حتمية العقاب في العدالة الجنائية
القاضي ناصر عمران
“انهض الآن، في هذه الدقيقة، وقف عند تقاطع الطرق، وانحنِ، قبّل الأرض التي دنستها، ومن ثم انحن للعالم كله على أطرافك الأربعة، وقل بصوت عالٍ للجميع: لقد قتلت!”.
فيودور دوستفسكي / الجريمة والعقاب.
ثمة تركيبة نفسية صادمة وحالمة في الوقت نفسه قدمها (دوستفسكي) في الحدث / الجريمة ليجر بعد ذلك العقاب الى الظهور كردة فعل نمطية وان اخذ في احداثه الروائية شكلا جديدا ومتقلبا للحدث السردي منتهياً بالاعتراف والعقاب وهو مدخل يعكس رؤية ادبية اجتماعية سبقت في نظرتها الرؤية التشريعية العقابية للجريمة والمجرم. فالعقوبة هي الجزاء الأساسي الذي نص عليه القانون وقدره للجريمة ولا يمكن تنفيذ العقوبة الا بعد ان تستكمل إجراءاتها والمتمثلة بتقديرها من قبل القاضي بقرار الحكم بعد إدانة وتجريم المتهم.
ان فلسفة العقوبة لا تتوقف عند “الردع الخاص” (عقاب المجرم)، ولكنها تمتد إلى “الردع العام” فالجريمة سلوك /فعل احدث تغييرا اجتماعياً هذا التغيير انتهك منظومة اجتماعية قيمية قائمة على تنظيم عرفي وتشريعي وهذا الفعل المدان والمجرم لابد له من رد فعل قانوني واجتماعي، ومن هنا يأتي العمل بمبدأ العلانية في فرض العقاب من قبل المنظومة الحاكمة عرفا او قانونا، ولهذا لا يكفي أن تقيم العدل، وإنما ينبغي “أن يشهدك الناس” وأنت تقيمه حتى يتحقق الردع، فالفقيه الجنائي الايطالي (انتوليزي ) يقول إن القانون الجنائي هو المربي المهذِّب للشعب وهي صفة لوظيفة وردة الفعل المنظمة في القوانين العقابية فلا نشك أن الدولة تبغي تربية الشعب من خلال نصوص التجريم التي تشرعها بحسب فكرها السياسي وواقعها التنظيمي وفلسفتها.
لقد بات من المسلم به أن الفلسفة السائدة في كل عصر من العصور عن الجريمة هي الأساس الذي تقوم عليه العقوبة، من حيث نوعها، ومقدارها، وأهدافها، وفلسفتها بشكل عام، ومن يراجع مسيرة تطور العقوبة في مختلف العصور فسيجد أنها كانت محكومة برؤى وبثقافة المجتمع وما تحويه هذه الثقافة من فهم صحيح لخصائص الفرد وعوامل الجريمة، فنظرية الضحية أو كبش الفداء وقد انبثقت هذه النظرية عن مدرسة التحليل النفسي، والتي تفسر العقوبة برغبة المجتمع في التعبير عن غريزة العدوان كدافع فطري لدى كل فرد، وهي غريزة عبر عنها المجرم نفسه باقترافه للجريمة.
أما قسوة العقوبة فتفسرها هذه النظرية تبعا لشدة التجريم أما نظريات البناء الاجتماعي فهي ترتبط بالبناء والتكوين الطبقي الاجتماعي فالنظرية السوسيو اقتصادية ترى أن سوق العمل هو الذي يحدد رد الفعل الاجتماعي إزاء الجريمة، فتكون العقوبة قاسية عندما تتوفر اليد العاملة، ويتدنى الأجر الذي يتقاضاه العامل، وتتجه العقوبة إلى الاعتدال عندما تشح اليد العاملة إلى حد أنه يمكن أن يحكم على الجناة بالعمل بدلا من العقوبات البدنية القاسية وهي نظره اقتصادية بحتة في حين ترى نظرية البناء الطبقي أن مشاركة الطبقة الوسطى وما دونها في عملية الضبط الاجتماعي يجعل العقوبة قاسية بسبب إخفاق هذه الطبقة في ضبط النفس.
وهناك نظرية تقسيم العمل- وقد بنيت هذه النظرية على النظرية العامة في التضامن الاجتماعي فالمجتمع ينتقل من مرحلة التضامن الآلي إلى مرحلة التضامن العضوي القائم على تقسيم العمل، فعندما يكون تضامن المجتمع قائما على الآلية والتماثل فإن رد الفعل فيه يكون متخلفا ويتمثل في الانتقام من الجاني، أما المجتمع المتطور ذو التضامن العضوي فإنه يغلب جانب التساند أو التبادل الاجتماعي فيكون رد الفعل فيه إزاء الجاني منصبا على المحاولة في استعادة التوازن واستعادة الجاني إلى وسط المجتمع عضوا مستقيما من خلال تطبيق قواعد النظام (القانون) في عمومية وحيادية وموضوعية ولم تبتعد نظرية التنظيم الاجتماعي والتي تقوم هذه النظرية على أن العقوبة تكون معتدلة في المجتمعات التي تتسم بالتجانس، في حين تكون قاسية في المجتمعات غير المتجانسة بسبب قيام جزء من الجماعة قوي بتطبيق العقوبة القاسية على الجزء الآخر الضعيف.
اننا نميل مع من يقول ان البناء الثقافي وأساليب التفكير والمعتقدات والتطور العلمي في المجردات والماديات هي التي تُقَيِّم السلوك وهي التي تحدد مضمون رد فعل المجتمع تجاه أي سلوك، ومن هنا فإن التغير في تفسير العقوبة من حيث المضمون والهدف ارتبط داخل المجتمعات بالتغيرات الثقافية ومن ضمن تلك التغيرات شكل السلطة وطبيعتها ومدى التزامها بشروط العقد الاجتماعي، والتقدم العلمي وبخاصة في مجال تفسير السلوك الإجرامي، وتنامي عوامل الجريمة واتجاهها للتعقيد.
وأخيراً نحن نتفق مع المقولة الجنائية الايطالية “إن سيف العقاب لا مقبض له ويجرح بالتالي كل من يستخدمه”، وهو يعني أن الاستخدام السيئ لقانون العقوبات يسئ لجميع الأطراف وبالتالي يجرح العدالة الجنائية القائمة على الموازنة بين معايير متعددة في النظرة الى الجريمة والمجرم ومنها ينبثق النص العقابي الذي لا يمكن ان يطبق بحدوده المقدرة قانونا بل تتداخل القراءة والاستنتاج الصحيح لمجريات القضية التي تمنح القاضي سلطة تقديرية هي بمجملها هي الوصول بالحقيقة القضائية الى الحقيقة الواقعية للجريمة او تجسيدها .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً