الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية
الاستاذة هاجر سطلاوي
لقد كانت الغاية الأساسية من إحداث القانون الجزائي تمكين الدولة من ممارسة سلطتها وفرض احترامها للحد من الاضطرابات التي قد تحدث في المجتمع، فتمس الأمن والسلامة وذلك من خلال عنصري التجريم والعقاب الذين يخضعان عند تطبيقها لمبدأ المساواة بين الأفراد ومبدأ المساواة من المبادئ التي يرمي الأفراد والمجتمع إلى تحقيقها وذلك منذ ظهور القوانين الطبيعية منها والوضعية لكن وفي حالات كثيرة قد يختل تطبيق المبدأ المذكور لتتدخل صفة الجاني أو المجني عليه في التجريم والعقاب للتمييز بين الأفراد.
فالتطور الاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي عرفته البلاد التونسية منذ منتصف القرن العشرين أدى إلى ارتفاع عدد الموظفين بالدولة وبمختلف المصالح والمؤسسات التابعة لها الأمر الذي نتج عنه تعدد وتنوع في التجاوزات التي يمكن أن يرتكبها هؤلاء الموظفين أثناء قيامهم بمهامهم الوظيفية .
لذلك اعتنى المشرع عناية متواصلة بالموظف العمومي تظهر أولا من خلال تخصيصه بعدة نصوص صلب المجلة الجزائية وثانيا بإدخال عديد التنقيحات على هذه النصوص لجعلها متماشية مع مقتضيات الوظيفة العمومية.
فالسّمات التي يفترض أن تتوفر في الموظف العمومي هي الثقة والولاء وتقدير المسؤولية حق قدرها فهو “خادم ” السلطة العامة وهو في ذات الوقت المجسد واقعا لذلك السلطة لذلك يتعين علي الموظف أن يتحاشي كل تضارب بين مصالحه الشخصية والمصالح العليا للدولة ، لهذا منح الموظف تعريف واسع في القانون الإداري والقانون الجزائي إلا أن هذا المفهوم الموسع للموظف العمومي يعتبر سلاحا ذو حدين بالنسبة له فهو يحميه عندما يكون عرضة للاعتداءات لكنه ينقلب عليه عندما يكون هو المرتكب للاعتداءات.
.I بروز الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية
المفروض أن يحرص الموظف على تأمين الوثائق الإدارية ومنع تسريبها أو حتى الاطلاع عليها من طرف الغير ولكن هذا المبدأ له استثناء إذ من حق المواطن الاطلاع على الوثائق الإدارية وذلك منذ صدور المرسوم عدد 41 لسنة 2011 والمتعلق بحق النفاذ إلى الوثائق الإدارية.
أ- تعريف الحماية الجزائية الوثائق الإدارية
الحماية الجزائية هي تلك الحماية التي يقررها القانون الجزائي من خلال تجريم الأفعال التي تشكل اعتداء على سرية الوثائق وتقرير عقوبات جزائية لها ويتدخل القانون الجزائي لفرض حمايته على هذه السرية كلما اكتسى الفعل ثوب الجريمة وبالرجوع إلى نصوص القانون الجزائي نجد أن المشرع قرر جملة من الأحكام الزجرية لحماية سرية الوثائق من أي اعتداء يهدف إلى النيل من حرمتها وقداسيتها أو استغلالها في غير المقاصد التي أصدرت من أجلها.
أما السرية هذا التعريف يتكرر تقريبا في جل المعاجم إذ عرف كل من القاموس المحيط والمختار الصحاح و المعجم العربي الحديث لاروس ومعجم المصطلحات القانونية السر بكونه أما من الناحية القانونية فان المشرع لم يورد تحديدا لمعنى السر ولا هو يستطيع ذلك إن أراد لأن التحديد غير مستطاع ويجب أن يرجع في ذلك إلى العرف والى ظروف كل حادثة على انفرادها .
ومهما يكن من أمر فان السر بمفهومه القانون لا يبتعد كثيرا عن مدلوله اللغوي الذي أشار إليه صاحب لسان العرب .
