مشروع قانون عفو عام بلبنان .. وصفة العفو الممتازة للرشوة وتبييض الذات
الأولوية للعفو العام وليس للمحاسبة؟
إن مجرد تمسك الجهات السياسية بدرس مشروع العفو العام منذ الأيام الأولى للثورة وفي ظل تفاقم الأزمة الحالية، إنما يعكس ماهية توجهات القوى السياسية الحاكمة ومدى استهتارها في إدارة الشأن العام. فالأولوية اليوم ليست لمراجعة ما أمكن فعله على صعيد السياسات النقدية والمالية والاقتصادية والسياسية ولا حتى لمناقشة قانون استقلال القضاء أو تعديل الإثراء غير المشروع أو رفع السرية المصرفية أو استرداد الأموال المنهوبة، بل لاستعادة المكانة السياسية من خلال إعادة بناء علاقات الزبونية، كلا مع جمهوره.
المبدأ هو العفو؟ قانون بخفايا كثيرة
من المسائل الخطيرة جدا في هذين الاقتراحين اعتبار أن العفو هو المبدأ، بحيث تكون جميع الجرائم مشمولة به إلا ما استثني منها بنص صريح بموجبه. وهذا الأمر يؤدي عمليا إلى توسيع العفو ليشمل جرائم لم يفكر أو لم يتثبت المشرع من وجود مبررات وجيهة لإعفائها.
ومن أبرز هذه الجرائم المعفاة في قانون جابر-موسى، جرائم التهرب الضريبي المنصوص عليها في عدد من القوانين الضريبية، والجرائم البيئية المشمولة في قوانين حماية البيئة والمياه والهواء ومعالجة النفايات والصيد والمحميات الطبيعية (وغالبية هذه الجرائم ترتبط بشكل وثيق بجرائم الفساد ومنها جرائم تلويث الأنهار والمياه الجوفية واستثمار كسارات ومقالع بصورة غير قانونية على امتداد الجبل اللبناني…الخ) والجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي والمخلة بسير السلطة القضائية أو تلك التي تمس بالواجبات العائلية ومن أبرزها حق النفقة وجرائم الخطف والاحتجاز القسري والتهديد والجنايات التي تشكل خطرا شاملا كالحرائق (ومنها الإهمال في جعل آليات إطفاء الحرائق غير صالحة) وجرائم التهويل والاحتيال والمضاربات غير المشروعة والإفلاس الاحتيالي والتقصيري والغش المرتكب إضرارا بالدائنين من خلال تهريب الأموال وجرائم التعذيب مثلا والجرائم المشمولة في قانون ديوان المحاسبة (وجلّها قضايا فساد) وقانون حماية الحيوان.
بالمقابل، بدا اقتراح قانون بهية الحريري في ظاهره أقل اتساعا. ففيما هو أيضا انطلق من إعفاء الجنح والجنايات، فإنه حدد نطاق تطبيقه في مادته الأولى بالجنح والجنايات الواردة في قانون العقوبات، بما يستثني ضمنا مجمل الجنح والجنايات الواردة خارج هذا القانون. إلا أن هذا الأمر أيضا لا يخلو من المشاكل بحيث أن الاقتراح عاد ليذكر ضمن الاستثناءات من العفو عددا من الجرائم الواردة في قوانين أخرى، على نحو قد يفهم منه أن الجرائم المشمولة في قوانين أخرى وغير مستثناة صراحة قد تكون مشمولة بالعفو أيضا. ومن شأن هذا الأمر أن يفتح النقاش أيضا حول ما هو معفى وما هو غير معفى.
وعليه، ينتظر أن يؤدي إقرار أي من الإقتراحين إلى فتح بازار من الجدل القانوني أمام المحاكم حول ما يشمله أو لا يشمله العفو، وبخاصة على ضوء طابعه الشمولي والمفاهيم غير الدقيقة والحمالة للمعاني الواردة فيهما، ومنها مفهوم جرائم التعدي على الأموال والأملاك العمومية، والذي لا نجد أي تعريف واضح ودقيق له. وما يؤكد ذلك هو أن اقتراح النائبة بهية الحريري استثنى من العفو الجرائم المتعلقة بالأضرار الملحقة بأملاك الدولة والأفراد المنصوص عليها في النبذتين الأولى والثالثة من الباب 11 من الكتاب الثاني من قانون العقوبات. على نحو يفهم منه بوضوح أن النبذة الثانية من هذا الباب معفية وهي النبذة المتصلة بالاستيلاء على الملك العام ووضع اليد عليه. وخطورة هذا الغموض تكمن في امكانية خسارة كل الغرامات المنصوص عليها في قانون تسوية التعديات على الأملاك البحرية، التي هي الأخرى لم تستثنَ صراحة في أي من الاقتراحين.
كما سيسمح هذا الطابع (الشمولي) لغالبية النواب خلال المناقشات توسيع إطار العفو من خلال شطب أي سطر أو استثناء، وتاليا إلى توسيع حالات العفو الذاتي أو العفو الزبائني.
عفو 1991 الذاتي والأبيض إلى الأذهان مجددا
أن أي عفو عام يعيد إلى الأذهان العفو العام سيئ الذكر والذي صدر في 1991 والذي منح جميع الجرائم السياسية مع بعض الاستثناءات، عفوا ذاتيا أبيض، أي من دون إلزامهم بأي قيد أو شرط للمستقبل، ولا حتى لجهة ترميم حقوق الضحايا الذين تعيّن عليهم آنذاك أن يرضخوا للأمر الواقع. وفيما يستشف من خطاب الأوساط الحكومية أن العفو العام سيستهدف بشكل خاص فئات اجتماعية تعتبرها أحزاب السلطة جزءا من “جماهيرها” كالناشطين الإسلاميين في طرابلس أو العاملين في مجال المخدرات في البقاع وبعلبك والهرمل، يبقى أن أي طرح لعفو عام يستدعي الكثير من التنبه. ففيما يستثني الإقتراحان جرائم التعدي على المال العام (العبارة غامضة كما أسهبنا أعلاه) والجرائم المخلة بواجبات الوظيفة والإثراء غير المشروع، فإن اقتراح جابر موسى يعفي بالمقابل عددا كبيرا من الجرائم التي يفترض ارتكابها من القوى النافذة والمقتدرة ماليا، ومن أبرزها الجرائم البيئية وجرائم التهويل والتهرب الضريبي وإهمال الإخبار أو ملاحقة جرائم والجرائم المشمولة في قانون ديوان المحاسبة وإطلاق النار واقتناء الأسلحة وتصنيعها وحيازتها والجرائم المشمولة في قانون القضاء العسكري فضلا عن جرائم المخدرات بما فيها المرتكبة من المافيات الكبرى التي هي في غالبها في صلة عمل مع جهات سياسية متفرقة. وفيما يشمل اقتراح جابر موسى جميع الجرائم المرتكبة قبل 30/10/2019 وتاليا الجرائم المرتكبة من المجموعات التي اجتاحت وسط المدينة تاركة إصابات عدة بين صفوف المعتصمين في 29/10/2019، فإن اقتراح الحريري يذهب أبعد من ذلك في اتجاه إعفاء كل الجرائم المرتكبة عند نفاذ القانون في حال إقراره.
هذا عدا عن المخاوف لجهة امكانية توسيع دائرة العفو في أي لحظة خلال المناقشات. وما يعزز مخاوفنا هو آليات النقاش والتصويت والصياغة النهائية المعتمدة في المجلس النيابي والتي تمنح رئيس المجلس سلطة واسعة في إعلان الاتفاق على أمر معين أو حتى تعديل صيغته. وأكثر ما نخشاه أن يكون ثمة قوى تتهيّأ لمواجهة الفترة الانتقالية التي قد تنجم عن الثورة الحاصلة، من خلال إعفاء ذواتهم، منعا لأي عدالة مستقبلية. مهما يكنْ، فإنّ مجرد التلويح بالعفو العام في موازاة الحديث عن المحاسبة، إنما هو من قبيل الحديث عن الأسود والأبيض، وفي الآن نفسه حزاما ناسفا للادعاءات الإصلاحية برمتها.
العفو العام، محاولة جديدة لشراء الذمم؟
أن مجرد إثارة العفو في هذه الظروف بالذات ووضعه على نار حامية، تماما كما حصل قبيل الانتخابات النيابية في 2018 وبعيد ثورة 17 تشرين، يؤكد بحد ذاته أن الهدف منه ليس تصحيح أوضاع اجتماعية معينة، إنما تحقيق مكاسب سياسية، قوامها استرضاء الفئات الاجتماعية التي تعتبرها القوى السياسية جمهورا لها، وتخفيف حمأتها بنتيجة الإفلاس والضائقة المعيشية. ومن هذه الزاوية، تبدو السلطة الحاكمة وكأنها تستمر في ممارستها الاعتيادية التي تقوم على شراء الذمم والزبائن، من خلال التخلّي عن الدفاع عن مصالح الدولة والحق العام. وهذا ما نتبينه في مجالات عدة، حيث تعوّض الدولة عن عجزها عن تأمين فرص عمل أو مجالات تنمية للمواطنين من خلال تمكينهم من مخالفة القانون على حساب الصالح العام وبشكل خاص البيئة. وهذا ما نتبينه في قطاعات واسعة أبرزها مخالفات البناء (تم فتح باب تسوية مخالفات البناء الحاصلة طوال خمسة عقود) وقطاعات المقالع والمرامل ولكن أيضا الصناعات غير المرخصة أو غير الخاضعة لأي رقابة جدية، فضلا عن شبكات الإتجار بالمخدرات. من هذه الزاوية، تأمل القوى الحاكمة أن تهدئ غضب شرائح من جماهيرها وخاصة في الهرمل-بعلبك وطرابلس، وأن تضعف تاليا أي توجه لمساءلتها.
وتجدر الإشارة هنا إلى مسألتين:
الاهتمام الفائق بجرائم المخدرات في اقتراح جابر موسى حيث تم تضمينه فقرتين كررتا أحيانا نفس المعنى بل أحيانا معاني متناقضة، بما يشمل القسم الأكبر والأخطر من جرائم إنتاج المخدرات والإتجار بها والترويج لها.
بخصوص الإسلاميين، وفيما يبدو أن الاقتراحين يستثني منه جرائم قتل العسكريين والمدنيين إلا في حال حصولها في إطار التشاجر (وهذا يفتح بابا للاجتهاد والتحايل)، فإنهم يستفيدون من تخفيضات هامة في العقوبة. كما أن اقتراح ياسيم موسى يدخل امكانية الطعن بالأحكام، حتى المبرمة منها.
الخلط بين الحق العام والحقوق الشخصية: نظام أولياء الأمر
من اللافت أن صيغة اقتراح جابر موسى عدلت صيغة الحكومة من خلال إضافة أساسية تمثلت في اشتراط الاستفادة من العفو عن الجنح والجنايات غير المستثناة بالحصول على إسقاط الحق الشخصي، من باب حماية حقوق المجنى عليه (الضحية) بعدما ذهب المشرع إلى توسيع دائرة العفو إلى هذا الحدّ.
أما اقتراح الحريري فقد أدخل تمييزا بين الجنح التي لم تلحق بالغير إيذاء جسديا أو أي ضرر مادي في أمواله المنقولة وغير المنقولة والجنح التي ألحقت بالغير مثل هذا الإيذاء أو الضرر. فلا يتحقق العفو بالنسبة للجنح المشمولة في القانون بالنسبة للفئة الثانية إلا بعد الإستحصال على إسقاط حق شخصي في حال وجوده. بالمقابل، لا يستعيد الاقتراح هذا التمييز بالنسبة للجنايات، بما يجرد الحق الشخصي من أي دور في منح العفو أو حجبه.
ومؤدى ذلك هو الخلط بين الحق العام الذي يعود للمجتمع والحق الشخصي الذي يعود للضحية، من خلال تمكين الضحية من حسم إسقاط الحق العام. ومن شـأن هذا الأمر أن يعيدنا إلى نظام تقليدي قوامه إعطاء عهدة العقاب لأولياء الأمر مع ما يولده ذلك من تمييز في أوضاع الأفراد المرشحين للاستفادة من العفو العام وفق استعدادات هؤلاء، وأيضا من تمييز طبقي بحيث يكون لأصحاب القدرة المالية قدرة استرضاء الضحية بشكل أكبر. كما لا نسهو عما قد يولده هذا الاقتراح في حال إقراره من احتمال حصول ضغوط عارمة على أولياء الأمر لانتزاع موافقتهم. وسياسيا، يرتقب أن يقود هذا المعطى الراغبين في الاستفادة من العفو إلى توسل هؤلاء أو توسل الجهات السياسية التي تمون عليهم، مع ما يستتبع ذلك من تعزيز للزبائنية تجاه هذه الجهات.
التناقض بين الأسباب الموجبة والمضمون
تبرر الحريري اقتراحها بضرورة التخفيف من اكتظاظ السجون. كما تبرره بأن المناطق الأشد حرمانا والتي تعاني من أزمات معيشية هي الأقل استقرارا وقد تشكل بيئة لتفشي الجريمة والتطرف. إلا أن التدقيق في مضمون الاقتراح يظهر حقيقة مختلفة حيث أنه يعود ليستثني من العفو جرائم تكاد تكون ملازمة للفقر المدقع كجرائم التشرد. كما تستثني جرائم قليلة الخطورة (بعض مخالفات) كجرائم السرقة والإخلال بالآداب العامة والجرائم ضد الدين أو عقد قران بين أشخاص لا يسمح لهم دينهم بالزواج. بالمقابل، يشمل العفو وفق هذا الاقتراح جرائم المس بالأمن الداخلي وجرائم التهديد والتهويل وتكوين جمعيات أشرار والاستيلاء على الأملاك العامة ومنع اللبنانيين من ممارسة حقوقهم المدنية أو حرياتهم النقابية كما حصل مع عمال سبينس وفق المادة 329 من قانون العقوبات. بالمقابل، وتحت غطاء تفهم ظروف المزارعين في البقاع، يصل اقتراح جبر موسى إلى العفو عن مافيات كبار تجار المخدرات هذا عدا العفو عن التهرب الضريبي والجرائم البيئية وتهريب الرساميل إضرارا بالدائنين وما إلى ذلك من جرائم ترتكبها الجهات الأكثر نفوذا.
اكتظاظ السجون في زمن الكورونا
أخيرا، تبرر الحريري تقديم اقتراح قانون معجل مكرر بضرورة الحد من اكتظاظ السجون. ننتظر إذ ذاك أن الإقتراح سيشمل مجمل الجرائم قليلة الخطورة، إلا أننا سرعان ما نتفاجأ بخيارات غير منطقية ومتضاربة وغير مبررة بما يعفيه الإقتراح أو لا يعفيه. ويكاد يكون الخيار في هذا الخصوص طبقيا جدا كاستثناء التشرد أو السرقة من العفو مقابل اشتمال العفو للتهويل والتهديد، بل أيضا استثناء تخريب الأملاك العامة من العفو مقابل اشتمال العفو للاستيلاء عليها.
أيا يكن، فإن تبرير العفو العام باكتظاظ السجون يبقى غير مبرر ومخالفا لمبدأي التناسب والضرورة للأسباب الآتية:
أنه بالإمكان تخفيف إكتظاظ السجون من خلال اتخاذ اجراءات تكون أكثر توافقا مع العدالة، كأن يعلق العمل بأحكام التوقيف الاحتياطي بالنسبة للجرائم التي ليست شديدة الخطورة والمرتكبة قبل صدور القانون. فمن المعلوم أن أكثر من 50% من المحتجزين حاليا هم موقوفون احتياطيا وأن من شأن إصدار قانون كهذا أن يقلص سكان السجون بحدود النصف، وأن يجعل أعدادهم تاليا أكثر تناسبا مع سعة الاستيعاب لهذه السجون، من دون أن يؤدي إلى ضياع الحقوق.
أن اقتراحي القانون لا يقتصران على السجناء أو المحتجزين إنما يمتدان لأضعاف هؤلاء ممن هم فارون من العدالة أو يخضعون لمحاكمات أو يتمتعون بحصانات فعلية تمنع محاكمتهم حاليا. من هذه الزاوية، يكون اشتمال هؤلاء بقانون العفو العام غير مبرر بالضرورة، أقله ليس بأزمة الكورونا
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً