“دور واختصاص مجلس القضاء الاعلى في ترشيح رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا وفقاً لاحكام الدستور والقانون” / الحلقة الاولى
القاضي كاظم عباس
من نافلة القول بأن نية المشرع عند تبنيه أي نص دستوري أو قانوني يتعلق بالشأن القضائي يكون هدفه وغايته ترسيخ مبدأ استقلال القضاء استقلالاً تاماً وتعزيز الحماية له من تدخلات السلطتين التشريعية أو التنفيذية وذلك لضمان سيادة حكم القانون وديمومته للوصول إلى الهدف المنشود بتحقيق العدالة ولا يتم ذلك إلا من خلال قضاء رصين يجب أن يتمتع أشخاصه بالنزاهة والكفاءة العالية والشجاعة والحيادية بعيدين كل البعد عن كل ما يخدش كرامة القضاء وحتمية توافر هذه المزايا في القاضي ركن أساسي يدخل في تكوين وجوده القضائي وليس صفة عارضه به ولان مسؤولية القاضي جسيمة كونه يتولى الفصل في المنازعات والخصومات التي تعرض على المحاكم بكافة أنواعها ودرجاتها وسواء انعقدت المحكمة من قاض منفرد أو من هيئة قضائية تشكل من عدة قضاة .
ولأهمية الدور الذي يتصدى له القضاء وللمنزلة المرموقة للقاضي في ضمير الأمة وضعت جميع الدول والانظمة قديماً وحديثاً شروطاً دقيقة في اختيار شخص من يتولى القضاء نصت عليها تشريعاتها الوطنية ولان أي إنسان مهما كان لديه من المؤهلات الفطرية أو المكتسبة لا يمكن له أن يعمل بصورة تلقائية قاضياً اذ لا بد من منحه هذه الصفة من الدولة .
وقد اختلفت الدول في طرق اختيار القضاة إلا أن أهمها وأكثرها شيوعاً هي التعين من قبل السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الدولة أو الانتخاب من قبل الشعب باعتباره مصدراً للسلطات .
ولسنا هنا في معرض الحديث بتعداد ايجابيات أو سلبيات هذين النظامين بقدر ما يهمنا موضوع ترشيح وتعين القضاة في المحاكم العراقية ودور مجلس القضاء الأعلى بذلك وفقاً لإحكام الدستور والقانون وبالذات قضاة المحكمة الاتحادية العليا .
دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وفي نص المادة 89 نص على علوية لمجلس القضاء الأعلى على المحكمة الاتحادية العليا وباقي مكونات السلطة القضائية ووفقاً لهذه الاهمية والعلوية فأن المشرع الدستوري قد منح في المادة 90 من الدستور لمجلس القضاء الأعلى إدارة شؤون الهيئات القضائية والتي جاء فيها (يتولى مجلس القضاء الأعلى إدارة شؤون الهيئات القضائية في العراق وينظم القانون طريقة تكوينه واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه) ومن صراحة هذا النص فان أي هيئة قضائية يكون مجلس القضاء الأعلى هو المرجعية لها من حيث إدارة شؤونها ويأتي في مقدمة هذه الشؤون رفدها بالقضاة من العاملين في المحاكم العراقية التابعة لمجلس القضاء الأعلى عند صدور اي قانون ينص على تشكيل تلك الهيئة القضائية أو اقتضت الضرورة ذلك .
ولا يغير من الامر شيئاً سواء كانت تلك الهيئة القضائية من داخل مكونات مجلس القضاء الأعلى كمحكمة التمييز الاتحادية أو محكمة الاستئناف ام كانت من خارج مكونات مجلس القضاء الأعلى كالمحكمة الاتحادية العليا مادمت من الناحية الدستورية تقع تحت مظلة السلطة القضائية والتي أعتبر الدستور فيها مجلس القضاء الأعلى أعلى مؤسسة قضائية لهذه السلطة والتي نص عليها الفصل الثالث من الدستور لاعتبارها من مكونات السلطة القضائية أي المحكمة الاتحادية العليا .
