النظر إلى المخطوبة.. قبل أن تقع الرؤية القاتلة!
محمد بن عبد العزيز المحمود
جاء الإسلام بتشريعاته الحكيمة بتقعيد غايات عظمى في المجتمع المدني، وذلك بحثّه أفراده إلى كل ما فيه استقرار حياتهم ومعاشهم، إذ أولى الإسلام الأسرة عناية خاصة، فحرص على استقرارها وطمأنينتها من حين أن تنقدح – مجرد انقداح – فكرة تكوين الأسرة في ذهن ذلك الشاب في مقتبل حياته؛ فمذ أن تتبلور فكرة الارتباط الزوجي في ذهن المؤسس الأصيل لبيت الزوجية – الرجل – إلا ونجد ديننا الحنيف حريصٌ كل الحرص على تقوية هذه العلاقة وتأسيسها على الأسس السليمة والقواعد المتينة.
ولذا فقد شرع الإسلام للخاطب قبل أن يقدم على اختيار شريكة عمره أن ينظر إلى مَنْ سيعيش معها السنوات الطويلة، بحلوها ومرّها، ومَنْ ستكون أمّاً لأولاده، وملاذاً آمناً لأسراره وأموره الخاصة، وسكناً هانئاً لنفسه وروحه، كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر ذلك بقوله للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه – حين أخبره بأنه قد خطب امرأة –: (أنظرت إليها؟؟.. فقال: لا، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما). (سنن النسائي حديث رقم 3235).
فالنظر إلى المخطوبة حق شرعي كفلته الشريعة الإسلامية للخاطب قبل الإقدام على الارتباط الزوجي، وقرره المصطفى صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، وذلك لما لهذه النظرة من أثرٍ كبير على استقرار الحياة الزوجية المقبلة، ولما لها من وضع طرفي تلك الحياة أمام أمرٍ واقع، لهم حرية الاختيار في الإقدام أو الإحجام من قبل أن يفضي بعضهم إلى بعض ويأخذن منهم ميثاقاً غليظاً.
ولم تغفل الشريعة الإسلامية بعمومياتها ومقاصدها الغراء سد كل بابٍ من أبواب إشاعة القلق والاضطراب في النفوس البشرية، وكسر مشاعر النفس الإنسانية، والحد من كل تصرفٍ يفضي إلى خلق العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ فجاءت الشريعة بمنع كثيرٍ من العقود في المعاملات والأحوال الشخصية و التي تكون سبباً في إثارة الغل والشحناء، وتوّلد الأمراض النفسية بين أفراد المجتمع المسلم، ذكوراً أم إناثاً.
إذا تقرر هذا فقد علمنا يقيناً أن الشارع الحكيم منع ما يكدر صفو المجتمع المسلم، وما يخلق في نفوس أفراده من الأمراض النفسية والعضوية، وخاصة إذا كان ذلك المتضرر ممن أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أمته – قبل موته – بأن يقبلوا الوصية بهنّ خيراً، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بالنساء خيراً..) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وإن المتأمل اليوم للآلية التي يسير بها أغلب أولياء أمور الفتيات اللاتي يتقدم لهن الخاطب لرؤيتهن – النظرة الشرعية – ليجد تعارضاً بين تلك الطريقة – وليست النظرة من حيث المبدأ – وبين مقاصد الشريعة وعمومياتها، حيث إن طريقة عرض الفتاة اليوم بتقديمها كوباً من العصير أو إرغامها بالحضور للمجلس – ولو بالقوة – من أجل أن ينظر الخاطب إليها، وكأنها سلعة تبتاع، ويتفحص المشتري جودتها !! ليجد أن ذلك ليس فيه أدنى احترام لإنسانية هذه الفتاة، أو مراعاة لمشاعرها الحساسة التي يمكن أن تُجرح جُرحاً غائراً الدهرَ كله بسبب عدم قناعة ذلك الشاب بجمالها وقوامها، ومعلومٌ أن الجمال أمر نسبي، وما يعجب أحدنا ويراه جميلاً قد لا يُعجب الآخر، فيخرج الشاب من ذلك المجلس – وكأن شيئاً لم يكن – وقد نوى في قلبه رفض تلك الفتاة الرقيقة المسكينة التي عاشت لحظاتٍ عصيبة؛ إذ لم تنمْ تلك الليلة من الترقب والقلق؛ فتُفاجأ بالغد بذلك الخبر الذي يهزّ كيانها، ويفقدها الثقة بنفسها وقوامها، حين يرمي ولي أمرها تلك الكلمة التي تقع عليها موقع الخنجر من القلب: (إن فلاناً يعتذر من الزواج منك !!).. فتسوّدُ الدنيا بوجهها، ويتغير مجرى حياتها، وتفقد الثقة بنفسها؛ بسبب تصرفٍ لا مسؤول من شابٍ لم يدرك فداحة ذلك الأمر، ومدى تأثيره على نفسية تلك الفتاة التي لن تنسى هذا الموقف المؤلم ما حييت، ولن تنسى تلك الليالي المظلمة ما بقيت على قيد الحياة. وأما إذا تكررت تلك النظرة وذلك الرفض مرة ثانية، ومن شخصٍ آخر، فقلْ على أختنا السلام، وكبّر عليها أربعاً بغير سلام، واحسبها في عداد المحطّمين اليائسين – نسأل الله أن يتغمدها برحمته – !!.
وقد يعي الشاب تأثير رفضه على مشاعر تلك الفتاة؛ فيُقدم على الموافقة على مضض، غير مقتنع بشكلها وجمالها، قد غلبته عاطفته النبيلة، فيرى أنه لا سبيل للخلاص من هذا المأزق والحرَج من والدها وإخوانها، والخوف على مشاعرها؛ إلا بالموافقة على الزواج منها مجاملة ، فتتمّ مراسم ذلك النكاح من غير اقتناع كامل من ذلك الشاب بتلك الفتاة، وإنما شهامة منه ورجولة؛ إذ يوقن بتأثير رده على نفسيتها، أو تأثير ذلك على ولي أمرها الذي يكنّ له التوقير والاحترام، وهنا تبدأ النهاية !!.. ويبدأ مسلسل الشقاق وسوء العشرة وقبيح الأخلاق، وتصيّد الأخطاء والزلات، وتتبع الهفوات والذي سينتهي – حتماً – بمراجعة المحكمة العامة لاستخراج وثيقة الطلاق !!، وإنهاء تلك الرابطة التي حلَت كابوساً على طرفيها، وتسببت في زرع العداوة بين أهل المنفصلين، وما يترتب على ذلك من أضرارٍ اجتماعية واقتصادية لا تخفى على أولي الألباب.. وإن المتأمل لتلك المصائب والمحن التي يجلبها المجتمع لأبنائه وبناته بسبب عدم فهم نصوص الشريعة السمحة، وعدم المقدرة على تصوّر مقاصدها العظيمة في الرغبة باستقرار نفوس المجتمع المسلم وطمأنينته القلبية؛ ليتعجب أشدّ العجب من عدم دراسة هذا الموضوع وعقد الندوات فيه من قبل المتخصصين في الشريعة الإسلامية والعلوم الأنثروبولوجية فضلاً عن مجرد إثارته !!.
وإلا فمثل هذا الموضوع الذي تسبب – ولا يزال – في الازدياد الرهيب لأعداد مُراجعي و مراجعات العيادات النفسية الذين يعانون من تبعاته، ويتمنون أن ترجع حياتهم كما لو كانت قبل تلك الرؤية القاتلة؛ جديرٌ بأن تقام فيه الندوات والمؤتمرات، وأن تتدخل فيه أعلى الجهات الرسمية والشرعية في مجتمعنا المدني، وأن تُرسم الآلية المناسبة للرؤية الشرعية من غير أن تكونَ سبباً في شقاء فتاةٍ بعمر الزهور راحت ضحية تفريط ولي أمرٍ لم يدرك تلك الحقائق، أو سبباً في تعاسة شابٍ نبيل أدرك حقيقة وفظاعة ذلك الرد؛ فكانت شهامته وسيلة لتعاسته الدهر كله !!.. وتأمل أخي القارئ الكريم هذا الحديث الشريف وهذا الفهم الراقي من صحابة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم بإحسان؛ لتعلم عظِم هذا الدين القويم الذي تركنا على المحجة البيضاء، وبيّن لنا ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأغلق جميع المنافذ التي تكدر صفو هذا المجتمع أو تخلق المشاكل والاضطرابات النفسية بين أبنائه، فعن واقد بن عمرو بن معاذ، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا خطب أحدكم امرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) يقول جابر: فخطبت امرأة من بني سليم فكنت أتخبأ لها في أصول النخل حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها. (رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، وصححه الحاكم، وله شاهد عند الترمذي والنسائي عن المغيرة، وصححه الألباني).
قال أصحاب الإمام الشافعي – رحمه الله -: ينبغي أن يكون نظره إليها قبل الخطبة، حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء، بخلافه بعد الخطبة).. وأقول – أنا الفقير إلى عفو ربه -: بل ينبغي أن يكون هذا النظر من غير أن تحسّ وتشعر به تلك الفتاة، بأن يأتي الخاطب لوليها ويراها بشكلٍ غير مباشر، كأن يطلّ عليها من نافذة المجلس وهي تحمل أغراضاً من فناء المنزل، أو بأي طريقة أخرى، ولن يُعدم اللبيب تلك الطرق، ولكن الشقاء في الرؤية المباشرة التي تستعد لها الفتاة ثم تنتظر ساعاتٍ تمرّ عليها كالجبال العظيمة وتُصدم في النهاية باستخارة فلان من الزواج منك !!.. ونحن اليوم مقبلون على الإجازة الصيفية التي لا يفصلنا عنها إلا أيامٌ معدودة، إذ يستعد الكثير من الشباب للإقدام على إكمال نصف دينهم بالزواج ويتحرّون الفتاة المناسبة التي سيقضون معها بقية عمرهم، فلابد لأولياء أمور الفتيات أن يتقوا الله فيهن، وفي مَنْ تقدم لنكاحهن، بأن ييسروا للمتقدم النظرة الشرعية من غير إحساس الفتاة بها، فقد يكون في تصور الشاب أشياء كثيرة عن تلك الفتاة وبمجرد النظرة الأولى غير المباشرة يصرف النظر عنها، وإن كان جازماً فلا مانع من إعادة تلك النظرة بصورةٍ مباشرة، فيجب أن نقللّ من تبعات تلك النظرة على نفسية الفتاة قدر الإمكان، ويجب على العقلاء في مجتمعنا أن يناقشوا هذا الموضوع الهام الذي غُفل عنه – أو تغافل عنه !! -، وأن يتدخل العلماء وأهل الشريعة في ذلك؛ بأن يحققوا المسألة تحقيقاً علمياً، ويدرسوا جوانبها من كل وجه، وما تتسبب فيه من الضرر الكبير الذي يقع على نفسية الفتاة أو الفتى، وإن كانت الفتاة هي المتضررة الأولى والأشد منه، جاعلين نصب أعينهم مقاصد شريعة الإسلام العظيمة التي جاءت بما فيه صلاح البشرية في معاشها ومعادها، وفي كل ما يتعلق بشؤون المجتمع وحياة الناس، وما يرفع الضرر عنهم؛ إذ لا ضرر ولا ضرار. نسأل الله عز وجل أن يوفق شبابنا وفتياتنا لكل خير، وأن يجنبنا وإياهم الأمراض النفسية والعضوية، وأن يهيئ لهم الأسباب النافعة لصلاح دينهم ودنياهم، والحمد لله رب العالمين..
باحث قانوني
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً