مرافعة مميزة في محاكمات حرية الرأي

من أشهر محاكمات حرية الرأي ..

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

محمد عبد الحفيظ أبو شلباية , شخص فلسطيني يعمل في الصحافة ,يحمل إجازة في الآداب من جامعة فؤاد الأول في القاهرة .
وبشهر كانون الأول عام 1950 نشر في جريدة ( صوت التقدم ) الحلبية مقالاً بعنوان ( محمد بلا عقيدة ) أثار حفيظة رجال الدين في حلب ومن ثم العديد من الناس وانطلقت المظاهرات تطالب برأ س أبي شلباية وفكتور كالوس صاحب الجريدة , ومن ثم ادعى عليهما رشيد محمد دشّان بجرم التحقير , وتطور الأمر إلى ما يشبه الفتنة مما اضطر الحكومة إلى تحريك الدعوى العامة بحقهما وإصدار الأوامر بتوقيفهما وسوقهما إلى القضاء بجرم الإساءة إلى العلاقات بين الدول العربية ومس كرامة الرسول الأعظم , فتم القبض على أبي شلباية , وأودع السجن في حين فرّ فكتور كالوس إلى لبنان ..

ورغم ذلك لم يتوقف الهياج الشعبي مما حمل الحكومة على نقل الدعوى على اللاذقية محافظة على الأمن العام .. وما إن وصل الخبر إلى اللاذقية ختى خرج طلاب “مدرسة البنين ” في 24 / ك2 / 1951 بمظاهرة صاخبة طافت شوارع المدينة حتى دار الحكومة وقابل عدد من الطلبة المحافظ وطالبوا بإنزال أشد العقاب بهذا ” الكافر الملحد” فوعدهم المحافظ بأن يجعله عبرة لمن يعتبر ..

وتجددت المظاهرات ووزعت المنشورات صباح الجمعة 26 ك2 / 1951 تدعو الناس للتظاهر انطلاقاً من جامع المغربي بعد الصلاة , وطاف المتظاهرون شوارع المدينة حتى قصر المحافظة , واستمع المحافظ إلى كلمة القاها عبد الغفور الطويل , طالب فيها بإعدام ابي شلباية .. ووعد المحافظ برفع احتجاج المتظاهرين إلى المراجع العليا , وبعد انفضاضها توجه عبد الغفور إلى دائرة البريد وأرسل البرقية التالية : ( باسم مدينة اللاذقية المضطربة الهائجة أطلب إعدام المجرم أبا شلباية , لا تهدأ النفوس ولا تطمئن القلوب ما لم يجتث ويقتلع الفساد من أصله .. لطفاً جريدة صدى الاتحاد العدد ” 09 ” 4 نيسان 1951 )

وفي الثالث من نيسان بدأت محكمة جنايات اللاذقية بهيئتها المؤلفة من :
الرئيس : بدر الدين الداوودي وعضوية الأستاذين : سري شومان وحسين عابدين , وممثل النيابة العامة الأستاذ عمر العداس النظر في القضية ..

افتراضي رد: من أشهر محاكمات حرية الرأي ..
جيء بالمتهم تحيط به قوة من الدرك , وأُدخل في قفص الاتهام , وحضر وكيلاه : الأستاذ عبد الفتاح زلط والأستاذ سعد زغلول الكواكبي , ونودي على المتهم الثاني فيكتور غالوس , فلم يحضر , كما لم يحضر المدعي الشخصي أسعد عبجي , وطلب النائب العام السير في الدعوى باسم الحق العام فقررت المحكمة ذلك .
وبعد أن أخذت المحكمة هوية المتهم أصولاً , تلا الكاتب المقالات المنشورة في جريدة ” صوت التقدم ” ولما انتهى من تلاوتها , سأل رئيس المحكمة المتهم فيما إذا كان هو الذي كتب هذه المقالات , وما رأيه فيها فأجاب :
إن ما كتبته عن الدول العربية لا يقصد به إلاً سرعة الإصلاح ..
أما المقال المتعلق بالرسول الأعظم فإنه لا يجد فيه أي مس بكرامته , وإنه لم يقصد به إلاّ التمجيد بعظمته ..( جريدة الشاطئ العدد 163 / تا 17 آذار 1951 ) .بعد ذلك بدأت المحكمة باستجواب المتهم والاستيضاح منه عما جاء في مقالاته موضوع الدعوى ,

فسأله الرئيس :
ماذا تقصد بعبارة ( لم تقع معجزات ) ؟
أجاب المتهم :
إني أقصد أنه لم تقع معجزات حين ولادة الرسول , لأن محمداً كغيره من البشر ثم أصبح نبياً , وهذا تمجيد بمحمد ويؤيدني بذلك كثير من العلماء منهم : محمد عبده , والغزالي , والمراغي , ومحمد حسين هيكل , وإن المعجزة الوحيدة هي القرآن الكريم , وهذه حصلت بعد البعثة .
الرئيس : ماذا تقصد من البيان المنشور بعنوان ( محمد بلا عقيدة ) ؟
أجاب : إني أقصد أن محمداً لم يكن له عقيدة بالأصنام التي كانت تُعبد في أيامه , وهذا ثابت في المقال المنشور في ” صوت التقدم ” .
الرئيس : ماذا تعني بقولك إن الرعي كان مهنة العبيد ؟
المتهم : أردت أن أبين للناس عصامية محمد (ص) , أي أنه عليه السلام أعظم ألف مرة ممن يصبح في عداد العظماء عن طريق المال ..وتابع : إن طبقة العبيد لم تكن منحطة كما يصورونها , بل كانت طبقة راقية تتمثل في تصرفاتها الفضيلة .
ثم توجه النائب العام إليه بسؤال يتعلق بموضوع الرعي , وأنه كان من مهن العبيد مع العلم أن محمداً كان من رعاة مكة , وهل استقى ذلك من مصدر تاريخي أم أنه استنتج ذلك استنتاجاً ..

 

افتراضي رد: من أشهر محاكمات حرية الرأي ..
أجاب : أن الرعي كان مقصوراً على الفقراء والعبيد من الأخبار التاريخية التي قراتها , لا سيما “سيرة غبن هشام ” و ” حياة محمد ” للدكتور محمد حسين هيكل الذي كان يقول : إن الرسول كان يرعى غنم أهل مكة , ويقول كذلك : إن مهنة الرعي لم تكن تدر على صاحبها المال الوفير , ويقول أيضاً وأيضاً أن أبا طالب قد سعى لدى خديجة ( رض ) لاستجار الرسول بأربعة جمال , ومن هذا يستنتج استنتاجاً منطقياً أن هذه المهنة , الرعي , كانت بسيطة جداً , وبالطبع لا يمتهن هذه المهنة إلاّ أبناء الطبقات الكادحة من الفقراء والعبيد .

وأضاف أبو شلباية قائلاً : أما قصة سيدنا عمر بن الخطاب وحديثه عن الرعي , فهي حجة لي وليست علي , فهناك فارق عظيم بين اشتغال محمد (ص) بالرعي وبين اشتغال عمر بن الخطاب بالرعي , فقد كان عمر بن الخطاب يرعى غنم أبيه , بينما كان محمد (ص) يرعى غنم أهل مكة ولم يكن عمر يتقاضى أجراً , بينما كان الرسول يتقاضى أجراً , وإذن فالرعي لم يكن مهنة يستفيد منها عمر بن الخطاب , وإنما كانت كذلك بالنسبة للرسول , ومعروف أن الذي يقود سيارته الخاصة لا يعتبر سائقاً محترفاً , بل يعتبر كذلك من يقود سيارات الغير .

وجواباً على سؤال يتعلق بمعجزة القرآن , التي يقول أنها الوحيدة , لم يتعرض إلى تفصيلها , بل ضرب كشحاً عنها , أجاب : ليس في مقالي أي لفظ ناب , كما ذكر ذلك سعادة النائب العام , أما عدم ذكري لمعجزة الرسول الكبرى , الوحيدة في رأيي , وهي القرآن , فلسبب بسيط , وهي أنني تحدثت عن الرسول قبل البعث , ومعروف أن القرآن أنزل بعد البعثة . وجواباً على سؤال النيابة الثالث , المتعلق بتقسيم الطبقات في عهد الرسول عليه السلام وما هي حجته في فساد الطبقة الأرستقراطية بمجموعها قال : إن حججي في ذلك تستند على كتب التاريخ وإلى القرآن الكريم , ومعروف , بل وبديهي أن الذي ناصر الرسول هم أبناء الطبقات الكادحة .. أي الفقراء والعبيد , وأن الذين قاوموا الرسول هم أبناء الطبقة الأرستقراطية .. وأعتقد أن القرآن فيه كثير من الآيات التي تثبت فساد الطبقة الأرستقراطية كسورة ( تبت يدا ) .وسئل من أين استقى قوله بأن البحث عن الرغيف أخّر محمداً عن البحث في الحقيقة ؟

أجاب: إنني استقيت قولي هذا من مصدر طبيعي بأن الإنسان العادي يهتم أول ما يهتم بالأمور التي توفر له النمو الجسماني الصحيح , والخبز يوفر لكل إنسان عادي النمو الجسماني .

وإذاً كشيء بديهي أن يكون ما ذكرت .ومعروف أن الرسول (ص) كان رجلاً عادياً من البشر , وليس من الملائكة .
أما قولي بأن زواج محمد بخديجة , قد حقق له المهمة الأولى , وهي البحث عن الرغيف في غار حرّاء , بينما كان قبل زواجه لا يستطيع أن يتفرغ لانتقاله من الرعي إلى التجارة ( جريدة الشاطئ السوري , العدد 173 , تاريخ 15 نيسان /ابريل 1951 ) .

و في جلسة يوم السبت 14 نيسان/أبريل 1951، تلا النائب العام مطالعته التي استهلها بعرض موجز للمقالات التي نشرها أبو شلباية في جريدة ((صوت التقدم)) ، و أشار إلى المواد القانونية التي أحيل بموجبها إلى المحاكمة ثم تعرض إلى ما قد تسببه هذه المقالات من إساءة إلى العلاقات بين الحكومة السورية و البلاد العربية ، و اعتبره طعنا موجهاً إلى الحكومات الشقيقة ، و تحريض شعوبها على العصيان المدني الذي من شأنه خلق القلاقل والفوضى في البلاد .

ثم أشار إلى المقال الذي طعن فيه بالرسول الأعظم ، و أثار نقمة الرأي العام . و ختم مطالعته بقوله :
((… و أخيراً إني أضع أمام محكمتكم الموقرة تمحيص هذه المقالات كلها خاصة ما جاء في المقال الأخير منها ، و فيه الجملة الخطرة على مجتمعنا و هي (( أن علماء النفس أثبتوا أن الفقر يبعث في النفوس النقمة و الحقد و الاحتقار للأنظمة السائدة)) ، و هو قول إذا أضيف إلى ما جاء في مقالاته السابقة عن البلاد العربية لظهر جليا أن المتهم كان يقصد في ما يكتب إثارة الثورات والقلاقل في البلاد العربية الهادئة الآمنة ، السائرة في مضمار التقدم ، و من كان هذه حاله فهو خطر على المجتمع و على البلاد السورية أجمع ، لذلك فالنيابة العامة تطلب .
يتبع إنشاء الله…..

المصدر :
هاشم عثمان : المحاكمات السياسية في سوريا دار الريس للكتب و النشر الطبعة الأولى : تشرين الثاني /2004 .

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.