مبدأ حرية الإثبات في المعاملات التجارية ومسألة حجية المعاملات الإلكترونية الحديثة في الإثبات .
إن الموضوعان أعلاه على قدر كبير من الأهمية في قانون البينات، هذان الموضوعان كثيراً ما يتعذران على دارسي الحقوق بل حتى على رجال القانون المتمرسين نظراً لتشابك مسائل كل منهما إضافة للنقص التشريعي الواضح فيهما وعدم استقرار أحكام المحاكم النظامية في بعض مسائلها الفرعية.
ففي البداية نقول ما هو الإثبات ؟ فالإثبات اصطلاحاً هو عملية متكاملة تهدف إلى إقامة الدليل أمام القضاء على صحة واقعة متنازع عليها وبالطرق التي حددها القانون للتوصل إلى حُكم قضائي يُحق الحق لصاحبه.
وهنا نتساءل ما هي طرق الإثبات التي حددها القانون الفلسطيني ؟ إن طرق الإثبات التي أقرها المشرع الفلسطيني هي سبعة طرق وفق نص المادة السابعة من قانون البينات رقم 4 لسنة 2001 وهي على النحو التالي:-
أولاً : الأدلة الكتابية وتقسم إلى مايلي:
1- سندات رسمية وهي نوعين:
أ) السندات الرسمية التي ينظمهاالموظفون العموميون.
ب) السندات الرسمية التي ينظمها أصحابها ويصدقها الموظفون العموميون حيث يعتبر هذا النوع رسمي من حيث التاريخ والتوقيع، وهذه السندات تعتبر حجة على الكافة ما لم يثبت تزويرها.
2- السندات العرفية وهي التي تكون موقعة ممن صدرت عنه وتكون حجة على من وقعها ما لم ينكرها وأن السكوت يعتبر إقراراً بصحتها.
3- السندات الغير موقع عليها مثل دفاتر التجار والتي لا تكون حجة على غير التجار.
ثانياً: شهادة الشهود في غير المواد التجارية إذا كان الالتزام تزيد قيمته على مائتي دينار فلا يجوز شهادة الشهود فيه.
ثالثاً : القرائن وهي نوعان :-
1) قانونية :- وهي التي ينص عليها القانون وهي تُعفي من تقررت لمصلحته من أية طريقة أخرى من طرق الإثبات.
2) قضائية:- وهي التي ينص عليها القانون ويستنبطها القاضي من ظروف ووقائع الدعوى ومستنداتها بما له من سلطة تقديرية.
رابعاً: الإقرار وهو نوعان:-
1) إقرار قضائي: الاعتراف بالواقعة أمام القضاء أثناء سير الدعوى.
2) إقرار غير قضائي: هو الذي يقع في غير مجلس القضاء.
خامساً: اليمين وهي نوعان:-
1- الحاسمة: يوجهها أحد الخصوم إلى خصمه في المسائل المتنازع عليها.
2- المتممة: توجهها المحكمة من تلقاء نفسها لأي من الخصمين عندما يكون بالدعوى دليل ولكنه غير كافي.
سادساً: المعاينة:
المحكمة من تلقاء نفسها أو بناءً على طلب من أحد الخصوم تنتقل لمعاينة الشيء المُتنازَع عليه ويحرّر محضر تثبت فيه الوقائع التي حققتها المحكمة.
سابعاً : الخبرة :
نَدب خبير للاستنارة برأيه ويكون ذلك من قبل المحكمة وينظّم الخبير تقريراً بذلك يودعه قلم المحكمة ورأي الخبير لا يقيّد المحكمة ولكنها تستأنس به، وإذا حكمت المحكمة خلاف رأي الخبير يجب عليها بيان الأسباب الذي جعلها أن لا تأخذ به.
أما نظام الإثبات المعتمد في فلسطين للمواد المدنية والتجارية هو النظام التوفيقي أو ما يسمى بنظام الإثبات المختلط، وهو نظام مستقر يجمع بين النظامين المقيد والحُر بالإثبات، فيما أورد مشرّعنا الفلسطيني مجموعة من القيود في إثبات المسائل المدنية كالقيد الشهير الوارد في المادة (68) من قانون البينات التي تنص على عدم جواز إثبات الالتزام المدني الذي تزيد قيمته على 200 دينار بالشهادة، أوردت ذات المادة عبارة ” في المواد غير التجارية ” لتفتح الباب واسعاً لحرية الإثبات في المواد التجارية وانحلال هذه المسائل من قيود الإثبات المدنية، ونظام الإثبات المختلط هو في رأينا من أفضل الأنظمة نظراً لما يتمتع به من استقرار ومرونة لا تتوافر للنظامين الآخرين، إذ يُؤخذ على النظام المقيد صرامته وتشدده في وسائل الإثبات وحجيه كل منها بحيث يؤدي في كثير من الأحيان إلى تناقض جسيم بين الحقيقة القانونية لدى المحكمة والحقيقة الواقعية للنزاع على أرض الواقع، مما يترتب عليه إضاعة حقوق المتخاصمين لصعوبة إثباتها.
ومن ناحية أخرى يُؤخذ على النظام الحُر في الإثبات عدم استقراره ووجود مساحة كبيرة فيه لحرية الإثبات والاجتهادات المتناقضة ، إضافة لانعدام وجود مرجعية تشريعية للاستناد عليها في كثير من النزاعات، مما يؤدي إلى ضياع الحقوق أيضاً.
هذا هو تجانس الأضداد فعلاً، نظامان مختلفان أديّا لذات النتيجة غير المحمودة، لذلك كانت تزكيتنا للنظام المختلط.
وبالانتقال إلى حرية الإثبات نقول أن حرية الإثبات في المواد التجارية تعني التحلل من كثير من القيود المتعلقة بالإثبات المدني، وأمثلة ذلك جواز إثبات الديون التجارية التي تزيد عن 200 دينار بالشهادة، أيضاً حجية دفاتر التجّار بالإثبات، كذلك ما يتعلق بحجية السندات العُرفية تجارياً حسب المادة 18 فقرة 3 من قانون البينات، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن حرية الإثبات في المواد التجارية لا تعني بأي حال فوضوية هذا الإثبات أو عدم خضوعه لقواعد قانونية وقيود المحكمة، فهي حرية نسبية وليست مطلقة كحال كل الحريات التي تتيحها فروع القانون العام والخاص المختلفة.
ومن القواعد التي تحكم حرية الإثبات في المواد التجارية:
أولاً : الالتزام بطرق الإثبات السبع المنصوص عليها في المادة السابعة من قانون البينات، إذ لا يمكن بل لا يتصور أن تقبل المحكمة غير هذه الطرق في إثبات الواقعة المنشئة للالتزام التجاري، فالقسامة والقيافه والفراسة التي أخذ بها الفقه القديم كوسائل للإثبات أمام القضاء لا قيمة لها أمام قضائنا اليوم.
ثانياً : يجب أن يكون الالتزام تجارياً وليس مدنياً، وهذا الأمر يُستدل عليه بالرجوع للمواد 6،7،8 من قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966 الساري التي تعرّف الأعمال التجارية وتعدُّها فحرية الإثبات تكون للالتزامات الناشئة ضمن فئات الأعمال المذكورة في هذه المواد وإلا كان الالتزام مدنياً وكان الإثبات فيه مُقيّداً.
ثالثاً : القواعد العامة المتعلقة بالواقعة محل الإثبات القضائي، ومنها :
1) أن تكون الواقعة متعلقة بموضوع الدعوى وليست خارجة عنه.
2) أن يكون إثبات الواقعة منتجاً في النزاع وليس إثباتاً ضالاًّ دون غاية.
3) يجب أن تكون الواقعة المراد إثباتها جائزة القبول أي تتمتع بالحماية القانونية نظراً لعدم مخالفتها القانون والنظام العام.
4) يجب أن تكون هذه الواقعة محددة وليست مسألة عامة مترامية الأطراف.
5) يجب أن تكون هذه الواقعة متنازعاً على وجودها أو صحتها أو حقيقتها وليس واقعة يتفق عليها المتخاصمون، وهذه الصفة تتحقق عند تحديد نقاط الاتفاق والاختلاف في لائحة الدعوى واللائحة الجوابية بأن تكون الواقعة نقطة خلاف بين المتخاصمين، فتصبح بذلك محلاً للإثبات، فالمتفق عليه بين الخصوم لا يجري تناوله في البينات لعبثيته .
6) عبء إثبات الواقعة يقع على عاتق مدعيها وليس منكرها، أي على الدائن الذي أنشأت له الواقعة حقاً في مواجهة خصمه.
وبالنسبة لنا في سلك القضاء فإن هناك مجموعة من المبادئ تحكم عملنا عند النظر في الدعاوى المدنية والتجارية على حدٍّ سواء لا تتأثر بمبدأ حرية الإثبات في المواد التجارية، ومن هذه المبادئ:
1) حياد القاضي وإتاحته الفرصة لأطراف الدعوى لإبداء وتقديم بيناتهم.
2) الموقف السلبي للقاضي من البينات التي تقدَّم له، فالقاضي لا يبحث بنفسه عن الأدلة ولا يطلبها من الخصوم إلا في حالات حدّدها القانون كحالة إلزام المحكمة للخصوم بتقديم بينات تحت يدهم بعد طلبها من الخصم.
3) حرية القاضي المحدودة في تكوين قناعته في المواد المدنية والتجارية على خلاف الشقّ الجزائي الذي يتمتع فيه القاضي بحرية كبيرة في تكوين قناعته، بطريقة أخرى فإن حرية الإثبات في المواد التجارية لا تعني حرية القاضي في تكوين قناعته أو بناء حُكمه، فهو مقيّد بمجريات الدعوى وبيناتها، وهو بكل الأحوال لا يحكم بناءً على علمه الشخصي.
4) تمكين الخصوم من تقديم البينات في حدود القانون ومناقشتها وعدم إجازة اصطناع الخصوم لأدلة لأنفسهم تخدم مصالحهم، ويُستثنى من ذلك في المواد التجارية دفاتر التُجّار التي يدونونها بأيديهم وتصلح كبينة لهم على خصومهم من التجّار، كما ورد بنص المادة 23 من قانون البينات والتي جاء فيها ( يجوز أن تكون دفاتر التجّار حجة لصاحبها في المعاملات المختصة بتجارته إذا كانت منتظمة وكان الخلاف بينه وبين تاجر )، وهذا مثال واضح على حرية الإثبات التجاري والتحلل من قيود الإثبات المدني.
وبالانتقال إلى الموضوع الثاني وهو حجية المعاملات الإلكترونية في الإثبات، نذكر أن هذه المعاملات قد بدأت عام 1969 أي منذ أكثر من 44 عاماً عندما قام بنك فرنسا ببناء أول نظام إلكتروني للتعاملات المالية عبر جهاز الحاسوب، وسِمَهُ القانون أنه يظهر عند ظهور كل مستحدث بحاجة إلى تنظيم تشريعي يضبط العلاقة بين أطراف التعامل الجديد، فمن ذلك الوقت بدأت التشريعات الناظمة للمعاملات الإلكترونية بالظهور في الدول تباعاً.
وبدخول وانتشار الحواسيب وشبكة الإنترنت والمعاملات الإلكترونية إلى فلسطين خصوصاً في العقد الأخير، ظهرت الحاجة إلى قانون ينظّم هذه المعاملات والحقوق الناشئة عنها والمسائل الفرعية المرتبطة بها كالتوقيع الإلكتروني وإبرام العقود الإلكترونية والتحكم بالحسابات البنكية من العملاء عبر الإنترنت والدفع الإلكتروني بواسطة بطاقات الإنترنت والدفع الإلكتروني بواسطة بطاقات الإنترنت وغير ذلك الكثير، لكن للأسف حالت ظروف الاحتلال واجتياح الأراضي الفلسطينية من ناحية، والخلافات الداخلية الفلسطينية وتعطّل العملية التشريعية من ناحية أخرى دون إقرار العديد من القوانين الفلسطينية، ومنها قانون المعاملات الإلكترونية، لذلك نحن في القضاء نتعامل مع مسائل المعاملات الإلكترونية وفق مواد القانون الموجودة حالياً، وهي وفق ما رأيت مادتان هزيلتان لا تقدّمان الكثير من الحلول أو الأجوبة حول حجية هذه المعاملات في الإثبات.
المادة الأولى رقم 19 فقرة 2 من قانون البينات وتنصّ ” تكون للبرقيات والتلكس والفاكس والبريد الإلكتروني حجية الرسائل الموقع عليها إذا كان أصلها المودع في مكتب التصدير موقعاً عليه من مرسلها، وتعتبر البرقيات مطابقة لأصلها حتى يقوم الدليل على عكس ذلك “.
المادة الثانية رقم 27 من قانون البينات، ” تسري أحكام السندات غير الموقع عليها على وثائق نظام الحاسب الآلي “، فبالنسبة للمادة الأولى فإن المشرّع اعتبر المعاملات الإلكترونية المذكورة حجة على صاحبها ” المرسل ” ما لم يثبت عكس ذلك، لذلك يمكن أن تُستخدَم في معرض البينة أمام القضاء إلا أن كل ذلك مقيّد بوجود الأصل الموقَّع عليه في مكتب تصدير هذه المعاملة، وهذا يطرح عدة أسئلة : أليس معظم المتعاملين بالفاكس والبريد الإلكتروني يملكون أجهزتهم الشخصية ولا يتوجهون إلى مكاتب تصدير هذه المعاملات ؟؟ سؤال آخر : هل تعتبر كلمة السر للبريد الإلكتروني توقيعاً إلكترونياً أم لا ؟؟.
أو ليس من السهل اختراق هذه الوسائل الإلكترونية التي تُستخدَم في إرسال المعاملات وتبادلها.
إنه من المتعذر على القضاء الفلسطيني الإجابة على مثل هذه الأسئلة في ظل عدم وجود قانون فلسطيني يحكم المعاملات الإلكترونية وينظمها، وإن كان على قضائنا واجب الاجتهاد و إيجاد حلول للقضايا المعروضة عليه من هذا النوع فإننا سنجد تناقضات كبيرة بين أحكام محاكمنا، وهذا يحول دون استقرار هذه المعاملات بكل الأحوال.
أما بالنسبة للمادة الثانية موضوع بحثنا فهي تُعتبَر وثائق الحاسب الآلي للتجّار كدفاترهم التجارية، لافرق إن كانت على الحاسوب أو مكتوبة على الورق، وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً …. في الدفاتر التجارية الورقية أي كشط أو تغيير قد يُخلّ بقيمة دفتر التاجر في الإثبات، لكن أليس من السهل تغيير محتويات الدفتر الإلكتروني للتاجر بكبسة زر دون إمكانية التحقق من ذلك أو ملاحظته ؟ هذه المادة أيضاً تعامل وثائق الحاسوب المنزلي كالأوراق المنزلية غير الموقع عليها، أي أنها ليست حجة على صاحبها إلا إذا ذُكِرت صراحة استيفاءً لدين، وهنا يُطرح ذات السؤال السابق.
بكل الأحوال هناك الكثير من الأسئلة بحاجة إلى إجابات من المشّرع الفلسطيني حتى يتمكّن القضاء من الفصل في منازعات المعاملات الإلكترونية بأسلوب علمي منهجي يحقق استقراراً في تعاملات الفلسطينيين الإلكترونية، ويجب التيقّظ أن الحاجة لمثل هذا التشريع في ازدياد يوماً بعد يوم.
آملين من مشرّعنا الفلسطيني الاستفادة من خبرات أشقائنا في الأردن مثلاً بخصوص قانون المعاملات الإلكترونية رقم 85 لسنة 2001 الغني بكثير من المواضيع، وإلى ذلك الحين فأنا لا أُحبِّذ تداول التعاملات الإلكترونية لعدم وجود حماية قانونية حقيقية لها وتهديد الحقوق الثابتة فيها.
القـاضـــــــــــي محــــــمود جــــاموس
الأميـن العام لمجلس القضاء الأعلى
تحريراً في 3/7/2013
اترك تعليقاً