بقلم ذ عبد الناصر ابراهمي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
باحث في المساطر القضائية
يقصد بمصطلح الإدارة القضائية هنا جميع أطر وموظفي وزارة العدل والحريات سواء داخل المحاكم أو بالإدارة المركزية والمصالح التابعة لها، وكذا الأعمال التي يقومون بها، و كل الوسائل التي رصدت لتحقيق هذه الغاية؛ وبذلك يكون في تقديرنا مصطلح الإدارة القضائية أعم من مصطلح كتابة الضبط، مادام أن هذه الأخيرة تطلق على الجهاز العامل بالمحاكم- إلى جانب الجهاز القضائي- بمختلف درجاتها.
وتنطلق أهمية هيئة كتابة الضبط من كونها عصب العملية القضائية برمتها، فهي التي تباشر مختلف الإجراءات منذ انطلاق الدعوى عن طريق الشكاية أو المقال الافتتاحي مرورا بإجراءات سيرها إلى حين صدور الحكم وانتهاء بتنفيذ الأحكام القضائية. وهي المخاطب لجميع المرتفقين من المتقاضين ومساعدي القضاء من محامين وعدول ومفوضين قضائيين وغيرهم، و هو ما يبرز جسامة المهام الملقاة على عاتق هذه الشريحة من موظفي الدولة، وهي مهام ذات طبيعة قضائية وإدارية وتقنية ومحاسباتية …
وقد حددت المادة الثالثة من النظام الأساسي لهيئة كتابة الضبط المهام الموكولة للمنتمين إليها بالقول : “يمارس الموظفون المنتمون لهيئة كتابة الضبط، تحت سلطة رئيس الإدارة، المهام التي تدخل في مجال اختصاصهم بموجب النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، ويساعدون القضاء على أداء رسالته”.
وبالرغم من أن هذا التوصيف في فقرته الأخيرة يعتبر – من ناحية – أقل دقة من حيث اعتباره لعمل جهاز كتابة الضبط مجرد مساعد للقضاء مع أن كليهما يستند إلى النصوص والقواعد القانونية الجاري بها العمل في أداء مهامه، فإنه – من ناحية أخرى – يعتبر أكثر تقدما مع مرسوم 2008 الذي كان يختزل عمل كتابة الضبط في تنفيذ “ما تأمر به المحكمة من إجراءات مسطرية …”. ولا يخفى ما في هذا التعبير من تحقير وتبخيس للدور الذي تطلع به الإدارة القضائية. وهو ما استدعى في حينه ردا واعيا تمثل في خوض كتابة الضبط لجملة معارك نضالية انتهت بإسقاط – ولو بشكل نسبي – ما أطلق عليه آنذاك “قانون العار”.
وبالعودة إلى محورية العمل الذي يطلع به أطر وموظفو الإدارة القضائية، والذين يشكل عددهم ما يناهز 80% من مجموع الموارد البشرية العاملة بوزارة العدل، ويدبرون ما نسبته أكثر من 90% من العملية القضائية. ورغم كل هذا فإن نظرة الأطراف المتدخلة في العملية القضائية مازالت نمطية وقاصرة تجاه هذه الشريحة الهامة، ومازال يتعامل مع أطر وموظفي الإدارة القضائية على أنهم ليسوا من مكونات السلطة القضائية.
وقد أدى هذا الفهم القاصر من قبل الساهرين على شؤون العدالة ببلادنا إلى انعكاسات سلبية على عمل الإدارة القضائية، زاد من حدته جنوح هؤلاء نحو تقزيم صلاحيات وأدوار كتابة الضبط وشل حركة وإبداعات الطاقات التي أضحت تتوفر عليها هذه الهيئة. وهو ما ترتب عنه تراكم القضايا الرائجة أمام المحاكم وساهم بشكل كبير في غياب النجاعة القضائية.
وعلى ضوء ما تقدم يبدو من المهم الوقوف على مكامن الخلل في عمل الإدارة القضائية، قبل الحديث عن وضعية كتابة الضبط على ضوء القوانين المؤطرة لعملها، والبحث في مدى إمكانية تحقيق استقلالية الإدارة القضائية كأداة لتحقيق النجاعة القضائية، إذا ما واكبتها آليات أخرى كالتحديث والهيكلة. وهذه المحاور الثلاثة هي التي ستشكل صلب هذا الموضوع.
المحور الأول : مظاهر الخلل في عمل الإدارة القضائية
وإذا أردنا الوقوف على الأعطاب التي تقف دون قيام الإدارة القضائية بالمهام المنوطة بها على الوجه الذي يعيد الطمأنينة للمرتفقين، فإنه علينا الرجوع إلى عدد من الأسباب التي تحول دون تحقيق هذه الغاية، ومنها :
1- عدم وضوح قواعد و معايير العمل الإداري، إضافة إلى سوء تصريف الأشغال وتراكم القضايا وارتفاع حجم المخلف والإحساس بالرتابة، وهو ما انعكس على جودة المنتوج القضائي.
2- عدم تمثيل وإشراك موظفي الإدارة القضائية في الجمعية العمومية التي تنعقد مع نهاية كل سنة بغية إعادة توزيع الجلسات والتي لا يحضرها سوى رئيس كتابة الضبط.
3- الازدواجية في التعاطي مع أطر وموظفي الإدارة القضائية : هل هم جزء من السلطة القضائية وبالتالي وجب أن يسري عليهم ما يسري على المنتمين للسلك القضائي من امتيازات وحماية قانونية …؟ أم أنهم ينتمون إلى سلك الوظيفة العمومية ويجب أن يسري عليهم ما يسري على سائر المنتسبين لهذه الوظيفة ؟.
4- غياب إشراك حقيقي لممثلي الإدارة القضائية في إعداد وصياغة القوانين التي تهم شؤون العدالة. وآخر هذه الفصول تغييب التمثيليات النقابية عن المشاورات التي همت مشاريع القوانين تم عرضها في إطار تنزيل مضامين ميثاق إصلاح منظومة العدالة.
5- استحواذ الجهاز القضائي على أعمال الإدارة القضائية وسيادة العشوائية في تدبير هذه الأخيرة، وغياب تصور واضح سواء من ناحية الهيكلة أو توصيف المهام أو تحديد المسؤوليات، حيث إن التداخل الحاصل بين مهام المسؤول الإداري والمسؤول القضائي الذي يعتبر رئيسا مباشرا لهذا الأخير… يؤدي إلى توزيع المسؤولية بين عدة أطراف : المسؤول القضائي، رئيس كتابة الضبط، موظفو الإدارة القضائية… كما أن عدم اعتماد مرجعية الوظائف والكفاءات في عمل الإدارة القضائية من شأنه أن يطيل من عمر الارتباك والعشوائية في تدبير أشغالها.
6- غياب التواصل بين المنتسبين إلى هيئتنا مما يؤثر سلبا على مستوى الوعي الجماعي لدى هذه الفئة، وغياب الموقف المؤسساتي بخصوص معالجة عدد من الاختلالات، وترك الأمر للمبادرات الفردية التي تظل عاجزة عن مسايرة كل الخروقات والظلم الواقع على هيئتنا… ويشكل ضعف التكوين إحدى مسببات هذه الوضعية؛ مما حذا بالهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة وفي إطار “إنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة” أن توصي بخلق “مدرسة وطنية لكتابة الضبط” لمعالجة مشاكل التكوين والتكوين المستمر لدى العاملين بالإدارة القضائية واستجابة لمطالب التمثيليات النقابية.
وإذا ما أردنا تصنيف المعوقات التي تحول دون اطلاع الإدارة القضائية بالأدوار المنوطة بها وجدنا أن منها ما هو تشريعي، والحل هنا يكمن في الرقي بالمركز القانوني لكتابة الضبط على كافة المستويات، ومنها ما هو إداري وتبدو فيه الكلمة القفل هي تحقيق استقلالية جهاز كتابة الضبط بدءا من مؤسسة رئيسها مرورا بتدبيرها وبصلاحيتها وانتهاء بدورها في الإدارة والإجراءات القضائية .
المحور الثاني : وضعية الإدارة القضائية على ضوء القوانين المؤطرة لعملها
لعل المتتبع للنصوص التشريعية المنظمة لعمل كتابة الضبط والإدارة القضائية عموما سيلاحظ أن هذه النصوص بما فيها تلك التي صدرت حديثا لم تعمل على تعزيز مكانة كتابة الضبط، بل أخذت منحى تنازليا عبر تجريد هذه الهيئة من عدد من اختصاصاتها وتفويتها للقضاة. ولسنا هنا في وضعية خصومة مع السادة القضاة الذين نحترمهم ونقدر مجهوداتهم ونريد أن تكون هذه الخصال متجدرة بيننا وبينهم كشركاء في العملية القضائية، وإنما هي وجهة نظر نستعرضها وفق رؤيتنا للواقع.
وأول هذه النصوص النظام الأساسي لهيئة كتابة الضبط الذي حصر أطرها وموظفيها في ثلاث فئات هم : كتاب الضبط والمحررون والمنتدبون، وجعل نظام الترقية غير ممكن إلا في نفس الإطار، كما أنه لم يعمل على تغيير اسم الهيئة ومنتسبيها على الرغم من أن هذا الأمر ظل لوقت طويل مطلبا للتمثيليات النقابية نظرا لحمولته السلبية، التي توحي وكأن هناك من يملي وهناك من يكتب. وكرس التراجع عن التسميات التي كان يتضمنها مرسوم 1967 والتي كانت لها قيمة معنوية كتسمية “منتدب قضائي إقليمي رئيس” التي تم تعويضها بمنتدب قضائي من الدرجة الأولى…..
كما أن هذا النظام لم يعمل على توصيف مهام المنتسبين إلى هذه الهيئة بل أوكل إلى وزير العدل أن يحدد بقرار المهام التي يمكن أن تسند إلى كل إطار من أطر كتابة الضبط. إلا أن وزارة العدل والحريات حاولت تجاوز هذا الإشكال عبر إصدار مشروع الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات، غير أن هذا المشروع نفسه جاء محبطا في الكثير من بنوده التي عمدت إلى تقـزيم دور كتابة الضبط عن طريق سحب مزيد من الاختصاصات منها ومنحها للجهاز القضائي، وهذا ما يمكن أن نستشفه من الاختصاصات والصلاحيات التي أعطاها لكل من قاضي شؤون الأسرة والقاضي المكلف بمتابعة إجراءات التنفيذ التي توحي وكأن العاملين بهذه الأقسام هم مجرد مأمورين لا صلاحيات لهم، بل ينتظرون تعليمات لتحدد لهم ما يتعين القيام به. وقد تم تكريس هذا التوجه من خلال مسودات مشاريع القوانين التي صدرت وخاصة مسودتي قانون المسطرة المدنية والجنائية، أما مسودة القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة فحدث ولا حرج !!
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : ألا ينم هذا السلوك من طرف واضعي هذه المشاريع عن افتراض الكفاءة والنزاهة في القاضي واستبعادها أو نفيها عن أطر وموظفي الإدارة القضائية…؟!. ثم ألا يبدو من المفارقات الغريبة أنه في الوقت الذي كانت فيه كتابة الضبط تعاني شحا في الأطر والكفاءات كانت تطلع بمهام مختلفة إدارية وقضائية، وحين أضحت هذه الهيئة زاخرة بالكفاءات والأطر من حملة الشهادات العليا في تخصصات مختلفة نحت وزارة العدل منحى معاكسا عن طريق سحب مزيد من الاختصاصات من الإدارة القضائية ومنحها للجهاز القضائي ؟.
كما أن قانون قضاء القرب الذي صدر على أنقاض محاكم الجماعات والمقاطعات نص في مادته الثانية على أنه “تتألف أقسام قضاء القرب من قاض أو أكثر وأعوان لكتابة الضبط أو الكتابة”. ولا نعرف هل واضعي هذا القانون ينظرون إلى كتابة الضبط على أنها مجموعة من الأعوان أم أن العمل في هذه الأقسام هو حكر على هؤلاء أم شيء آخر ؟.
ثم إن النصوص المؤطرة لعمل كتابة الضبط وعلى رأسها قانون المسطرة المدنية والجنائية جاءت حافلة بالكثير من الفصول والمواد التي يتعين تغييرها لأنها من جهة لا تتوافق مع الأهداف التي من أجلها وجدت كتابة الضبط، وخاصة من خلال الأدوار التي يطلع بها كاتب الجلسة كشاهد أمين على الجميع بما فيهم الهيئة القضائية، وهذا الهدف لن يتحقق إذا كان كاتب الجلسة في وضعية التبعية، ومن جهة ثانية فإن هذه المواد تتضمن في حقيقة الأمر عبارات مسيئة ولا تليق بالأدوار التي تطلع بها كتابة الضبط، وهي بالصيغة التي وردت بها توحي وكأن كاتب الضبط هو كاتب للقاضي يملي عليه ما يشاء، وهنا أزعم أن هذا لم يكن قصد المشرع بدليل ما ذكرناه سابقا، وبدليل أن “محضر الجلسة” هو بمثابة أداة للرقابة على الجميع : قضاة، وكتابة الضبط، ومساعدي القضاء وأطراف الدعوى، إنه – كما عبر أحدهم – ضمير الملف الذي يسجل على الجميع دون خضوع إلى التوجيه أو الإملاء، فهو يرسم المراحل والخطوات التي يعرفها مسار الدعوى القضائية، ويراقب الإجراءات المأمور بها من طرف المحكمة ومدى إنجازها في وقتها. ومن هنا يبدو غريبا ومستهجنا ما ورد ببعض بنود قانون المسطرة الجنائية وخاصة المادتين 100 و119 على سبيل المثال، اللتين نصتا على التوالي على أنه : “يمكن لقاضي التحقيق بعد إخبار النيابة العامة بمحكمته، أن ينتقل صحبة كاتبه قصد القيام بإجراءات التحقيق…” و “يستمع قاضي التحقيق بمساعدة كاتبه إلى كل شاهد على حدة وبدون حضور المتهم…”.
ولم يشذ قانون المسطرة المدنية عن هذا المنحى في التقليل من شأن كتابة الضبط عبر مجموعة من الفصول، منها الفصل 37 الذي نص في سياق الحديث عن المكلفين بالتبليغ على أنه “يوجه الاستدعاء بواسطة أحد أعوان كتابة الضبط” علما أن النظام الأساسي لكتابة الضبط حدد المنتمين لهذه الفئة في ثلاث أصناف هم : كتاب الضبط، المحررون والمنتدبون. ولا نرى بين هذه الفئات الثلاث ما يشير إلى ما ورد به الفصل المذكور. وكذلك تكرر هذا المصطلح في الباب المتعلق بالقواعد العامة بشأن التنفيذ الجبري للأحكام في العديد من الفصول.
ولتجاوز هذا الوضع الشاذ ومعالجة كل هذه السلبيات التي تساهم بشكل كبير في تعطيل وإرباك عمل الإدارة القضائية نعتقد أنه لا بد من اتخاذ خطوات ملموسة في اتجاه إقرار وضع أفضل لكتابة الضبط، يقيها تغول الأطراف الأخرى ويمكنها من الاطلاع بالأدوار التي أوكلها إليها المشرع على الوجه الأمثل. وهذا يعني أن المعركة بالنسبة لمنتسبي الإدارة القضائية يجب أن تعطى في هذه المرحلة للجانب التشريعي بما يقتضيه ذلك من التوحد حول القضايا المصيرية، واتخاذ مبادرات وربط اتصالات مع كل الجهات التي يمكن أن تساهم في الرقي بالمركز القانوني لهيئتنا، ويحقق لها ما تصبو إليه من حوافز مادية ومعنوية وحماية قانونية. مع التأكيد على أن بلوغ كل هذه الأهداف لن يتأتى إلا في إطار استقلال الإدارة القضائية عن السلطة القضائية بما يستلزمه ذلك من استحضار لأبعادها القانونية والتشريعية من جهة، إضافة إلى أبعادها الهيكلية المؤسساتية والوظيفية من جهة ثانية.
المحور الثالث : استقلالية الإدارة القضائية آلية من آليات النجاعة القضائية
إذا كان من المعلوم أنه لا يكفي لضمان استقلالية كتابة الضبط أو الإدارة القضائية أن يتم التنصيص على ذلك في النظام الأساسي لهذه الهيئة بل لا بد من تكريس هذه الاستقلالية في كل النصوص التي تتصل بكتابة الضبط وتنظم عملها. فإن السؤال الذي قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين والذي يتطلب منا إجابة وافية هو: ما السر وراء إصرار أطر وموظفي الإدارة القضائية على مطلب الاستقلالية ؟
أولا : المبررات المنطقية لاستقلالية كتابة الضبط
إن المطالبة باستقلالية الإدارة القضائية عن السلطة القضائية لا تنطلق من كونها مطلبا فئويا، بل مردها إلى مبررات منطقية واعتبارات موضوعية منها :
v إن قرار استقلال هيئة كتابة الضبط، سيجعل المسؤول الإداري مكشوفا في تحمل المسؤولية عن أي انحراف أو أخطاء تشوب الممارسة اليومية للإدارة القضائية، ذلك أن الوضع الذي نعيشه اليوم والذي يتسم بالتداخل بين عمل المسؤول الإداري والمسؤول القضائي يجعل كل واحد منهما يلقي بالمسؤولية على الطرف الآخر، فيكون مرفق العدالة هو الضحية ومن خلفه المتقاضي والمواطن عموما. ولهذا وجب أن يكون التسيير والتدبير الإداريين لشؤون موظفي كتابة الضبط اختصاصا حصريا لرئيسهم المباشر، أي المسؤول الإداري الذي يجب أن يتمتع بكامل الصلاحيات الإدارية والتدبيرية داخل المحكمة، مع الحث على إحداث عدة أقسام ومصالح وشعب داخل المحكمة يترأسها مسؤولون إداريون، يعملون تحت إمرته ويتولون الإشراف على الأقسام والمصالح والمكاتب والشعب لتسهيل سير العمل ومنحه مرونة أكثر ودينامية أكبر من التي هو عليها الآن من خلال تبني هيكلة محكمة للإدارة القضائية.
v أبانت التجربة الحالية أن بعض المسؤولين القضائيين يستغلون الغموض التشريعي بشأن تحديد هذه الاختصاصات تحديدا دقيقا فيعمدون إلى السطو على ما يعد من اختصاصات المسؤول الإداري، مستندين في ذلك على سلطتهم الرئاسية تجاه هذا الأخير، وربما تطبيقا للقاعدة القائلة : “الرئيس يملك ما للمرؤوس وزيادة…”. ومن ثمة فإن العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين المسؤول الإداري والمسؤول القضائي هي علاقة تنسيق وتكامل وليس علاقة رئاسة وتبعية.
v الاستقلالية لا تعني القطيعة والتجزيء ولا التصادم والتنازع بل هي تفعيل لبنيات إدارية ودفع لها نحو التكامل والتنسيق بغية تحقيق المصلحة العامة وإنجاح السياسات العمومية، وهي بذلك مفهوم مقرون بـ : التوصيف الدقيق والحصري للمهام والاختصاصات، وتحديد للمسؤوليات، ولبنيات وآليات الرقابة على المشروعية والجودة .
v ضمان الاستفادة القصوى من الموارد البشرية للإدارة القضائية وبنياتها التخصصية، من خلال تدبير عقلاني للأطر الإدارية التي تزخر بها كتابة الضبط مع احترام إسناد المهام التي تتلاءم مع طبيعة المؤهلات والتخصصات العلمية، بما يمكن من ممارسة الإطار الإداري لمهام تسهم في تطوير مؤهلاته وكفاءاته الحقيقية، باتجاه خدمة الصالح العام وإنجاح السياسة الحكومية لقطاع العدل.
وإذا كانت هذه المبررات غير كافية لتمكين لكتابة الضبط من العمل في إطار من الاستقلالية بالنسبة لأنصار بقاء الوضع على ما هو عليه، فليسمحوا لنا لنضع عليهم بعض الأسئلة، منها:
v ما هي القيمة المضافة التي يمكن أن يضفيها إشراف هذا القاضي أو ذاك على الإجراءات التي تعد من صميم عمل كتابة الضبط ؟ ألا يكون رؤساء الإدارة القضائية ممن خبروا العمل داخل هيئة كتابة الضبط هم الأجدر بالاطلاع بهذه المهام ؟
v ألا يعد هذا السلوك انتقاصا واحتقارا للإطار الإداري ؟ أليس هؤلاء هم خريجي المدارس والمعاهد المغربية ؟ أليس زملاؤهم في القطاعات الأخرى ممن يحملون نفس الكفاءات هم الذين يشرفون على سير العمل بها ؟ أم أن الأمر لا علاقة له بالكفاءة بل بمن يمسك قواعد اللعبة داخل القطاع ؟ أليس حريا بالسادة القضاة أن يتفرغوا لتجهيز ملفاتهم وفض النزاعات المعروضة عليهم عوض القيام بمهام لا تدخل في صميم عملهم، ولا تشكل الغاية التي من أجلها ألحقوا بسلك القضاء ؟
ثالثا : التصورات المؤطرة لفكرة استقلال الإدارة القضائية
يمكن القول إن مسألة الاستقلالية يتجاذبها تصوران اثنان :
Ø التصور الأول : يرفض أي استقلالية للإدارة القضائية عن السلطة القضائية، وهذا التصور يمكن نعته بالمحافظ على اعتبار أنه يفضل إبقاء الوضع على ما هو عليه، بحيث يحتفظ رئيس المحكمة بكل صلاحيات التسيير المالي والإداري للمحكمة المخولة له حاليا، على أن يتلقى تكوينا خاصا بذلك في مجال التسيير والتدبير الإداريين بالمعهد العالي للقضاء في إطار ما يعرف بالتكوين التخصصي، والذي ينتهي بالحصول على شهادة، يتعين أن تؤخذ بعين الاعتبار عند تعيين المسؤولين القضائيين.
وهناك من يضيف إلى هذا التصور إحداث منصب جديد بالمحكمة تحت مسمى كاتب عام أو مسير إداري، يتبع لرئاستها ويتولى تحت سلطة الرئيس تسيير وتدبير مصالح الإدارة القضائية للمحكمة وكذا العلاقة مع الوزارة الوصية، كما يمكن لهذا الأخير الحصول على تفويض من رئيس المحكمة بالتوقيع في المسائل المتعلقة بتنفيذ الميزانية وتدبير شؤون الموظفين.
وبذلك تظل الإدارة القضائية حسب هذا التصور تابعة للسلطة القضائية. ويستند أصحاب هذا التصور إلى التداخل الكبير بين ما هو إداري وما هو قضائي داخل المحاكم، مما يصعب معه خروج الإدارة القضائية عن سلطة المسؤول القضائي.
Ø التصور الثاني : يذهب في اتجاه الفصل التام بين السلطة القضائية والإدارة القضائية، بحيث يمنع على الجهاز القضائي تولي شؤون التدبير المالي والإداري، ويرى أن هذه المهام يجب أن تناط بمسؤول إداري مختص، له من الدراية والكفاءة ما يؤهله لتطوير فعالية الإدارة القضائية.
والحقيقة أن كلا التصورين حاولت وزارة العدل والحريات ترجمتهما من خلال الصيغة ما قبل الأخيرة لمشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وتحديدا في المادة 52 منه، إلا أنها سرعان ما تراجعت عن ذلك لتكتفي في الصيغة الأخيرة التي تمت المصادقة عليها في المجلس الوزاري بالتنصيص في المادة 51 من المشروع على أنه “تحدث هيئة مشتركة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل تتولى التنسيق في مجال الإدارة القضائية، تعمل تحت إشراف كل من الرئيس المنتدب للمجلس والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، كل فيما يخصه، بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية.
يحدد تأليف الهيئة واختصاصاتها بقرار مشترك للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل”.
ومهما يكن من أمر فإن مسألة الاستقلالية الإدارية كخطوة أولى من شأنها أن تعزز وضع كتابة الضبط والإدارة القضائية عموما من حيث إنها تساهم في تحديد المسؤوليات، ومن ثمة تسهيل ربط المسؤولية بالمحاسبة التي نص عليها دستور يوليوز 2011 .
غير أن تبني هذا التصور يستلزم بالضرورة مجموعة من الإجراءات المواكبة، على رأسها تحديث الاطار القانوني لهيئة كتابة الضبط وإعادة تنظيمها وهيكلتها، بالإضافة إلى اعتماد مرجعية الوظائف والكفاءات في عمل الادارة القضائية كما أوصت بذلك لجنة الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة.
ولإعطاء المسؤول الإداري المكانة الاعتبارية اللائقة به كمسؤول أول عن الإدارة القضائية – طبقا لهذا التصور – يتعين أن :
§ يتم اختياره من بين أطر وموظفي كتابة الضبط
§ يخضع قبليا لتكوين متخصص وملائم لاسيما في مجال التدبير والتسيير الإداري.
§ يعين بقانون لإضفاء القيمة والمكانة الاعتبارية.
§ يخضع للسلطة الرئاسية المباشرة لوزير العدل والحريات دون السلطة الرئاسية للمسؤول القضائي.
§ يخضع لسلطة رقابة ” تفتيش ” كتابة الضبط و لبنيات تهتم ب “التدقيق الإداري” .
§ تنقيطه و ترقيته و تأديبه …. تتم كما هو الشأن بالنسبة للمسؤولين القضائيين بناء على إحصائيات ومؤشرات الشكايات، المعالجة والتتبع المعلوماتي ….
§ يوضع تحت سلطته الرئاسية رؤساء المصالح والشعب بالدائرة الاستئنافية – محكمة الاستئناف والمحاكم الابتدائية – مع إمكانية إحداث ووضع هيئة للتدبير والتتبع تحت سلطته وتنظيم عملها.
وفي إطار تفعيل البعد اللا ممركز في تدبير الإدارة القضائية، ولتجنب تداخل وتضارب الاختصاصات، ينسق المسؤول الإداري بكيفية دورية وكلما دعت الضرورة مع المسؤولين القضائيين ويرفع تقارير للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل حول سير العمل والإجراءات المتخذة.
بعد استعراض التصورين معا نخلص إلى أن التصور الثاني يبقى الأكثر واقعية والأقرب للتطبيق، نظرا لما عرفه المغرب في السنوات الأخيرة من تغير جوهري في مساره الديمقراطي وخاصة بعد المصادقة على دستور 2011 الذي نص بشكل واضح على فصل السلط لأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية، كما أن تنصيصه على مبدأ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة يقتضي فصل الإدارة عن القضاء لضمان حكامة جيدة، وتحديد المسؤوليات بشكل واضح.
إضافة إلى ذلك فإن خضوع الإدارة القضائية لرئاسة السلطة القضائية، يفرغ مؤسسة رئيس كتابة الضبط من محتواها الإداري ويفقدها الكثير من هيبتها، بل وفي أحيان كثيرة يسلبها العديد من اختصاصاتها، علاوة على أن الموظف في هذه الحالة يصير أمام العديد من المخاطبين خاصة في حالات وقوع مشاكل أو أخطاء مهنية تستدعي المتابعة والتأديب.
بقلم ذ عبد الناصر ابراهمي
باحث في المساطر القضائية
اترك تعليقاً