ومن خلال نص المادة 92/اولاً من الدستور والتي جاء فيها (المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً) فان هذه المحكمة هي هيئة قضائية يشملها ما يشمل باقي الهيئات القضائية الأخرى من حيث وجوب تكوينها من قضاة عاملين ومستمرين في الخدمة القضائية في محاكم مجلس القضاء الأعلى وان منحها ميزة الاستقلال المالي والإداري دستورياً لا يخرج أعضائها من الصفة القضائية التي اكتسبوها ليس بتعيينهم أعضاء في المحكمة الاتحادية العليا بل باعتبارهم قضاة في مجلس القضاء الأعلى ابتداءاً وعملوا في المحاكم التابعة له حتى وصلوا إلى عضوية المحكمة الاتحادية العليا والقول خلاف ذلك واكتسابهم الصفة القضائية من خلال عضوية المحكمة الاتحادية العليا فقط فهذا القول خطير جداً وخرقاً للدستور ولا يمكن قبوله وتجاوز على السلطة القضائية برمتها لانه يفتح الباب بخطيئة وخطأ اعتبار الخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون عند تعينهم في المحكمة الاتحادية العليا وفقاً لما نصت عليه المادة 92/ثانياً من الدستور (قضاةً) وهذا تناقض واضح مع النص الدستوري أعلاه الذي نص صراحةً على ان المحكمة الاتحادية العليا تتكون من (قضاة , وخبراء , وفقهاء) .
أن المرجعية الوحيدة لقضاة المحكمة الاتحادية العليا هو مجلس القضاء الأعلى وهو المختص حالياً بترشيح القضاة لعضوية هذه المحكمة استناداً للمادة 3 من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 والتي جاء فيها (تتكون المحكمة الاتحادية العليا من رئيس وثمانية أعضاء يجري تعينهم من مجلس الرئاسة بناءً على ترشيح مجلس القضاء الأعلى بالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم) لذا لا يمكن لأي جهة غير مجلس القضاء الأعلى المشكل بموجب القانون رقم 45 لسنة 2017 القيام بترشيح أعضاء المحكمة الاتحادية العليا وان حصل ذلك فتعتبر تلك العضوية غير قانونية وجميع القرارات التي يشترك فيها ذلك العضو غير المرشح من مجلس القضاء الأعلى معدومة ولا اثر لها ولا تلحقها أي حصانة ولا ينال من الاختصاص الحصري لمجلس القضاء الاعلى بترشيح رئيس واعضاء المحكمة الاتحادية العليا بموجب المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية العليا النافذ رقم 30 لسنة 2005 نقض هذه الصلاحية التي تم ايرادها في قانون مجلس القضاء الاعلى رقم 45 لسنة 2017 لان هذه الفقرة بالقانون طعن بها من قبل مجلس القضاء الاعلى وذلك لوجود هذه الصلاحية له ابتداءً في المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية العليا النافذ وذلك منعاً للتكرار في هذه الصلاحية وبغية ايراد هذه الصلاحية لمجلس القضاء الاعلى وفق مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا الذي من المفترض اقراره من قبل مجلس النواب قريباً .
لاسيما وان رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي مدحت المحمود في كتابه الموسوم (القضاء في العراق) الطبعة الرابعة سنة 2015 قد ذهب إلى أن مجلس القضاء الأعلى هو المختص بترشيح قضاة المحكمة الاتحادية العليا وجاء في الصفحة 83 ما نصه ننقله حرفياً (تتكون المحكمة الاتحادية العليا من تسعة أعضاء ويقوم مجلس القضاء الأعلى أولاً بالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم بترشيح ما لا يقل عن ثمانية عشر إلى سبعة وعشرين قاضياً لغرض ملئ الشواغر في المحكمة المذكورة ويقوم بالطريقة نفسها فيما بعد بترشيح ثلاثة أعضاء لكل شاغر لاحق يحصل بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العزل ويقوم (مجلس الرئاسة) سابقاً ورئاسة الجمهورية بعد انتهاء دور (مجلس الرئاسة) بتعيين أعضاء هذه المحكمة وتسمية احدهم رئيساً لها وفي حالة رفض أي تعيين يرشح مجلس القضاء الأعلى مجموعة جديدة) .
اما بخصوص مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا والذي ننتظر إقراره فأن المادة 92/اولاً من الدستور قد نصت على طبيعة تشكيلة المحكمة وتكوينها بقولها(تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب) .
ومن خلال هذا النص فأنه لم يحدد طريقة اختيار أعضاء المحكمة أو عددهم وعمل المحكمة وترك ذلك إلى القانون ومن البديهي والمفترض وجوب أن تكون نصوص هذا القانون متوافقة مع أحكام الدستور نصاً وروحاً وذلك من خلال المحافظة على مبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في المادة (47) من الدستور عند ترشيح أعضاء هذه المحكمة (قضاة وخبراء وفقهاء) .
فأما بخصوص خبراء الفقه الإسلامي فأن دواوين الأوقاف الإسلامية هي الجهة المختصة بترشيحهم لأنها الأكثر دراية بما عليه الخبير في الفقه الإسلامي من حيث الكفاءة والإلمام بجميع آراء فقهاء الشريعة الإسلامية . وكذلك فقهاء القانون فأن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي هي الجهة المختصة بترشيح هؤلاء الفقهاء لأنها الجهة المسؤولة عنهم ولديها المعلومات الكافية عن كل فقيه قانوني وخطه البياني أثناء عمله في الجامعات العراقية وما أنتجه من عطاء قانوني فكري خلال سنين حياته التي قضاها بين اسوار الجامعة وهذا ما نص عليه مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا .
وبهذه الطريقة فقط نضمن احترام وتطبيق مبدأ الفصل ما بين السلطات الثلاث المنصوص عليه في الدستور اذ لا يجوز للمحكمة الاتحادية العليا الحالية أو مجلس القضاء الأعلى التدخل بترشيح خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون ويجب احترام إرادة مرجعياتهم عند ترشيحهم والقول بخلاف ذلك يعتبر مساس خطير بمبدأ الفصل بين السلطات الذي نص عليه الدستور .
اما بخصوص ترشيح اعضاء المحكمة الاتحادية العليا من القضاة فأن اهل مكة ادرى بشعابها فمجلس القضاء الاعلى هو الجهة الوحيدة الذي يحق له ترشيح القضاة لأي هيئة قضائية يتم تشكيلها وفقاً لإحكام الدستور والقانون ومنها المحكمة الاتحادية يجب أن يتم رفدها بالكادر القضائي من قبل القضاة العاملين في المحاكم التابعة لمجلس القضاء الأعلى وبالتشاور مع المجالس القضائية في الاقاليم وبترشيح حصري منه ولا علاقة للسلطة التنفيذية أو التشريعية بترشيح قضاة المحكمة الاتحادية العليا والقول بخلاف ذلك وزج السلطتين التشريعية والتنفيذية بهذا الترشيح يعتبر مخالفة دستورية صريحة لنص المادة (47) والتي نصت على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث وتبني هذه الطريقة في الترشيح تؤدي الى عواقب خطيرة ووخيمة وذلك بوقوع القضاة وخضوع قراراتهم الى اهواء الجهات التي رشحتهم من السلطتين الترشيعية والتنفيذية كما يؤثر العامل السياسي والحزبي بترشيح قاضياً دون غيره لعضوية هذه المحكمة وما ينتج عن ذلك تجرد القضاة من الحياد والنزاهة والاستقلالية زد على ذلك ان السلطتين التنفيذية والتشريعية ليس لديها وبالمطلق المعرفة والالمام بكفاءة القضاة ومهنيتهم كما لا يمكن زج رئيس واعضاء المحكمة الاتحادية الحالية بموضوع ترشيح اعضاء المحكمة الاتحادية العليا من القضاة في مشروع قانونها الجديد وذلك لوجود مانع قانوني وواقعي يحول دون الاخذ بمثل هذا الفرض وهو المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 والتي اعطت الصلاحية الحصرية لمجلس القضاء بترشيح قضاة المحكمة الاتحادية العليا كما أن هذه المحكمة ليس لها أي كادر قضائي غير اعضائها التسعة وحتى قضاتها الاحتياط من قضاة في محكمة التمييز الاتحادية وان جميع بقية السادة القضاة يعملون في المحاكم التابعة لمجلس القضاء الأعلى , كما أن مخرجات أي هيئة قضائية في العراق هو نتاج طبيعي لترشيح مجلس القضاء الأعلى لقضاته لعضوية تلك الهيئة ومنها عضوية المحكمة الاتحادية العليا وعضوية محكمة التمييز الاتحادية لذا فان هذه المحكمة يُرشح لها بالعضوية ولا تُرشح العضوية الا اذا كان في ذهب البعض الاستعانة بتشريح قضاة بعضوية المحكمة الاتحادية العليا من خارج البلد رغم ان العراق يسخر بالكفاءات القضائية في مجلس القضاء الاعلى حصراً .
لذا فان الضرورة تحتم على حصر ترشيح اعضاء المحكمة الاتحادية العليا من القضاة في مجلس القضاء الاعلى وعلى المشرع الابقاء على الاتجاه الذي تبناه في المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية العليا الحالي رقم 30 لسنة 2005 . وذلك بالنص على أن مجلس القضاء الأعلى هو الجهة المختصة والحصرية بترشيح السادة القضاة لعضوية المحكمة الاتحادية العليا في قانونها الجديد كون مجلس القضاء الأعلى هو المرجعية المختصة عن أي قاضٍ في العراق فهو الاكثر دراية بسلوك وكفاءة القاضي لان المادة (36) من قانون التنظيم القضائي قد رسمت الية اختيار القضاة الجدد والتي لا تتم إلى اذا تم قبوله من قبل مجلس القضاء الأعلى في المعهد القضائي ومن ثم التخرج من هذا المعهد أو كان من المحامين أو الموظفين الحقوقيين وبناءً على اقتراح من رئيس مجلس القضاء الأعلى يتم تعينه قاضياً في المحاكم العراقية وذلك بصدور مرسوم جمهوري من رئاسة الجمهورية , وبعد مباشرته العمل القضائي في كافة المحاكم ودرجاتها تخضع هذه المسيرة القضائية للتقييم والمراجعة وبشكل دوري ودقيق من قبل مجلس القضاء الأعلى من حيث الكفاءة والسلوك والحيادية والشجاعة وذلك بالاعتماد على تقارير من هيئة الإشراف القضائي ورئاسة محكمة الاستئناف التي يعمل فيها القاضي كما أن محكمة التمييز الاتحادية باعتبارها اعلى هيئة قضائية في العراق استناداً للمادة (12) من قانون التنظيم القضائي ومن خلال نظرها للاحكام الصادرة من القضاة التي يتم الطعن بها امامها لديها الالمام الكافي والمعرفة والمعلومات الكافية عن كافة السادة القضاة من حيث الكفاءة العلمية والحرص والشجاعة والمهنية لذا فان مجلس القضاء الأعلى لديه المعرفة التفصيلية والخط البياني لكافة السادة القضاة نزولاً او صعوداً وهذا ما لا نجد له أي اثر لدى السلطات الاخرى او المحكمة الاتحادية العليا .
جُل ما نقوله فأن الدستور العراقي والقانون رقم 30 لسنة 2005 قد عقد الاختصاص الحصري لمجلس القضاء الاعلى بترشيح رئيس واعضاء المحكمة الاتحادية العليا ولتعزيز مبدأ الفصل بين السلطات وضمان استقلال القضاء يجب ان تبقى هذه الصلاحية الحصرية لمجلس القضاء الاعلى في مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا الجديد والذي نأمل ان نرى انواره التي تشع عدلاً بأقرب وقت ممكن وبخلاف ذلك فان أعطاء هذه الصلاحية لاي جهة اخرى يعتبر خرقاً واضحاً لاحكام الدستور .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً