مدى قانونية استقالة النائب العام و عدوله عنها
في معرض تبيان مدى صحة استقالة النائب العام المصري التي قدمها منذ أيام ، فإننا نرى أنها غير صحيحة ، و من جهة أخرى يحق له الرجوع عنها ، و ذلك وفقاً لما يلي :
أولاً : فيما يتعلق بعدم صحة استقالة ، فإن الاستقالة التي يحتج بها على المستقيل هي تلك التي تصدر عن إرادة صحيحة في ترك الخدمة ، فتكون واعية بما تتجه إليه ، قاصدة إياه عن حرية و اختيار ، أما إذا كانت مشوبة بأحد عيوب الرضا كالإكراه فلا ترتب أثراً في حقه ، ويكون قبولها بمثابة الفصل غير المشروع .
و في هذا قضت المحكمة الإدارية العليا بأن :
” تعتبر الاستقالة عملية إرادية ، يثيرها الموظف بطلب الاستقالة ، و تنتهي الخدمة بالقرار الإداري الصادر بقبول هذا الطلب الذي هو سبب هذا القرار ، إلا أنه لما كان طلب الاستقالة هو مظهر من مظاهر إرادة الموظف في اعتزال الخدمة ، و القرار بقبول هذا الطلب هو بدوره مظهر من مظاهر إرادة الرئيس الإداري في قبول هذا الطلب و إحداث الأثر القانوني المترتب على الاستقالة ، كان لزاماً أن يصدر طلب الاستقالة و قرار قبولها برضاء صحيح ، يفسده ما يفسد الرضا من عيوب كما يزيل هذه العيوب أو يسقط الحق في التمسك بها ما يقضي به القانون في هذا الخصوص ، كما يجب التنبيه إلى أنه بالرغم من أن القضاء الإداري غير ملزم بتطبيق المادة 124 من القانون المدني ، إلا أنه يجب انزال الحكم على مقتضاه ، لأن هذا المقتضى يرتد إلى أصل طبيعي هو وجوب تنفيذ العقود و الالتزامات بحسن نية “.( حكمها الصادر بجلسة 23مارس سنة 1957 – مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا – السنة الثانية – حكم رقم 71 ص 738 – مشار إليه بمؤلف الأستاذ / محمود صالح المحامي – شرح نظام العاملين المدنيين بالدولة – الطبعة الأولى -1995 ص 577 ).
و قضت كذلك بأن :
” طلب الاستقالة ، باعتباره مظهراً من مظاهر إرادة الموظف في اعتزال الخدمة ، يجب أن يصدر برضاء صحيح ، فيفسده ما يفسد الرضا من عيوب ، و منها الإكراه إذا توافرت عناصره بأن يقدم الموظف الطلب تحت سلطان رهبة بعثتها الإدارة في نفسه دون حق و كانت قائمة على أساس ، بأن كانت ظروف الحال تصور له أن خطراً جسيماً محدقاً يهدده هو أو غيره في النفس أو الجسم أو الشرف او المال ، ويراعى في تقدير الإكراه جنس من وقع عليه هذا الإكراه و سنه و حالته الاجتماعية و الصحية و كل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر في جسامته “.( حكمها بجلسة 5 نوفمبر 1955 – مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا – السنة الأولى – حكم رقم 6 ص 33 – المرجع السابق ص 577 ).
و قضت بأن :
( هذه المادة لا تنال من استقلال عضو مجلس الدولة أو عدم قابليته للعزل ، و إنما على نقيض ذلك تظاهر إرادته الحرة في الاستقالة الضمنية و تنأى بها عن كل تعقيب متى عزف مختاراً عن عمله القضائي و نأى بحر إرادته عنه …” . ( الطعن رقم 2094 لسنة 38ق – جلسة 21/4/2001 ).
و على هدي من تلك القواعد القانونية ، و كان النائب العام قد أحاط به مجموعة من بعض أعضاء النيبابة العامة ، قيل بأن منهم من لا ينتمي للنيابة العامة ، بل بعضهم من الشرطة وغيرهم ، و كان بعضهم حاملاً للسلاح ، و أحدثوا كسراً في بعض الموجودات ، و اعتصموا و حاصروا مكتبه محاصرة العدو لعدوه ، مع كثرة عددهم و ارتفاع أصواتهم حتى قرعوا بها أذن النائب العام قرعاً لا ريب أحدث به فزعاً واضطراباً و خوفاً ، لا سيما مع ارتفاع وتيرة هذا الضغط ، و لسان حالهم يقول : لن ننقلب إلى عملنا حتى نرغمك على الاستقالة ، بل قيل بأن اعتداء مادياً على النائب العام من قبلهم قد وقع ، و هذا موقف لا يماري منصف في أنه يزلزل كيان أي إنسان ، و لم لا و نبي الله موسى عليه السلام أورد الله في قرآنه الكريم عنه ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) ، و أدرك النائب العام أنه لن يخرج سالماً من مقر عمله إلا إذا استجاب لهم ، وهو ما أضطر إليه رغماً عنه ، فهل في ذلك من رضا أو حرية إرادة في الاستقالة ، الإجابة لا دون شك ، فضلاً عن إنه إكراه صريح ، و لو لم يستجب لهم لناله في جسمه ما لا يعلمه إلا الله ، و قد صرح النائب العام نفسه أمام المجلس الأعلى للقضاء بأنه يتراجع عن استقالته لأن ضغوطاً مورست عليه من قبل المعتصمين بمكتبه لم يستطع منها فكاكاً و لم تكن استقالته عن اختيار منه ، وعليه فإن الاستقالة التي قدمها النائب العام تعد هباءً منثوراً في عالم القانون و الشرع ، بل هي عزل له من منصبه بالقوة ، وعلى الجهة المختصة بقبول الاستقالة أن تطرحها و لا تعول عليها ، و واجب عليها أن تعلن ذلك في صوت جهير لكل الناس ، مع اتخاذ إجراءات التحقيق مع أولئك النفر الذين أحدثوا ذلك العمل غير المشروع لينزل بهم العقاب المناسب جزاء ما اقترفته أيديهم ، إذا ما ثبت لديها مسلكهم المخالف للقانون على النحو السالف بيانه .
ثانياً : فيما يتعلق بالرجوع في الاستقالة ، فإنه على فرض عدم وجود إكراه أو إجبار ، فإن المقرر أنه يجوز للمستقيل الرجوع عن استقالته طالما لم تقبل ، فقد قضت محكمة الإدارية العليا بأن :
” طلب الاستقالة هو ركن السبب في القرار الإداري الصادر بقبولها ، فيلزم لصحة هذا القرار أن يكون الطلب قائماً لحين صدور القرار مستوفياً لشروط صحته شكلاً و موضوعاً “.(مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا – السنة الأولى – حكم رقم 6 ص 33 – المرجع السابق ص 578).
كما أفتت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى و التشريع بمجلس الدولة بأن :
” قرار قبول الاستقالة في مفهوم المادة 99 من القانون رقم 48 لسنة 1978 ( تقابل المادة 97 من القانون رقم 47 لسنة 1978 ) إنما يصدر بهدف تحقيق إرادة العامل في ترك الخدمة ، فإن عاد و أبدى رغبته في الاستمرار بالخدمة قبل نفاذ القرار و انتهاء العلاقة الوظيفية فلا مانع من إجابته لذلك “.( فتوى ملف رقم 86/2/204 – جلسة 2/5/1990 – مشار إليها بالمرجع السابق ص 579 ).
وابتناءً على ذلك ، و كانت الفقرة الثانية من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 تنص على أنه : ” و تعتبر استقالة القاضي مقبولة من تاريخ تقديمها لوزير العدل إذا كانت غير مقترنة بقيد أو معلقة على شرط “، وهو الحكم الذي يسري على أعضاء النيابة العامة بموجب المادة 130 من قانون السلطة القضائية ، و كان النائب العام قد أرسل باستقالته إلى المجلس الأعلى للقضاء لعرضها عليه بجلسة الأحد 23 /12/2012 لاتخاذ ما يراه بشأنها ، و كان النائب العام قد قدم للمجلس المذكور خطاباً متراجعاً فيه عن استقالته ، مبيناً فيه الظروف التي اضطرته إليها و أنها لم تكن عن إرادة حرة منه ، ثم أرسل المجلس الأعلى للقضاء ملف الاستقالة كاملاً إلى وزير العدل ليتخذ بشأنه ما يراه باعتباره المختص بذلك ، فإن الرجوع عن الاستقالة يكون قد تم قبل تاريخ تقديمها لوزير العدل ، أي قبل قبولها ، و يضحى الرجوع موافقاً لصحيح أحكام القانون .
اترك تعليقاً