الشفافية في تسوية المنازعات في منظمة التجارة الدولية
د. محمد عرفة
تعد آلية تسوية منازعات التجارة الدولية من أهم الإنجازات التي تحققت في ظل منظمة التجارة الدولية TWO, خاصة بعد جولة أورحواي عام 1994. وتتميز الآلية المستحدثة لتسوية المنازعات التجارية في إنشاء فرق للتحكيم, وتحديد اختصاصاتها والسرعة في إصدار القرارات الفاصلة في المنازعات؛ كما تتميز تلك الآلية كذلك بإنشاء هيئة استئنافية تتولى الفصل في الطعون التي ترفع إليها بشأن القرارات التي أصدرتها فرق التحكيم.
لكنها أخذت بنظام التشاور بين الأطراف المتنازعين, وذلك لإتاحة الفرصة أمامهما للوصول إلى تسوية ودية سريعة ومرضية لهما, تحافظ على علاقاتهما المستقبلية ومن أهم الخصائص التي تتميز بها آلية تسوية المنازعات في ظل منظمة التجارة العالمية اتساع تلك الآلية وفاعليتها وشفافية الإجراءات التي تتخذ في هذا الصدد, التي تتمثل في وضوح وعدالة الإجراءات للأطراف المتنازعين, وهي تستمر منذ بداية عرض النزاع على فريق التحكيم وفي جميع مراحله وحتى الفصل فيه وتنفيذ القرار الصادر فيه وتنفيذه.
فيكون من حق جميع الأطراف المتنازعين الاطلاع على وثائق وأوراق النزاع خلال جميع مراحل تسويته, ويجب أن تكون طلبات التشاور مكتوبة ويجب إشعار جهاز تسوية المنازعات. ومن مظاهر الشفافية التي أخذت بها المنظمة أن طلبات التشاور تكون متداولة وفي متناول جميع الأعضاء للعلم بها وذلك عن طريق قاعدة بيانات عبر الإنترنت التي تتضمن ملخصا للنزاع وما ينسب إلى أحد الأطراف من خرق أو انتهاك لالتزاماته طبقا للاتفاقية وبما يسمح لجميع الأعضاء بالاطلاع على جوانب النزاع .
ومن الملاحظ هنا أن إتاحة الفرصة لجميع الأعضاء في المنظمة للاطلاع على جوانب النزاع يمكن أن تؤدي إلى إفشاء سرية النزاع, ولهذا فقد وضعت المنظمة ضابطاً يقضي بأنه على الرغم من تعميم طلب التشاور على جميع الأعضاء إلا أن عملية التشاور ذاتها تتم في إطار من السرية, فالوثائق التي يتم تبادلها بين طرفي النزاع أثناء عملية إجراء التشاور لا تكون قابلة للتوزيع على باقي الأعضاء, مثال ذلك الوثائق التي تتضمن الإجابة عن الأسئلة التي يوجهها أحد الطرفين إلى الطرف الآخر, وتلك التي تتضمن الإجابة عن هذه الأسئلة.
والحكمة من ذلك هي حصر النزاع خاصة في مراحله الأولى في إطار أطرافه فقط قبل عرضه على فريق التحكيم. كما أن من مظاهر الشفافية التي أخذت بها المنظمة كذلك ضرورة إخطار الجهاز والمجالس واللجان التابعة للمنظمة بأي حلول أو تسويات يصل إليها أطراف النزاع من خلال المشاورات التي تمت بينهم, وذلك حتى يتمكن أي عضو من أعضاء المنظمة أن يثير ما لديه من ملاحظات أو اعتراضات خاصة عليها. كما يتعين في كل الأحوال أن تكون الحلول التي توصل إليها الأطراف المتنازعون متوافقة مع قواعد التشاور المنصوص عليها في اتفاقية الجات وملاحقها, بحيث يلتزم هؤلاء الأطراف بعدم جواز تعطيل أو إلغاء الحلول التي توصلوا إليها خلال عملية التشاور بأي شكل. ثم أخذت اتفاقية منظمة التجارة العالمية بقاعدة تقضي بأنه في حالة عدم نجاح عملية التشاور في التوصل إلى حل ودي بين الأطراف المتنازعين فيجب توزيع وتعميم طلب التسوية لإنشاء فريق التحكيم, كما يلتزم رئيس الجهاز بأن يخطر جميع الأعضاء في المنظمة بتكوين وإنشاء فريق التحكيم الذي سيتولى الفصل في النزاع, ولكن مراعاة قواعد السرية والحياد والاستقلال والشفافية أيضاَ تقضي بأنه لا يجوز إعلان الأطراف المتنازعين أو أي من أعضاء المنظمة بهويات أعضاء فريق التحكيم.
ومن مظاهر الشفافية أيضا أن الاتفاقية تنص على أن يقوم الجهاز باعتماد التقرير الذي يقدمه فريق التحكيم في أحد اجتماعاته خلال 60 يوما بعد تعميم هذا التقرير على جميع الدول الأعضاء في المنظمة, وذلك ما لم يخطر أحد الأطراف المتنازعين الجهاز بتقديم استئناف أو يقرر فريق التحكيم بإجماع الآراء عدم اعتماد التقرير, وفي حالة قيام أحد الأطراف بإخطار الجهاز بإقامة الاستئناف فيجب على الجهاز ألا ينظر في اعتماد تقرير الفريق إلا بعد استكمال الاستئناف, وبناء على هذا يمكن القول إنه يترتب على نشر تقرير فريق التحكيم وتعميمه إتاحة الفرصة لباقي الأعضاء في المنظمة لتقييم ومراجعة التقرير المقدم على الرغم من تقديم الاستئناف, أي أن هناك نوعا من الرقابة يمارسها أعضاء المنظمة على التقرير الذي يقدمه فريق التحكيم.
والواقع أن هذه الرقابة لا تقف عند هذا الحد, بل يكون للجهاز صلاحية مراقبة عملية تنفيذ القرار الذي يصدره فريق التحكيم, إذ يحق لأي عضو من أعضاء المنظمة أن يثير مسألة تنفيذ القرار التحكيمي بعد صدوره واعتماده من فريق التحكيم, وتلتزم الدولة الطرف في النزاع بأن تقوم بتقديم تقرير مكتوب للجهاز توضح فيه مدى التزامها بتنفيذ قرار التحكيم ويتم توزيعه على جميع الدول الأعضاء في المنظمة لإحاطتها علماَ به وحتى تستطيع أن تبدي ما تشاء من ملاحظات بشأنه.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً