قضت المادة 107 من قانون الاثبات بأن (لا يرتبط القاضي المعني بالحمك الجزائي الا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضروريا). فهذه المادة تعالج نشوء المسؤولية المدنية عن فعل غير مشروع الى جانب المسؤولية الجزائية، كان يرتكب شخص جريمة قتل شخر اخر، فتنشأ عن هذه الجريمة، دعوى جزائية لتوقيع العقوبة على المتهم ودعوى مدنية لتعويض المجني عليه او ورثته عن الضرر الذي لحق بهم، فاذا اصدرت المحكمة الجزائية حكما فان المحكمة المدنية ترتبط بهذا الحكم. ويلاحظ ان المادة 107 المذكورة اشترطت ان يكون الارتباط في الوقائع التي فصل فيها الحكم الجزائي وكان هذا الفصل ضروريا، وقد نصت المادة (227 / ج) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه (لا يرتبط المحكمة المدنية بالحكم او القرار الجزائي البات او النهائي في المسائل والوقائع التي لم يفصل فيها او التي فصل فيها دون ضرورة). ويقصد بالفصل الضروري للوقائع، ان ما فصل فيه الحكم الجزائي كان من أسباب وجوده وكيانه، اثباتا او نفيا، بدرجة لو لم يثبت فيه لا نهدم الحكم الجزائي، فهذه الوقائع هي التي تحوز حجية الأمر المقضي امام المحكمة المدنية (1).
وقضت محكمة التمييز (ان واقعة اتلاف القنطرة صدر فيها حكم جزائي اكتسب درجة القطعية، حيث ادان الحكم الجزائي المدعى عليه باعتباره المسبب للضرر فكان على محكمة الموضوع ان تتبع قرار النقض وتجنح الى خبير او خبراء لتقدير التعويض الذي لحق بالمدعي اضافة لوظيفته وفقا لما رسمه قرار النقض، اذ ان القاضي المدني مرتبط بالحكم الجزائي في الواقعة التي فصل فيها الحكم (م 107 اثبات) لا ان تصر على حكمها)(2).وان نسبة التقصير الى المتهم في الشكوى الجزائية يجب ان تثبت بحكم جزائي صادر من محكمة مختصة حائز لدرجة البتات، حيث ان القاضي المدني ملزم بالارتباط بالحكم الجزائي المذكور، لان فصله في موضوع (الخطأ) ضروري وفقا للمادة 107 من قانون الاثبات (3). أما الوقائع التي بحثها الحكم الجزائي استطرادا من دون ضرورة بحيث ان ما قضت به المحكمة لا يؤثر على قيام الحكم الجزائي في هذه الوقائع ولا يقيد المحكمة المدنية ولا يجوز حجية الأمر المقضي اما المحكمة المدنية، وكذلك الحال بالنسبة للوقائع التي سكت عنها الحكم الجزائي (4)، وفيما يتعلق بالأساس الذي يقوم عليه مبدأ حجية الحكم الجزائي امام المحكمة المدنية، فان الرأي الراجح يذهب الى ان هذا المبدأ يرتكز على قواعد النظام العام التي تعطي الاولوية للقضاء الجزائي على المدني، ذلك ان القضاء الجزائي يصدر أحكامه باسم المجتمع ولمصلحته العليا متوخيا في ذلك اقرار الامن والاستقرار في المجتمع وان احكامه تمس حياة الافراد وأمنهم وشرفهم وأموالهم (5). ويترتب على ذلك وجوب الالتزام بهذه الحجية، وعدم جواز التنازل عنها وان المحكمة تتقيد بها من تلقاء نفسها ويجوز الاحتجاج بها في أية مرحلة كانت عليها الدعوى المدنية (6).
ويكتسب الحكم الجزائي الحجية امام القضاء المدني في حالة توفر الشروط الآتية :
1-وحدة الواقعة : ان الواقعة الجزائية الواحدة ضرورية، وهي العلة التي من أجلها يكون للحكم الجزائي البات حجية امام القضاء المدني الذي يتصدى للواقعة نفسها، ويكفي ان يتحقق شرط وحدة الواقعة اي الجريمة الناشئة عنها الدعويين الجزائية والمدنية للاحتجاج بها على الكافة حتى بالنسبة للأشخاص الذين لم يكونوا خصوما في الدعوى الجزائية (7).
2-صدور حكم جزائي بات، فالمهم ان يصدر حكم جزائي من محكمة جزائية ذات ولاية، ولا يهم ان تكون المحكمة عادية او استثنائية او جهات ادارية منحت سلطات جزائية بموجب قوانين خاصة (8). ويشترط ان يفصل الحكم الجزائي في الدعوى الجزائية بالبراءة او الادانة وقد نصت المادة (227 / 1) من قانون اصول المحاكمات الجزائية على ان (يكون الحكم الجزائي البات بالإدانة او البراءة حجة في ما يتعلق بتعيين الواقعة المكونة للجريمة ونسبتها الى فاعلها ووصفها القانوني).
3-صدور الحكم الجزائي قبل الحكم المدني : يشترط ان يصدر الحكم الجزائي البات قبل صدور حكم بات في الدعوى المدنية ليتقيد القاضي المدني به، اما اذا صدر الحكم المدني قبل الحكم الجزائي فان الدعوى المدنية تكون قد انقضت بالحكم الصادر فيها (9) ويلاحظ ان المادة (227 / أ) من قانون اصول المحاكمات الجزائية قد حددت العناصر التي تتمتع بالحجية امام القضاء المدني وهي :
1-وقوع الجريمة : ففيما يتعلق بصحة وقوع الجريمة او نفيها يكون للحكم الجزائي حجية امام القضاء المدني وقد قضت محكمة التمييز (للمحكمة ان تستند على الحكم الجزائي الذي أدان السائق بجريمة الدهس للحكم عليه بالتعويض)(10). وقضت محكمة النقض المصرية (الحكم الجنائي هو الذي يقيد القضاء المدني فيما يتصل بوقوع الجريمة ونسبتها الى المتهم) (11).
2-نسبة الجريمة الى المتهم : يقصد بنسبة الجريمة الى المتهم مساهمته فيها بوصفه فاعلا او شريكا فيها، فاذا ادان الحكم الجزائي المتهم عن جريمة توفرت فيها عناصر المسؤولية الجزائية فليس للقاضي المدني رفض التعويض على أساس انه لم يرتكب الجريمة (12). واذا قضى الحكم الجزائي بتوفر الخطأ فليس للقاضي المدني ان يقرر انتفاء الخطأ لان القاعدة تقضي بوحدة الخطأ الجزائي والخطأ المدني (13). اما اذا قضى الحكم الجزائي بانتفاء الخطأ وبراءة المتهم وكانت الجريمة تتطلب حصول خطأ جسيم، فللقاضي ان يحكم بالتعويض بناء على توفر الخطأ اليسير الذي هو وحده كاف لتقرير المسؤولية المدنية (14). واذا قررت المحكمة الافراج عن المتهم في حادث دهس لان هذا الحادث وقع قضاء وقدرا فان هذا لا يمنع المجني عليه او ورثته من اقامة الدعوى المدنية للمطالبة بالتعويض عن الاضرار (15). واذا استند الحكم الجزائي بالبراءة على عدم كفاية الادلة فيرى اتجاه بان هذا الحكم لا يقيد المحكمة المدنية في حين يرى اتجاه اخر، ان هذا الحكم يقيد المحكمة المدنية وبهذا الرأي اخذ المشرع العراقي حيث نصت المادة (227 / ب) من قانون اصول المحاكمات الجزائية (يكون لقرار الافراج الصادر من المحكمة الجزائية او قاضي التحقيق قوة الحكم بالبراءة عند اكتسابه الدرجة القطعية)(16).
3-الوصف القانوني للجريمة : تلتزم المحكمة المدنية بالوصف القانوني الذي يذهب إليه الحكم الجزائي ويطلقه على الواقعة، فاذا أدان الحكم الجزائي المتهم بوصف جريمته بأنها سرقة فليس للقاضي المدني ان يصف الواقعة بأنها خيانة امانة أو اختلاس مثلا، فلا يجوز للمحكمة المدنية ان تكيف الواقعة تكييفا مختلفا عن التكييف الذي ذهب إليه الحكم الجزائي (17). وقد ترتب على الاخذ بحجي الحكم الجزائي امام المحكمة المدنية الاخذ بقاعدة (الجنائي يوقف المدني) وقد نصت المادة 26 من قانون اصول المحاكمات الجزائية (على المحكمة المدنية وقف الفصل في الدعوى حتى يكتسب القرار الصادر في الدعوى الجزائية المقامة بشأن الفعل الذي أسست عليه الدعوى المدنية درجة البتات، وللمحكمة المدنية ان تقرر ما تراه من الاجراءات الاحتياطية والمستعجلة) والحكمة في وقف الدعوى المدنية، ضمان صدور الحكم الجزائي قبل الفصل في الدعوى المدنية، ليكون لهذا الحمك الحجية، يضاف الى ذلك تجنب التأثير الذي يحدثه الحكم المدني على قناعة القاضي الجزائي في تقديره للوقائع وتفادي حصول التناقض في الأحكام (18). ويشترط لتطبيق هذه القاعدة ما يأتي : 1. وحدة الواقعة في الدعويين، اي ان تكون الدعويان الجزائية والمدنية ناشئتين عن فعل واحد وعلى هذا نصت المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، فاذا ادعى الخصم في دعوى مدنية تزوير السند وطلب التحقيق في ذلك ووجدت المحكمة المدنية قرائن قوية على صحة ادعائه اجابته الى طلب والزمته تقديم كفالة شخصية او نقدية تقدرها المحكمة لضمان حق الطرف الاخر، وعلى المحكمة المدنية في هذه الحالة احالة الخصوم على قاضي التحقيق للتثبت من صحة الادعاء وعندها تقرر المحكمة جعل الدعوى مستأخرة لحين صدور حكم او قرار بات بخصوص واقعة التزوير (م 26 اثبات). 2. ان تقدم الدعوى الجزائية قبل رفع الدعوى المدنية او اثناء السير في الدعوى المدنية، لأنه اذا اقيمت الدعوى المدنية وحسمت بصدور حكم بات فيها، فان قاعدة (الجنائي يوقف المدني) لا تطبق هنا، واذا اوقف الفصل في الدعوى المدنية ثم انقضت الدعوى الجزائية وجب على المحكمة المدنية السير في الدعوى المدنية والفصل فيها (م 27 أصول جزائية)(19). واذا لم يلتزم القاضي المدني بقاعدة (الجنائي يوقف المدني) فان الاجراءات التي يتخذها في الدعوى المدنية تكون باطلة اعتبارا من تاريخ اقامة الدعوى الجزائية (20) وتتعلق القاعدة بالنظام العام، لذلك على المحكمة المدنية، ومن تلقاء نفسها، عند علمها بإقامة الدعوى الجزائية، اتخاذ قرار بإيقاف الدعوى المدنية، مع جزاء تقديم طلب الايقاف من الخصوم في اية مرحلة من مراحل الدعوى المدنية (21).
_________________________
1-الدكتور ادور غالي الذهبي، حجية الحكم الجنائي امام القضاء المدني، القاهرة 1960 فقرة 288 ص274 وفقرة 296 ص284.
2-القرار المرقم 376 / هيئة موسعة / 82 – 83 في 30 / 5 / 1984، مجموعة الأحكام العدلية العدد (1 – 4) 1984 ص90 – 91.
3-القرار المرقم 772 / هيئة موسعة / 82 – 83 في 30 / 5 / 1984، المجلة العربية للفقه والقضاء، العدد الثاني 1985 ص447 – 448.
4-حسين المؤمن، ج4 ص240 – 241.
5-حسين المؤذن ص109 – 110. حسين المؤمن، حجية الأحكام الجزائية أمام المحاكم المدنية والشرعية، مجلة القضاء، العدد الثاني 1977 ص54.
6-رؤوف عبيد، ص341 – 342.
7-مأمون محمد سلامة ص380 – 381. حسين المؤذن ص113.
8-حسين المؤمن ص236 – 237.
9-حسين المؤذن ص116.
10-القرار المرقم 1967 / م3 / 1975 في 11/11/1975، مجموعة الأحكام العدلية، العدد الرابع 1975 ص60.
11-الطعن رقم (511) لسنة 41 ق جلسة 27/1/1976 الموسوعة الذهبية 480.
12-حسين المؤمن ج4 ص246 – 247. حسين المؤذن ص120.
13-الدكتور محمود نجيب حسني، شرح قانون الاجراءات الجنائية، القاهرة 1982 ص339.
14-حسين المؤمن ج4 ص247.
15-العبودي، أحكام ص359.
16-حسين المؤمن ج4 ص244 – 245. حسين المؤذن ص122.
17-رؤوف عبيد ص225.
18-الدكتور ادور غالي الذهبي، وقف الدعوى المدنية لحين الفصل في الدعوى الجزائية. القاهرة. دار النهضة العربية 1962، ص8 – 21.
19-للتفصيل انظر المحامي الاستاذ مكي ابراهيم لطفي، ضوابط الارتباط بين الدعويين الجنائية والمدنية الناشئتين عن واقعة واحدة، بغداد، مطبعة المعارف 1986 ص12 وما بعدها.
20-محمود نجيب حسني ص329 – 330.
21-ادوار غالي الذهبي ص23 – 26.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً