مدى أثر الحصانة الدولية على الاختصاص العالمي
وفي سياق الحديث عن الاختصاص العالمي نلفت النظر إلى مسألة على قدر كبير من الأهمية، ألا وهي مدى أثر الحصانة الدولية المقررة للأجانب المقيمين في الأردن على الاختصاص العالمي؟ لم تتعرض المادة (10\4) لهذه المسألة، معتمدة ربما على المادة (11) قانون العقوبات، وعلى المادة (31) اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 والتي صادقت عليها الأردن في (29\7\1971). المتابع لهاتين المادتين يجد بأنهما جاءتا لمعالجة أثر الحصانة الدولية على الجرائم التي ترتكب من قبل الأجانب داخل الإقليم الأردني وليس خارجها. ما يؤيد ذلك العبارة الواردة في المادة (11) والقائلة: “… في الأردن…” والعبارة الواردة في المادة (31) والقائلة: “… في الدولة المعتمد لديها…”.
بالاعتماد على ذلك، يمكن القول: بأن هاتين المادتين لا تحلان تلك المسألة القانونية، وذلك لأن الاختصاص العالمي جاء لمعالجة الجرائم التي ترتكب خارج الأردن من قبل الأجانب المقيمين فيها، وليس للجرائم التي ترتكب في داخل الأردن.
على النقيض من ذلك هناك اتجاهات فقهية وتشريعية وقضائية تعرضت لهذه المسألة، جزء من هذه الاتجاهات نادى بعدم جواز تطبيق الاختصاص العالمي على الشخص المتمتع بالحصانة الدولية، حتى بعد زوال الحصانة عنه، تاركة هذا الأمر للمحكمة الجنائية الدولية التي لا تقيم سندا للمادتين: (27، 28) من النظام الأساسي اعتبارا للحصانة الدولية.
ما يؤيد ذلك نص المادة (25) من الدستور الاتحادي الألماني، والمادة (20\2) قانون السلطة القضائية الألماني، وموقف للقضاء الألماني الذي رفض التحقيق مع موظفين روانديين كانوا في زيارة رسمية إلى ألمانيا عن الجرائم التي ارتكبوها في رواندا عام 1994 على أساس الاختصاص العالمي، وذلك بسبب الحصانة الدولية التي يتمتعون بها.
ولا يختلف الأمر على الصعيد الفرنسي والبلجيكي، حيث تم رفض الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الأوروبية في تشرين الثاني عام 1998 لمحاكمة لوران كابيلا، رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية، أثناء زيارته لفرنسا وبلجيكا بحجة أنه متمتع بالحصانة الدولية. كذلك الأمر فقد قضت محكمة النقض الفرنسية بعدم اختصاصها بمحاكمة الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عن الحادث الذي استهدف الطائرة (دي-سي 10) الفرنسية التي انفجرت سنة 1989 فوق النيجر, على اعتبار أنه رئيس دولة في ذلك الوقت، وأنه لا يجوز لهيئة داخلية أن تحاكمه، وإلا فسيشكل ذلك مساسا بسيادة الدول.
جزء آخر من هذه الاتجاهات الدولية نادى بجواز تطبيق الاختصاص العالمي على الشخص المتمتع بالحصانة الدولية، ولكن بعد زوال هذه الحصانة عنه، شريطة أن تكون الأفعال التي ارتكبها أثناء حصانته غير رسمية، ولم تكن قد ارتكبت في حدود وظيفته، ما يؤيد ذلك موقف بريطانيا من قضية “بيونيشه”.
على النقيض من ذلك، هناك رأي فقهي يعتمد على الهدف من الاختصاص العالمي، ويرى بجواز تطبيق الاختصاص العالمي على الأجنبي المتمتع بالحصانة الدولية، وذلك أسوة ببعض التشريعات المقارنة،هذا من جهة، ولأن المحكمة الجنائية الدولية مزاجية في حالات، وغير قادرة على الملاحقة في حالات أخرى من جهة ثانية.
وبالنسبة لموقف التشريعات المقارنة من هذا الرأي، فيجد المتابع لبعض هذه التشريعات أن هناك قوانين لم تقم للحصانة اعتباراً، وتجيز ملاحقة الفاعل على أساس الاختصاص العالمي، ما يؤيد ذلك نص المادتين: (3، 5\3) من القانون البلجيكي الصادر في 16\7\1993 قبل تعديله عام 1999، والمتعلق بالمسؤولية الجنائية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني، وعن جرائم الإبادة الجماعية. تقضي هذه المادة بمعاقبة أي شخص يقوم بأي تجاوز أو يسمح أو يسهل أي عمل يؤدي إلى ذلك، أو أي شخص يقوم بصنع أو نقل آلة أو أداة، وكل شخص يهمل في اتخاذ التدابير الاحتياطية لمنع ارتكاب مثل هذه الجرائم، بغض النظر عن الحصانة الدولية التي يتمتع بها.
ولا يختلف الأمر على صعيد القانون المتعلق بالمسؤولية عن انتهاكات القواعد القانونية لأحكام القانون الدولي الإنساني البلجيكي الصادر في 10\2\1999، فتحت عنوان: موجبات العدالة، جاء هذا القانون قاضيا بأن أي مصلحة، أو ضرورة سياسية عسكرية، أو قومية لا تبرر مثل هذه الجرائم والانتهاكات الخطيرة، ومن ثم لا تمنع من الملاحقة القانونية .
أما بالنسبة لموقف المحكمة الجنائية الدولية من الجرائم الدولية الجسيمة فهو مزاجي وغير موضوعي ولا يضمن ملاحقة كل مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة المتمتعين بالحصانة الدولية. ما يؤيد ذلك نص المادتين: (26و 98\1و2) من النظام الأساسي واللتين تشترطان لجواز الملاحقة إتمام الفاعل الثامنة عشر من العمر، وقبول تسليمه من الدولة المتواجد بها، وموافقة الدولة التابع لها بجنسيته والمتمتع بحصانتها على أمر الملاحقة. فإذا لم تحصل المحكمة الجنائية الدولية على هذه الموافقات فلا يجوز لها الملاحقة.
ما يؤيد ذلك، أيضا، اتفاقيات الإفلات من العقاب التي تسعى أمريكا إلى إبرامها مع حكومات العديد من الدول ومنها الأردن في الاتفاقية رقم (1) لسنة 2006، والتي تطلب بموجبها عدم تسليم أو نقل مواطنيها المتهمين بارتكاب الجرائم الدولية الجسيمة إلى المحكمة الجنائية الدولية، حتى ولو طلبت المحكمة منهم هذا الأمر. وممّا يزيد من وطأة هذا الأمر أن هذه الاتفاقيات لا توجب على أمريكا ولا تعطي الدول الأخرى المعنية حق إجراء تحقيق ومقاضاة الفاعلين الأمريكيين، حتى ولو توافرت أدلة كافية ضدهم.
ما يؤيد ذلك، أيضا، الصلاحيات التي يعطيها النظام الأساسي لمجلس الأمن، وعدم موضوعية هذا الأخير في التعامل مع الجرائم الدولية الجسيمة، فالمطالع للمادتين :(13\ب، 16) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يجد بأن هذه المادة تجيز لمجلس الأمن مطالبة المحكمة الجنائية الدولية ضمن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وقف التحقيق الجاري من قبل المحكمة الجنائية الدولية، أو إرجائه لمدة اثنى عشر شهرا قابلة للتجديد دون بيان مبررات مقنعة وسقف محدد له، وهذا الحق قد يُساء استخدامه من قبل مجلس الأمن، فإذا قامت المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة بعض المتمتعين بالحصانة الدولية، فقد يقوم مجلس الأمن، لاعتبارات خاصة غير موضوعية، بوقف التحقيق أو إرجائه .
ما يؤيد ذلك، أيضا، أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بنظر بعض الجرائم الدولية الجسيمة، مقيد موضوعياً وزمنياً وإجرائيا. فمن الناحية الموضوعية، يجد المتابع للنظام الأساسي بأنه لم يعرّف جرائم العدوان عندما أُنشئ في عام 1998، ولم يضع لها قواعد قانونية ضابطة لها، رغم تجريمه لها إلا في المؤتمر الاستعراضي المعقود في أوغندا عام 2010، وهذا يعني بأن المحكمة الجنائية الدولة لم تكن قادرة على ملاحقة جرائم العدوان الواقعة بين عامي 1998 و 2010، وذلك انطلاقا من المبدأ القانوني القائل: بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص يبين أركان وعناصر الجريمة. وحتى في عام 2010، أي بعد تعريف جرائم العدوان، فالمتابع للمؤتمر الاستعراضي يجد بأنه منع المحكمة الجنائية الدولية من حق ملاحقة هذا النوع من الجرائم لعام 2017.
أما من الناحية الزمنية والإجرائية فبقراءة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية وجدنا بأن هذا النظام لا يجيز للمحكمة الجنائية الدولية ملاحقة الجرائم الدولية السابقة على نفاذ هذا النظام، على الرغم من أن النظام الأساسي هو كاشف عن الجرائم الدولية، وليس منشئا. كذلك الأمر لا يجيز النظام الأساسي للمحكمة الجنائية ملاحقة الجرائم الدولية الجسيمة من تلقاء نفسها، إلا بناء على إحالة من قبل جهات محددة على سبيل الحصر في النظام الأساسي، وهي الدول الأطراف، ومدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، ومجلس الأمن، الذي أثبت الواقع العملي عدم موضوعيته في التعامل مع كثير من الجرائم الدولية، ما يؤيد ذلك (11 إلى 14 و121 إلى 124) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وعلى الرغم من أن الرأي الثاني، والذي لا يقيم للحصانة اعتباراً، ويجيز للدول ملاحقة الجرائم الدولية الجسيمة على أساس الاختصاص العالمي، يتفق مع منهج بعض التشريعات المتقدمة، ويضمن ملاحقة هذا النوع من الجرائم، ويحد من عدم موضوعية المحكمة الجنائية الدولية، إلا إنه، وانطلاقا من الوضع الاقتصادي للأردن، ولحفظ علاقاتها السياسية مع كثير من الدول، نميل إلى الرأي الأول والذي يقيم للحصانة اعتباراً، ويمنع ملاحقة الأشخاص المتمتعين بالحصانة الدولية على أساس الاختصاص العالمي، خصوصا إذا علمنا بان الرأي الثاني، والذي لا يقيم للحصانة اعتباراً بالنسبة لتطبيق الاختصاص العالمي، جاء من فقه قانوني لدول متقدمة اقتصادياً وسياسياً.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً