المحكمة الاتحادية العليا ومبدأ علو الدستور – المحامي زهير ضياء الدين
من المفيد وفي بداية تصدينا لهذا الموضوع أن نقدم نبذة مختصرة عن قانون المحكمة الإتحادية العليا حيث صدر هذا القانون برقم (30) لسنة 2005 استناداً الى المادة الرابعة والأربعين من قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية و حددت تلك المادة تشكيلات واختصاصات المحكمة. وبعد صدور ونفاذ دستور جمهورية العراق لسنة/ 2005 تضمنت المواد (94،93،92) أسس تشكيل المحكمة الإتحادية العليا واختصاصات ونفاذية قراراتها وهي تقترب كثيراً في مضامينها من النصوص المناظرة لها ضمن المادة الرابعة والأربعين من قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية.
ـ وقد استمرت المحكمة بممارسة مهامها بموجب تشكيلها الأول المنصوص عليه في قانون أدارة الدولة وهي تعمل على تنفيذ المهام الموكلة أليها بموجب دستور جمهورية العراق وقانونها المرقم (30) لسنة 2005.
ـ ومن خلال استعراضنا للنصوص الواردة في دستور جمهورية العراق ذات الصلة بموضوع مبدأ علو الدستور نجد الآتي: نصت المادة (13/ أولا) من الدستور على (يعد هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق ويكون ملزماً في أنحائه كافة وبدون استثناء) كما نصت المادة (13/ ثانياً) منه على (لا يجوز سن قانون يتعارض مع أحكام هذا الدستور ويعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو اي نص قانوني آخر يتعارض معه).
– وعرفت المادة (92/ أولا) من الدستور المحكمة الإتحادية العليا بانها هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً في حين تضمنت المادة (93/ أولا) من الدستور وضمن اختصاصات المحكمة الإتحادية العليا (الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة).
وبذلك يصبح جلياً الترابط والتكامل بين الفقرتين (أولاً و ثانياً) من المادة (13) من الدستور حيث تنص الأولى على مبدأ علو الدستور وتنص الثانية على بطلان أي نص قانوني يتعارض معه وبين مهمة تطبيق مبدأ علو الدستور التي أوكلت للمحكمة الإتحادية العليا بموجب المادة (93/ اولاً) من الدستور وذلك من خلال الرقابة على دستورية القوانين.
– وللمزيد من الفائدة والاحاطة بالموضوع سنتناول بشيء من الإيجاز مبدأ علو الدستور في الفقه الدستوري.
فعلو الدستور يعني أن القواعد والمبادئ التي يتضمنها الدستور تحتل المركز الأول والأعلى بين القوانين وبالتالي فلايجوز للسلطة السياسية أن تصدر أي قانون او قرار يخالف تلك القواعد والمبادئ لذلك فان الدستور يعلو على السلطة وعلى قوانينها.
– والسؤال الذي يتبادر هنا ياترى ماهو مصدر هذه القوة التي تتجسد في علو الدستور؟ وقد اختلف الفقهاء في ذلك حيث اعتبر البعض أن الدستور هو الذي خلق الدولة أمثال (هوبز، لوك، روسو) باعتبار العقد الإجتماعي هو الذي يخلق الدولة والدستور هو تجسيد للعقد الإجتماعي فهو بالتالي من خلق الدولة وهو يستمد علوه من هنا. ويسير برودو في نفس الإتجاه في تحديد الأساس القانوني لعلو الدستور فيعتبر أن الدستور سحب السلطة من مالكيها القدامى (الأفراد) واعطائها الى كيان مجرد هو (الدولة) وأصبح الأفراد الذين يمارسون السلطة وكلاء عن صاحب السلطة الجديد ويوجه النقد لهذه الفكرة التي يصعب التسليم بها لأنها تستوجب لأجل التسليم بها أن توجد لنا المصدر الذي يستمد منه الدستور علوه القانوني اولاً. وأن يكون هنالك سبق للدستور في الوجود على جميع القوانين ثانياً.
– وهنالك إتجاه ثان يتمثل ببناء أساس سياسي لعلو الدستور ويميز هذا الإتجاه في الرأي بين القابضين على السلطة (مالكيها) وبين من يمارسونها (الحكام).*
كانت السلطة في أوربا وحتى القرن السادس عشر تعود للملوك الذين يورثونها لأبنائهم من بعدهم وتجسد مقولة الملك الفرنسي القوي لويس السادس عشر هذا عندما قال (أنا الدولة والدولة أنا). وقد تجسد هذا المبدأ في العراق أيضاً مروراً بالحكم الوطني الملكي والحكم الجمهوري وحتى سقوط النظام عام/ 2003 حيث انفرد الحكام في السلطة في ظل دساتير شكلية ضمنت لهم ذلك بحيث انعدم التمييز بين من يملك السلطة ومن يمارسها.
– مما ورد أنفاً يتضح أن مبدأ علو الدستور يتحقق عندما نصل الى حالة الفصل بين من يمتلك السلطة (يقبض عليها) ومن يمارسها (الحكام) حيث يتحقق هذا المبدأ (مبدأ العلو) في مجتمع سياسي يتحقق فيه هذا التمييز فيصبح للدستور علو على الحكام كونه يمثل أوامر تصدر من القابضين الى الحكام وفي المجتمعات الديمقراطية التي صوتت على دساتيرها تعتبر هي من يقبض على السلطة وتمتلكها من خلال قدرتها على تغيير الحكام عبر صناديق الاقتراع.
– وتعتبر الرقابة القضائية على دستورية القوانين هي وسيلة لغاية سياسية و أول من مارسها المحكمة الإتحادية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية وهي الجهة المكلفة بالنظر في دستورية القوانين وعلى يد كبير قضاتها مارشال في عام/ 1803 وتجسد ذلك في القرارات التي أصدرتها هذه المحكمة بعدم دستورية عدد من القوانين التي شرعت لحماية الطبقة العاملة كتحديد ساعات العمل وتحديد الحد الأدنى للأجور والتي لاتنسجم مع رغبة القابضين على السلطة.
– أما في العراق فأن المحكمة العليا التي تم تأسيسها بموجب دستور عام/1925 وفي عام/1941 تحديداً فقضت بزيادة صلاحيات ملك العراق المنصوص عليها في الدستور بشكل كبير رغم وجود نص في الدستور يمنع أجراء أي تعديل عليه و بررت ذلك بأن زيادة صلاحيات الملك لا تعتبر تعديلاً طالما أنها لم تنتقص من صلاحياته المنصوص عليها في الدستور، وهكذا وكما أسلفنا فأن دور المحكمة الإتحادية لم يكن حقيقياً لأن من يمارس السلطة هو نفسه من يقبض عليها وهم الحكام.
– أما بعد سقوط النظام في عام/ 2003 وتأسيس المحكمة الإتحادية العليا كما بينا سابقاً فقد مارست دورها الحقيقي المنصوص عليه في الدستور وفي قانونها وسنتطرق الى بعض القرارات المهمة الصادرة عنها والمستندة الى مبدأ علو الدستور.
– ادعت جبهة التوافق في الدعوى 15/ ت/ 2006 المقامة ضد رئيس مجلس النواب إضافة لوظيفته أن مجلس النواب أصدر قانون الإنتخابات رقم (16) لسنة 2005 الذي حل بديلاً لقانون الإنتخابات السابق رقم (96) لسنة 2004 وقد جاء في المادة (15/ ثانياً) في القانون الجديد بان تكون كل محافظة وفقاً للحدود الإدارية الرسمية دائرة انتخابية تختص بعدد من المقاعد يتناسب مع عدد الناخبين المسجلين في المحافظة حسب انتخابات (30/ كانون الثاني – 2005) المعتمد على نظام البطاقة التموينية أي أن القانون اعتمد معيارعدد الناخبين المسجلين في حين أن دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وفي المادة (49/ ثانياً) منه نص على أن يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة (1) لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق أي أن الدستور اعتمد معيار عدد النفوس الكلي لذا يكون نص المادة (15/ ثانياً) من قانون الإنتخابات رقم (16) لسنة 2005 مخالفاً لنص صريح في الدستور في المادة (49/ ثانياً) منه اضافة لما يترتب على هذه المخالفة الدستورية من ضرر وحيف في عدد من المحافظات (نينوى، صلاح الدين، ديالى، بابل) لأنها تفقد عددا من المقاعد هي من استحقاقها في حالة اعتماد المعيار الوارد في الدستور لذا تم الطعن بدستورية تلك المادة. وبعد السير بالدعوى أصدرت المحكمة الإتحادية القرار المرقم 15/ ت/ 2006 في 26/ 4/ 2007 نص على (عدم دستورية المادة (15/ ثانياً) من قانون الإنتخابات رقم (16) لسنة 2005 لتعارضها مع أحكام المادة (49/ اولاً) من الدستور وأعطى للسلطة التشريعية تشريع نص جديد يكون موافقاً لأحكام المادة (49/ اولاً) من الدستور.
وكان من بين الأسانيد التي استند اليها قرار المحكمة الإتحادية والتي تضمنها في قرار الحكم :-
– نص المادة (13/ ثانياً) من الدستور التي نصت على (لا يجوز سن قانون يتعارض معه هذا الدستور ويعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو أي نص قانوني أخر يتعارض معه).
– ونص المادة (13/ اولاً) وهو (يعد هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق ويكون ملزماً في أنحائه كافة وبدون استثناء).
– كما أن رئيس الطائفة المندائية أقام دعوى أمام المحكمة الإتحادية العليا ضد رئيس مجلس النواب اضافة لوظيفته من خلال موكله طعن بموجبها بعدم دستورية الفقرة (ج) من المادة (1) من القانون رقم (26 لسنة 2009) (قانون تعديل قانون الإنتخابات رقم (16 لسنة 2005) من خلال تحديدها الحصة (الكوتا) للمكون الذي يمثله على مستوى محافظة بغداد فقط وبالتالي حرم أبناء الطائفة المنتشرين في عموم محافظات العراق من المشاركة في التصويت لانتخاب ممثليهم في مجلس النواب على خلاف المكون المسيحي الذي نص (البند/ خامساً) من المادة المذكورة على ان تكون المقاعد المخصصة لهم ضمن دائرة انتخابية واحدة).
– وقد أصدرت المحكمة الإتحادية العليا قرارها في هذه الدعوى المرقمة 7/ اتحادية/ 2010 وبتاريخ 3/ 3/ 2010 قررت بموجبه عدم دستورية الفقرة (ج) من البند ثالثاً من المادة الأولى من القانون رقم (26/ لسنة 2009) قانون تعديل قانون الإنتخابات رقم (16 لسنة 2005) لتعارضها مع المادة (14) و (20) من الدستور باعتبار المقاعد المخصصة من الكوتا للمكون الصابئي المندائي ضمن دائرة انتخابية واحدة واستندت المحكمة في اصدارها لهذا القرار على النصوص الواردة في المادة 13/ أولاً وثانياً من دستور جمهورية العراق التي اشرنا اليها في مطلع موضوعنا هذا وهي على التوالي (يعد هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق ويكون ملزماً في أنحائه كافة وبدون استثناء) و (لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور ويعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الأقاليم او أي نص قانوني آخر يتعارض معه).
– و تبشر هذه القرارات الصادرة عن المحكمة الإتحادية العليا بالخير من خلال تمسكها بالنصوص الدستورية والغاء النصوص التي ترد في القوانين و تتعارض مع الاحكام الدستورية تطبيقاً لمبدأ علو الدستور ونأمل ان تتطور قرارات المحكمة الإتحادية العليا بحيث تصل الى مرحلة تطبيق روح الدستور وليس نصوصه فقط.
* المفهوم السياسي لعلو الدستور للدكتور فائز عزيز اسعد
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً