مدى مسؤولية صاحب المحل عن ما يقع فيه من مخالفات وفقاً للقانون المصري .
عدم دستورية المسئولية المفترضة لصاحب المحل (المخبز) عن كل ما يقع فيه من مخالفات
الدعوى رقم 96 لسنة 27 ق ” دستورية ” جلسة 7 / 3/ 2020
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت السابع من مارس سنة 2020م، الموافق الثانى عشر من رجب سنة 1441 هـ.
برئاسة السيد المستشار سعيد مرعى عمرو رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور عادل عمر شريف وبولس فهمى إسكندر ومحمود محمد غنيم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور عبدالعزيز محمد سالمان والدكتور طارق عبد الجواد شبل نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشرى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمـد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 96 لسنة 27 قضائية ” دستورية “.
المقامة من
ماجدة رفعت السباعى متولى
ضد
1 – وزير العدل
2 – وزير التموين والتجارة الداخلية
3 – رئيس مجلس الوزراء
4 – رئيس مجلس الشعب (النواب حاليًا)
الإجراءات
بتاريخ الثامن والعشرين من إبريل سنة 2005، أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طلبًا للحكم بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة “58” من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمـة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن النيابة العامة، كانت قد قدمت المدعية للمحاكمة الجنائية في الدعوى رقم 15833 لسنة 2004 جنح قسم أول المحلة الكبرى، بوصف أنها بتاريخ 18/4/2004، بدائرة قسم أول المحلة الكبرى، أنتجت خبزًا بلديًا، من السلع التى تدعمها الدولة، ناقص الوزن، على النحو المبين بالأوراق. وطلبت عقابها بالمواد: (1/أ و56/2، 4 و57 و58) من القانون رقم 95 لسنة 1945، المعدل بالقانون رقم 109 لسنة 1980، والمادة “1” من قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم 119 لسنة 1980، والبند “2” من الجدول المرفق بهذا القرار، والمواد (64 و67 و111/5، 6) من قرار وزير التموين رقم 712 لسنة 1987. وبجلسة 1/1/2005، قضت محكمة جنح قسم أول المحلة الكبرى، غيابيًّا، بحبس المدعية سنة مع الشغل، وغرامة 500 جنيه، والمصادرة، والمصاريف، والغلق لمدة أسبوع، ونشــــــــر الحكم، حمــــــــلاً على أسباب حاصلهــــــــا اطمئنــــــــان المحكمة إلى أن المدعية – بصفتها صاحبة مخبز – أنتجت خبزًا بلديًّا، من السلع التى تدعمها الدولة، ناقص الوزن، وذلك على النحو الثابت بمحضر الضبط، المعتبر حجة على المدعية بما ورد به، مادامت لم تُقم الدليل على ما يخالفه. عارضت المدعية في ذلك الحكم، وحال نظر المعارضة بجلسة 26/3/2005، دفعت بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة (58) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، صرحت للمدعية بإقامة الدعوى الدستورية، فأقامت الدعوى المعروضة.
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة (58) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين تنص على أن “يكون صاحب المحل مسئولاً مع مديره أو القائم على إدارته عن كل ما يقع في المحل من مخالفات لأحكام هذا المرسوم بقانون، ويعاقب بالعقوبات المقررة لها، فإذا أثبت أنه بسبب الغياب أو استحالة المراقبة لم يتمكن من منع وقوع المخالفة اقتصرت العقوبة على الغرامة المبينة في المواد من (50) إلى (56) من هذا المرسوم بقانون”.
وحيث إن المحكمة الدستورية العليا، سبق أن قضت بجلسة 14 يناير سنة 2007، في الدعوى رقم 124 لسنة 25 قضائية “دستورية”، بعدم دستورية عجز نص المادتين (58) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، (15) من المرسوم بقانون رقم 163 لسنة 1950 الخاص بالتسعير الجبرى وتحديد الأرباح، فيما نصا عليه “من معاقبة صاحب المحل بعقوبة الغرامة إذا أثبت أنه بسبب الغياب أو استحالة المراقبة لم يتمكن من منع وقوع المخالفة”. ومن ثم يغدو النص المطعون فيه – مقروءًا في ضوء الحكم المشار إليه – مقصورًا على صدر نص الفقرة الأولى من المادة (58) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 المشار إليه، دون ما ورد بعجزها.
وحيث إن المدعية تنعى على النص المطعون فيه – محددًا نطاقًا على النحو المبين سلفًا – إقامته قرينة قانونية، افترض بمقتضاها مسئولية صاحب المحل مع مديره أو القائم على إدارته عن كل ما يقع في المحل من مخالفات لأحكام المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 المشار إليه، وعقابه بالعقوبة ذاتها المقررة للمخالفة التى وقعت، مخلاً بأصل البراءة، ومناقضًا لمبدأ الفصل بين السلطات، ومهدرًا مبدأى المساواة والحرية الشخصية، ومخلاً بحق الدفاع، بما يخالف نصوص المواد (40، 41، 66، 67، 69) من دستور سنة 1971.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها، أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع. لما كان ذلك، وكان الثابت من الحكم الغيابى الصادر بإدانة المدعية، أنه عاقبها بوصفها صاحبة مخبز، أنتجت خبزًا – من السلع التى تدعمها الدولة – ناقص الوزن. وكان النص المطعون فيه قد أقام قرينة افترض بموجبها مسئولية صاحب المحل عن كل ما يقع فيه من مخالفات لأحكام المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، ورصد لها العقوبات المقررة لتلك المخالفات، ومن ثم يكون للقضاء في دستورية هذا النص انعكاس على الفصل في الدعوى الموضوعية، تتحقق به المصلحة الشخصية المباشرة للمدعية. ويتحدد نطاق الدعوى المعروضة فيما تضمنه صدر الفقرة الأولى من المادة المطعون فيها من مسئولية صاحب المحل عن كل ما يقع فيه من مخالفات لأحكام المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، ومعاقبته بالعقوبات المقررة لها، في مجال سريان حكمها على قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم 119 لسنة 1980 بتحديد بعض السلع التى تدعمها الدولة في تطبيق أحكام المرسوم بقانون المشار إليه، وقراره رقم 712 لسنة 1987 في شأن القمح ومنتجاته، دون باقى أحكام ذلك النص.
وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، ذلك أن هذه الرقابة تستهدف أصلاً – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – صون هذا الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون نصوصه تمثل دائمًا القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعى التى وجهتها المدعية إلى النص المطعون فيه تندرج تحت المطاعن الموضوعية التى تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعى لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعى، ومن ثم فإن المحكمة تباشر رقابتها القضائية على النص المطعون عليه – الذى مازال ساريًا ومعمولاً بأحكامه – في ضوء أحكام الدستور القائم.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد اطرد على أن الدستور هو القانون الأعلى الذى يرسي القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها، ويحدد لكل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية وظائفها وصلاحياتها، ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها بما يحول دون تدخــــــــــل أى منها في أعمال السلطة الأخــــــــرى، أو مزاحمتها في ممارسة اختصاصاتها التى ناطها الدستور بها.
وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقًا لأحكامه، فنص في المادة (101) منه على أن “يتولى مجلس النواب سلطة التشريع؛ ….، وذلك كله على النحو المبين في الدستور”. كما اختص السلطة القضائية بالفصل في المنازعات والخصومات على النحو المبين في الدستور؛ فنص في المادة (184) منه على أن “السلطة القضائية مستقلة؛ تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقًا للقانون …….”.
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بسن القوانين – طبقًا لنص المادة (101) من الدستور – لا يخولها التدخل في أعمال أسندها الدستور إلى السلطة القضائية وقصرها عليها، وإلا كان هذا افتئاتًا منها على ولايتها، وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات، الذى حرص الدستور على توكيده في المادة (5) منه، بوصفه الحاكم للعلاقة المتوازنة بين السلطات العامة في الدولة، ومن بينها السلطتان التشريعية والقضائية.
وحيث إن الدستور عنى في المادة (96) منه بضمان الحق في المحاكمة المنصفة بما نص عليه من أن ” المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه “. وهو حق نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان في مادتيه (10، 11)، التى تقرر أولاهما أن لكل شخص حقًّا مكتملاً ومتكافئًا مع غيره في محاكمة علنية، ومنصفة، وتقوم عليها محكمة مستقلة، محايدة، تتولى الفصل في حقوقه والتزاماته المدنية، أو في التهمة الجنائية الموجهة إليه. وتردد ثانيتهما في فقرتها الأولى حق كل شخص وجهت إليه تهمة جنائية في أن تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه. وهذه الفقرة هى التى تستمد منها المادة (96) من الدستور أصلها، وهى تردد قاعدة استقر العمل على تطبيقها في الدول الديمقراطية، وتقع في إطارها مجموعة من الضمانات الأساسية، تكفل بتكاملها مفهومًا للعدالة يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة المعمول بها في الدول المتحضرة، وهى بذلك تتصل بتشكيل المحكمة وقواعد تنظيمها، وطبيعة القواعد الإجرائية المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها من الناحية العملية. كما أنها تعتبر في نطاق الاتهام الجنائى وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى قضى الدستور في المادة (54) منه بأنها من الحقوق الطبيعية التى لا يجـــــوز المساس أو الإخلال بها أو تقييدها بالمخالفة لأحكامه. ولا يجوز من ثَمَّ تفسير هذه القاعدة تفسيرًا ضيقًا، إذ هى ضمان مبدئى لرد العدوان عن حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وهى التى تكفل تمتعه بها في إطار من الفرص المتكافئة. ولأن نطاقها وإن كان لا يقتصر على الاتهام الجنائى، وإنما يمتد إلى كل دعوى ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية، فإن المحاكمة المنصفة تعتبر أكثر لزومًا في الدعوى الجنائية، وذلك أيًّا كانت طبيعة الجريمة، وبغض النظر عن درجة خطورتها، وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية، وأكثرها تهديدًا لحقه في الحياة، وهى مخاطـــــــــر لا سبيل إلى توقيهــــــا إلا على ضوء ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية، وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى. ويتحقق ذلك كلما كان الاتهام الجنائى معرفًا بالتهمة مبينًا طبيعتها، مفصلاً أدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها، وبمراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة محايدة ينشئها القانون، وأن تجرى المحاكمة علانية، وخلال مدة معقولة، وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة – إذا خلصت إليها – إلى تحقيق موضوعى أجرته بنفسها، وإلى عرض متجرد للحقائق؛ وإلى تقدير سائغ للمصالح المتنازعة، وازنة بالقسط الأدلة المتنابذة؛ وتلك جميعها من الضمانات الجوهرية التى لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها، ومن ثم كفلها الدستور في المادة (96) منه، وقرنها بضمانتين تعتبران من مقوماتها، وتندرجان تحت مفهومها، هما: افتراض البـــــراءة من ناحية؛ وحق الدفاع لدحض الاتهام الجنائى من ناحية أخرى، وهو حق عززته المادة (98) من الدستور بنصها على أن ” حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول “. لما كان ذلك، وكان الدستور قد خطا خطوة أوســــــع في مقــــــام ترسيخ قيم الحقــــــوق والحريــــــات ، بنصه في المواد (5، 51، 92) على احترام حقوق الإنسان وكرامته وحرياته، وعلى تحصين الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن، باشتراط ضمانة إضافية كونها لا تقبل انتقاصًا ولا تعطيلاً، ناهيًا المشرع أن تشملها تشريعاته بتنظيم من شأنه تقييدها بما يمس أصلها وجوهرها.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التى نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية. وكان استيثاق المحكمة الجنائية من مراعاة القواعد المنصفة الآنف بيانها عند فصلها في الاتهام الجنائى تحقيقًا لمفاهيم العدالة حتى في أكثر الجرائم خطورة، إنما هو ضمانة أولية ترتبط بكرامة الإنسان، كما ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحرية الشخصية التى كفلها الدستور لكل فرد، وحظر المساس بها بغير الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكامه. وإذا كان افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها؛ وليس بنوع العقوبة المقررة لها؛ وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، فقد كان من المحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة؛ عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها. ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخرى مفهومًا محددًا لدليل بعينه؛ وأن يكون مرد الأمر دائمًا إلى ما استخلصته هى من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها، غير مقيدة في ذلك بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إنه على ضوء ما تقدم، فإن ضوابط المحاكمة المنصفة تتمثل في مجموعة من القواعد المبدئية التى تعكس مضامينها نظامًا متكامل الملامح يتوخى بالأسس التى يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها، وذلك انطلاقًا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية؛ ولضمان أن تتقيد السلطة التشريعية عند مباشرتها لمهمتها في مجال فرض العقوبة صونًا للنظام الاجتماعى، بالأغراض النهائية للقوانين العقابية، التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفًا مقصودًا لذاته، أو أن تكون القواعد التى تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية، التى لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد، وإن كانت إجرائية في الأصل، فإن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تمليها الفطرة؛ وتفرضها مبادئ الشريعة الإسلامية – التى اعتبرها الدستور في المادة (2) منه المصدر الرئيس للتشريع – وهى بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة (96) منه، مؤكدًا بمضمونها ما قررته المادة (11) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان؛ والمادة (6) من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان.
وحيث إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء كان مشتبهًا فيه أو متهمًا، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها، لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين؛ وإنما لتدرأ بموجبها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة المنسوبة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للجريمة محل الاتهام. ذلك أن الاتهام الجنائى في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذى يلازم الفرد دومًا، ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها وعلى امتداد حلقاتها؛ وأيًّا كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل من ثَمَّ لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتًّا.
وحيث إن افتراض البراءة لا يتمخض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلى، ممثلاً في الواقعة مصدر الحـــــق المدعـــــى به، إلى واقعة أخرى قريبة منهـــــا متصلة بهــــــــــا، وهذه الواقعة البديلة هى التى يعتبر إثباتها إثباتًا للواقعة الأولى بحكم القانـــــون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التى افترضها الدستور؛ فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلاً عنها. وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الإنسان عليها. فقد ولد حرًّا مبرءًا من الخطيئة أو المعصية. ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة ركنٌ ركينٌ من أركان كرامته الإنسانية، يظل لصيقًا به، مصاحبًا له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض المحكمة بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائى بنوعيه إذا كان متطلبًا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور؛ ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية. ويعتبر إنفاذها مفترضًا أوليًّا لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، ليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل؛ بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل؛ وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إنه من المقرر قانونًا أن جريمة إنتاج خبز يقل عن وزنه المقرر، تتم بمجرد إنتاج الخبز، على اعتبار أن التأثيم في هذه الجريمة، يكمن أساسًا في مخالفة أمر الشارع بالتزام أوزان معينة في إنتاج الخبز تحقيقًا لاعتبارات ارتآها. ووفقًا للنص المطعــــــون فيه، يكون صاحب المخبز مسئولاً عن كل الجرائم التى تقع فيه بالمخالفة لأحكام المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، ويعاقب بالعقوبة التى رصدها ذلك المرسوم بقانون لتلك الجرائم. ومسئوليته هذه فرضية، تقوم على افتراض إشرافه على المحل، ووقوع الجريمة باسمه، ولحسابه، وهى قائمة في حقه على الدوام، ما لم يدحضها سبب من أسباب الإباحة أو موانع العقاب والمسئولية.
وحيث إن النص المطعون فيه – محددًا نطاقه على النحو المبين سلفًا – تضمن مسئولية صاحب المخبز عن إنتاج خبز – من السلع التى تدعمها الدولة – أقل من الوزن المحدد بمقتضى اللوائح المنظمة لهذا الشأن، سواء كان النقص مرده إلى العمد أو الخطأ، بما يكون معه ذلك النص قد أحل توافر صفة معينة في المسئول عن الجريمة، محل قصده الجنائي بصورتيه، منشئًا بذلك قرينة قانونية، يكون ثبوت الواقعة البديلة بموجبها، بديلاً عن الركن المعنوي للجريمة، الذى يتعين على سلطة الاتهام إقامة الدليل على توافره، في إطار التزامها الأصيل بإثبات ركني الجريمة المادي والمعنوي، وإسنادها إلى مرتكبها.
وحيث إن القرينة القانونية التى تضمنها النص المطعون فيه – مقروءة طبقًا لحكم هذه المحكمة في الدعوى رقم 124 لسنة 25 قضائية “دستورية” المشار إليه – وإن كانت لا تعتبر من القرائن القاطعة؛ لجواز دحضها بسبب من أسباب الإباحة أو موانع العقاب أو لانتفاء المسئولية في أحوال الغياب غير العمدى أو استحالة المراقبة، فإنها تعفى سلطة الاتهام من إثبات الركن المعنوى للجريمة في حق صاحب المخبز عن واقعة إنتاج خبز ناقص الوزن، ومن ثم يغدو نفى ذلك الركن بصورتيه، عبئًا على عاتق صاحب المخبز؛ ذلك أن المشرع تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة القانونية. إذ كان ذلك؛ وكان الأصل في القرائن القانونية بوجـه عام أنهـا من عمل المشرع لا يؤسسها أو يحدد مضمونها إلا على ضوء ما يكون في تقديره غالبًا أو راجحًا في الحياة العملية. وكانت القرينة القانونية التى تضمنها النص المطعون فيه لا يتصـور نفيها اعتمادًا على أسباب الإباحة أو موانع العقاب المنصوص عليها في المواد (60 و61 و62) من قانون العقوبات، بافتراض أن العمد هو قوام مسئولية صاحب المخبز، كما يتعذر دحض القرينة ذاتها حتى وإن كان الخطأ غير العمدى هو سند مسئولية صاحب المخبز، مادام قعود مدير المخبز أو القائم على إدارته عن تنفيذ أحكام لوائح جهة الإدارة المنظمة لشئون وزن الخبز، لا يقطع رابطة السببية بين واجب صاحب المخبز في الإشراف على إنتاج الخبز، وبين النتيجة المتحققة بإنتاج خبز ناقص الوزن؛ ما لم يثبت صاحب المخبز عدم قدرته على منع تحقق هذه النتيجة لقوة قاهرة، أو لسبب أجنبى، وأولهما مما يندر حدوثه، وثانيهما مما يَعْسُر إثباته. ومن ثم لا ترشح الواقعة البديلة التى قررها ذلك النص – في الأعم الأغلب من الأحوال – لاعتبار صفة صاحب المخبز مناطًا لمسئوليته الجنائية عن إنتاج خبز ناقص الوزن، ولا تربطها علاقة منطقية بها، وتغدو هذه القرينة، من ثَمَّ، مقحمة لإهدار افتراض البراءة، ومفتقدة إلى أسسها الموضوعية، ومجاوزة لضوابط المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور.
وحيث إنه لما كان القصد الجنائي – بأي من صورتيه – ركنًا لازمًا في جريمة إنتاج خبز ناقص الوزن، وكان الأصل أن تتحقق المحكمة بنفسها، وعلى ضوء تقديرها للأدلة التى تطرح عليها، من توافر القصد الجنائي لصاحب المخبز. وكان الاختصاص المقرر دستوريًّا للسلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوباتها – على ما جرى عليه قضاء المحكمة الدستورية العليا – لا يخولها التدخل بالقرائن التي تنشئها لغل يد المحكمة الجنائية عن القيام بمهمتها الأصلية في مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التى عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية. وكان النص المطعون فيه قد حدد واقعة بذاتها جعل ثبوتها بالطريق المباشر دالاً بطريق غير مباشر على تحقق الركن المعنوي لصاحب المخبز، مقحمًا بذلك وجهة النظر التي ارتآها المشرع في مسألة يعود الأمر فيها بصفة نهائية إلى محكمة الموضوع، لاتصالها بالتحقيق الذي تجريه بنفسها تقصيًّا للحقيقة الموضوعية عند الفصل في الاتهام الجنائي؛ وهو تحقيق لا سلطان لسواها عليه، ومآل ما يسفر عنه إلى العقيدة التي تتكون لديها من جماع الأدلة المطروحة عليها. متى كان ذلك؛ وكان المشـرع قد أعفى سلطة الاتهام – بالنص المطعون فيه – من إثبات واقعة تتصل بالقصد الجنائي في أي من صورتيه، هي واقعة تعمد صاحب المخبز إنقاص وزن الخبز، أو الإهمال في الإشراف على إنتاجه، حاجبًا بذلك محكمة الموضوع عن تحقيقها، وعن أن تقول كلمتها بشأنها، فإن عمله هذا يُعد انتحالاً لاختصاص كفله الدستور للسلطة القضائية، وإخلالاً بمبدأ الفصل بينها وبين السلطة التشريعية.
وحيث إن النص المطعون فيه – ومن خلال القرينة القانونية التي افترض بها ثبوت القصد الجنائي بأي من صورتيه – قد أخل بوسائل إجرائية إلزامية تعتبر وثيقة الصلة بالحق في الدفاع؛ بأن جعل المتهم مواجهًا بالواقعة التي فرضتها القرينة القانونية في حقه، وكلفه بنفيها خلافًا لأصل البراءة، مسقطًا – من الناحية الواقعية – كل قيمة أسبغها الدستور على هذا الأصل. وكان أصل البراءة، والحق في الدفاع هما ذروة سنام الحقوق اللصيقة بشخص الإنسان، ذلك أن أصل البراءة – على النحو السالف بيانه – هو من الحقوق الطبيعية التى تصاحب الإنسان منذ وجوده ولا تنفصل عنه إلا بحكم إدانة بات، بما يستتبع إقامة سلطة الاتهام الدليل القاطع على ما يناقض هذا الأصل، الذى حرَّم الدستور تعطيله أو الانتقاص منه. وكان النص المطعون فيه – على ضوء ما تقدم جميعه – ينال من مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية، ومن الحرية الشخصية، كما يناقض افتراض البراءة، ويخل بضوابط المحاكمة المنصفة، وما تشتمل عليه من ضمان الحق في الدفاع، وينال من حق لصيق بالمواطن بتعطيله والانتقاص منه، وهو حق يرتبط بكرامته الإنسانية، فإنه بذلك يكون مخالفًا لأحكام المواد (2، 5، 51، 54، 92، 95، 96، 98، 101، 184) من الدستور.
فلهــذه الأسبــاب
حكمت المحكمة بعدم دستورية صدر الفقرة الأولى من المادة (58) من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشئون التموين، فيما تضمنه من مسئولية صاحب المحل عن كل ما يقع فيه من مخالفات لأحكام ذلك المرسوم بقانون، ومعاقبته بالعقوبات المقررة لها، في مجال سريان حكمها على قرار وزير التموين والتجارة الداخلية رقم 119 لسنة 1980 بتحديد بعض السلع التي تدعمها الدولة في تطبيق أحكام المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945، وقراره رقم 712 لسنة 1987 في شأن القمح ومنتجاته.
وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً