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية, أن تتأكد سيادة القانون في شأن علاقتهم بعضهم ببعض, بل أصبح يلزم لتأكيد هذه الحماية أن تتأكد سيادة القانون في علاقة الأفراد مع الدولة, فإن بعض الأنظمة السياسية (وخاصة القمعية) عملت على وضع استثناءات ( تتمثل في مجموعة نظريات) على مبدأ سيادة القانون, بدعوى أن إعمال المبدأ على إطلاقه وبما يضفيه من قيود على حرية الإدارة قد يشل حركاتها ويمنعها التحرك والتصرف طبقا لمجريات الظروف والأحوال.
ومن هذه الاستثناءات تلك المتعلقة بنظرية الظروف الطارئة وحالة الضرورة ونظرية أعمال السيادة, وإذا كان من الممكن تلمس المبرر القانوني للأولى, فإنه لا يمكن تلمسه للثانية, فنظرية أعمال السيادة المنصوص عليها في القانون رقم 88 لسنة 1971 بشأن دوائر القضاء الإداري الليبي, تم استغلالها من قبل النظام السابق أيما استغلال, وذلك بتحصين العديد من تصرفاته من رقابة القضاء بدعوى أنها من أعمال السيادة لاسيما عندما يتعلق الأمر بالمسائل الأمنية.
ومن ثم يجب النص صراحة في الدستور الليبي على استبعاد نظرية أعمال السيادة كاستثناء على مبدأ المشروعية حتى لا يتحصن أي عمل من أعمال السلطة التنفيذية من رقابة القضاء, (لاسيما وأن هذه النظرية رفضت من قبل القضاء الذي ابتدعها ألا وهو القضاء الفرنسي) لأن القول بغير ذلك من شأنه إخراج عدد من الخصومات من نطاق اختصاص السلطة القضائية, وهو ما يعد مساسا بمبدأ استقلال القضاء, هذا فضلا عن مساسه بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي كفلت للفرد حق التقاضي.
الخـــــــــلاصة هي:
أن الطلب المُلِح بتفعيل القضاء الليبي, يجب أن يسبقه قبل ذلك إصلاح القضاء الليبي وعلى وجهين.
الأول؛ إصلاح تشريعي يبدأ من الدستور وينتهي بالقوانين والنظم المتعلقة بالنظام القضائي الليبي, بالنص صراحة على أن القضاء سلطة لا وظيفة, لا بل وسلطة مستقلة على قدم المساواة مع السلطات الأخرى, وأن لا خصومة تخرج عن سلطان القضاء في ضل مبدأ سيادة القانون إلا ما اقتضه حالة الضرورة والظروف الطارئة والاستثنائية.
الثاني؛ إصلاح داخلي يتمثل في إعادة فحص ملفات منتسبي السلطة القضائية, لتطهير الجهاز القضائي الليبي من مفسدي النظام السابق, فبهذا الإصلاح – مع استقرار الأمن – يتفعّل القضاء الليبي آلياً ويعود إلى سابق عهده كضمانة من ضمانات حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية, على النحو الذي كان عليه عند الاستقلال في مطلع الخمسينيات, عندما قضت المحكمة العليا الليبية – وهي على رأس الهرم القضائي في ليبيا – بإلغاء مرسوم ملكي بحل مجلس ولاية طرابلس الغرب صدر عن الملك إدريس السنوسي رحمه الله.
اترك تعليقاً