إذ قدم العديد من الفقهاء تعاريف تتفق في روحها وان اختلف في عبارتها وفي الأسس والمعايير التي انبنت عليها.
فذهب البعض إلى الأخذ بمعيار الضرر معتبرا أن السر هو كل ما يضر إفشاؤه بسمعة مودعه أو كرامته، لكن هذا الرأي أعيب عليه أن الواقعة تكون سرّا على الرغم من أن إفشاءها قد لا يضر بالمجني عليه بل قد يشرفه، كمثل الطبيب الذي يفشي السر إذا أعطى لغير المريض شهادة بخلوا الأخير من الأمراض .
وذهب رأي آخر إلى الأخذ بفكرة الإرادة معتبرا أن الأمر يعد سرّا إذ كان من أودعه أراد كتمانه، ويؤخذ على هذا الرأي أن صاحب السر قد يكون غير عالم به فأحيانا كثيرة يكون اكتشاف السرّ من طرف الأمين ناتجا عن ذكاءه أو خبرته.
وانصرف شق كبير من الفقهاء إلى الأخذ بمعيار المصلحة مبينين أن السر هو واقعة أو صفة ينحصر نطاق العلم بها في عدد محدود من الأشخاص إذا كانت ثمة مصلحة يعترف بها القانون لشخص أو أكثر في أن يظل العلم بها محصورا في ذلك النطاق.
والمتأمل في جملة هذه التعاريف، يلاحظ إجماعها على ضابطين متكاملين يحددان انتهاء واقعة معينة إلى زمرة الأسرار من عدمه.
أما الوثائق الإدارية فإنه لا يوجد في التشريع التونسي تعريف دقيق لمصطلح الوثيقة الإدارية وإنما تم استعمال هذا المصطلح في عديد النصوص القانونية والترتيبية دون تحديد تعريف له، وبدراسة هذه النصوص يتبين أن المشرع التونسي استعمل مصطلح الوثيقة الإدارية في معنى الوثيقة العمومية المتداولة في الإدارة التونسية.
أما بالنسبة للتعريف اللغوي و الاصطلاحي تعرف الوثائق الإدارية كما يلي .
ونظرا لأهمية الوثيقة الإدارية فلقد عرفها التشريع الفرنسي كالأتي من خلال القانون التالي:
Loi n 78-753 du 17-7-1978 relative a l’accès aux documents administratif
فحسب هذا التعريف فان المشرع الفرنسي أعطى تعريف واسعا للوثيقة الإدارية من خلال الاعتماد على مفهوم المرفق العام وباستيعابه لكل أشكال الوثائق : مكتوبة أو مسجلة (تسجيل صوتي أو مرئي) أو رقمية أو إعلامية ولكن كان حريصا على شرط وجود علاقة عضوية كافية ومباشرة بين الوثيقة والمهمة التي مارسها الهيكل في إطار تسيير المرفق العام.
ب. تعريف المشرع للوثيقة الإدارية:
أما بالنسبة للتشريع التونسي ونظرا لغياب تعريف دقيق لمصطلح الوثيقة الإدارية فقد تم استعمال لهذا المصطلح في عديد النصوص القانونية والترتيبية ومنها المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المؤرخ في 26 ماي 2011 والمتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية يعرف الوثائق الإدارية بما هي الوثائق التي تنشئها الهياكل العمومية أو تتحصل عليها في إطار مباشرتها للمرفق العام وذلك مهما كان تاريخ هذه الوثائق وشكلها ووعاؤها”.
فالمشرع التونسي يعرف الوثيقة الإدارية بما هي الوثيقة العمومية المنتجة من الهياكل العمومية على عكس المشرع الفرنسي الذي يركز على مفهوم المرفق العام ولو تكفل بتسيير مرفق خاص فالمرسوم عدد 41 لم يتعرض للهيئات العمومية المستقل هياكل القطاع الخاص التي تتولى تأمين مرفق عمومي.
أما من الناحية القانونية وفي الواقع فان التعريفات السابقة وان لم تحدد بالضبط السرية في علاقتها بالوثائق الإدارية إلا أنّها تقربنا منه إلى حد كبير فهي تتضمن بلا شك بعض العناصر التي يسترشد بها القاضي لتحديد ما يعتبر من سر المهنة أو الوظيفة، ولعل أسلم التعريفات هو ذلك التعريف الذي حدد مفهوم السر بأنه ” صفة تخلع على موقف أو مركز أو خبر أو عمل، مما يؤدي إلى وجود رابطة تتصل بهذا الموقف أو المركز أو الخبر، بالنسبة لمن حق العلم به، وبالنسبة لمن يقع عليه الالتزام بعدم إذاعته.
ولعل هذا التعريف له ميزتان: الأولى أنه يصدق على جميع الأسرار المهنية والوظيفية الثانية، أنه أبرز العناصر القانونية والعناصر الفنية للواقعة السرية، فهو قد أكد على العناصر القانونية بما تشمل عليه من تحديد للواقعة محل السر، وأطرافها، ثم أنه أبرز العناصر الفنية للواقعة السرية وما تنبني عليه من أسس ومقومات، وهي: عدم شيوعها للكافة وارتباطها بالمهنة أو الوظيفة .
II. واجب الموظف العمومي بالمحافظة علي الوثائق الإدارية:
لابد من توضيح أن واجب السرية هو الواجب المحمول على كافة الأعوان العموميين وفي التأكيد على واجب الالتزام بسرية الوثائق الإدارية رغبة كبيرة من لدى المشرع في محاربة ظاهرة الفساد الإداري الذي يعرف بأنه الإخلال بشرف الوظيفة ومهنتها وبالقيم والمعتقدات التي يؤمن بها الشخص ويعتبر الفساد الإداري مدخلا ونواة للفساد المالي الذي ينتشر بسبب ضعف الرقابة الداخلية في مؤسساتنا الحكومية .
وقد صدر عن صندوق النقد الدولي تعريف للفساد الإداري بأنه ” استغلال السلطة لأغراض خاصة سواء في تجارة الوظيفة أو الابتزاز أو المحاباة أو إهدار المال أو التلاعب فيه وسواء كان ذلك مباشرا أو غير مباشر.
كذلك تعرضت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية التي دخلت حيز النفاذ في 29 سبتمبر 2003 إلى موضوع الفساد اقتناعا منها بأنه لم يعد شانها محليا بل هو ظاهرة عبر وطنية تمس كل المجتمعات والاقتصادات ، مما يجعل التعاون الدولي على منعه و مكافحته أمرا ضروريا واقتناعا منها أيضا بان إتباع نهج شامل و متعدد الجوانب هو أمر لازم لمنع الفساد ومكافحته بصورة فعالة .
أ. البروز التاريخي لواجب الموظف العمومي بالسرية:
فلو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن المحافظة على الأسرار من الأفعال الأخلاقية التي يتأذى الحياء العام من عدم صونها والحفاظ عليها وذلك بغض النظر عن السر الذي وقع عليه الإفشاء وبالتالي فان التعدي على السر المهني هو في الأصل جريمة أخلاقية قبل أن تكون مدنية أو جنائية .
وتعتبر المحافظة على الأسرار وكتمانها من أقدم الواجبات الخلقية التي حرصت أرباب المهن “وخاصة الأطباء” على التمسك بها منذ أقدم العصور وقد سبق العلماء الهند النص على هذا الواجب في الكتابين ” الرجفيدا والاجيرفيدا” أو علم الحياة .
ولذلك تطور هذا المبدأ في الشرائع القديمة والديانتين المسيحية والإسلامية ثم في التشريعات الوضعية.
ولا جدال في أن الشريعة الغراء، التي ولدت في أحضان الحق والعدل المعروف تحرص كل الحرص على تدعيم الاستقرار وتحقيق التوازن في علاقات الأفراد في إطار من المنهجية الإسلامية المتكاملة، فذلك الاستقرار وهذا التوازن في نظر الإسلام يمثل خلاصة القيم التي يرتكز عليها يقظة الضمير داخل الكيان الإنساني، كما أنه يعد أرفع صور العدل الاجتماعي بين الأفراد الجماعات.
ولذلك كان من الطبيعي والأمر كذلك، أن تهتم الشريعة الإسلامية، بالحق في السرية حيث جعلت خيانته من الكبائر، ووصفت من يفضي بالسر بصفة من صفات المنافقين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” ثلاثة من كن فيه فهو منافق، وان صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان ” رواه أبو هريرة، متفق عليه .
ب. أهمية الالتزام بسرية الوثائق الإدارية:
تكتسي دراسة هذا الواجب المتمثل في الالتزام بالمحافظة على سرية الوثائق الإدارية أهمية نظرية وأخرى تطبيقية، أما بخصوص الأهمية النظرية فتمكن في كون واجب لالتزام بالسرية يمثل أهم الواجبات التي يطالب العون العمومي باحترامها .
إلى حد اعتباره واجبا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه من طرف الإدارة في أي دولة كانت .
فما من أحد يستطيع أن ينكر أن مدى أهمية وحساسية هذه المسؤولية يزداد عمقا، إذا تعلق الأمر بالتزام ناشئ عن حفظ أسرار الأفراد، فليس من شك أن المركز القانوني المهني أو الموظف ينبغي أن يتحدد لا بالنظر إليه كمهني أو موظف مجرد، وإنما بالنظر إليه باعتباره أمينا على أسرار الأفراد إذ أن هذه الصفة هي التي تحقق نطاق التزاماته، فإذا كانت هناك أمورا يغتفر لصاحب المهنة أو الموظف العادي إغفالها فإنّ إغفالها من جانب المهني أو الموظف، المؤتمن على أسرار الأفراد يعد تقصيرا أكيدا في تنفيذ واجباته، وخطأ محققا بما يؤدي إليه من فقدان ثقة الشعوب في مؤسسات دولها من خلال إساءة استعمال السلطة ومن نهب الثروات وتهريب الأموال .
فموضوع الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية يطرح اليوم بأكثر حدّة خصوصا مع تنامي عدد المغريات التي تجعل من النفوس ضعيفة أمام قوة إغراء المال خصوصا إذا كانت الضمائر فقيرة والمرتبات محدودة .
أما من لناحية التطبيقية فتمثل هذه الدراسة فرصة لتعميق أو محو الصورة التي تظهر بها الإدارة العمومية في عين المواطن العادي والتي يراها إدارة تتصف أساسا بعدم اكتراث أعوانها وفقدانهم لالتزاماتهم خاصة أن الإدارة لا يمكن أن يكتب لها النجاح في مهامها دون ثقة وتشجيع المواطن .
III. فاعلية الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية:
نشهد اليوم في كل الدول حقيقة مفجعة غير ناجحة تلك الحقيقة المتمثلة في مكافحة الفساد الإداري فما يصرف على الندوات والملتقيات للحديث عن إيجاد سبل لمعالجة الفساد الإداري دون تطبيقه هو في حد ذاته فساد لأن تلك الحلول المقدمة ظلت نظرية لم ترتقي إلى واقع التطبيق مما أجبر السلطات العامة على التفكير منذ أواخر السبعينات في موضوع الإصلاح الإداري .
ويتميز هذا الواجب المتعلق بالسرية بمنحه تلك الفرصة للإدارة لأعمال سلطتها التقديرية عند تقييمها لمدى احترام العون العمومي لواجب السرية.
ونتاجا لهذا فان القاضي الإداري يلعب دورا متميزا في الرقابة حيث يسعى دائما إلى تحقيق المعادلة بين حماية مصلحة الإدارة وضمان مصلحة الموظف العمومي عند أدائه لواجبه على الوجه الأفضل طوال مساره الوظيفي وبالتالي فإنه يمكننا القول أن الإشكالية القانونية التي يطرحها موضوعنا تتمثل في التساؤل التالي: كيف يحقق القانون الجزائي الحماية الكافية لسرية الوثائق الإدارية تجاه الاعتداءات الواقعة عليها من طرف الموظف العمومي؟
ونظرا لاتساع مجال تطبيق هذا الالتزام حيث أنه يحمل على كافة الأعوان العموميين أهمها الموظف العمومي وبالتالي فان الموظف هو النموذج الذي يمكن من خلاله كشف خصوصية واجب المحافظة على سرية الوثائق الإدارية وسوف نعتمد في ذلك أساسا على منهجية العلوم القانونية مع توخي منهجية العلوم الإدارية أحيانا وعند الضرورة من خلال إبراز خصوصية واجب السرية من خلال من خلال التأكيد على الحماية الجزائية لسرية الوثائق الرادارية (الجزء الأول) لنخلص إلى زجر الإخلال بواجب سرية الوثائق الإدارية (الجزء الثاني).
الجزء الأول: تأكيد الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية
فرض المشرع على المهني وصاحب الوظيفة واجب الحفاظ على الأسرار الإدارية حيث جعل منه واجب والتزام قانونيا مكرسا تشريعيا، وقد أراد المشرع بتكريسه لهذا الواجب حماية الأخلاقيات التي تفرضها هذه المهن وكذلك توطيد الثقة بين الإدارة والمواطن، بالإضافة إلى ضمان حرمة الحياة الخاصة وسريتها وذلك في إطار الالتزام بالحفاظ على سرية الوثائق الإدارية.
وتحقيقا لحماية هذه السرية، جرم المشرع إفشاء الأسرار الإدارية وسلط عقوبات متعددة في صورة الإخلال بهذا الواجب المحمول على عاتق المؤتمنين عليه.
ومن هذا المنطق تصبح غاية المشرع من تكريسه لواجب الحفاظ على الأسرار الإدارية ذو صبغة حمائية، مما يوجب معرفة كيفية تأكيد هاته الحماية التي فرضها المشرع حفاظا على السرية (فصل أول) إلى جانب معرفة آليات الحماية التي اعتمدها لتوفير الحماية الضرورية لهذا الواجب القانوني (فصل ثان).
الفصل الأول: تجريم الاعتداء على سرية الوثائق الإدارية
يعد موضوع سرية الوثائق الإدارية من المواضيع البالغة التعقيد إذ أنها تثير عددا من المشكلات القانونية هذا إذا ما علمنا أن السر وموضوعه قد أصبح في الوقت الحاضر من الضمانات الأساسية للإنسان
لذلك أقر المشرع التونسي حماية جزائية لواجب الحفاظ على الأسرار الإدارية من خلال تجريمه بالفصل 109 م.ج. إفشاء أسرار الأفراد التي يؤتمن عليها بعض الأشخاص بمقتضى وظيفتهم التي تكون منطلقا لمعرفة كيفية حصول فعل الإفشاء (مبحث أول) وكذلك عن نتائج هذا الفعل المتمثل في الإفشاء لهدف الحد منه وضمان حرمة هذه الوثائق الإدارية(مبحث ثان).
المبحث الأول: العناصر المكونة لجريمة إفشاء الأسرار الإدارية:
الجريمة لا تقوم إلا إذا توفر فيها الركن المادي والركن المعنوي، أما الركن المادي فهو السلوك أو النشاط الخارجي الذي يصدر عن الإنسان وبما أن القانون هو مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الناس فيحظر عليهم أفعالا معينة ويفرض عليهم أفعالا أخرى فلا يمكن أن تسند جريمة لشخص معين إلا إذا خالف الأمر فسلك سلوكا مخالف لما نهى القانون عنه وبناءا على ذلك فان السلوك المخالف هنا يتمثل في فعل الإفشاء الذي يمثل الركن المادي من جريمة إفشاء الأسرار الإدارية (فقرة أولى).
إلا أن الركن المادي وحده غير كاف للحديث عن جريمة وككل جريمة فان جريمة إفشاء الأسرار الإدارية تستلزم لاكتمالها الركن المعنوي المتمثل في القصد الجنائي (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: فعل إفشاء الأسرار الإدارية:
تنوعت وتعددت التعاريف المتعلقة بفعل الإفشاء في العديد من الدراسات وهو ما يبين خطورة هذه الجريمة وتأثيراتها على زعزعة الثقة بين الإدارة والمواطن وعلى هذا الأساس يمكن استخراج تعريف موحد لفعل الإفشاء فلا يمكن الحديث عنه دون تعريفه فهو الركن المادي لجريمة إفشاء الأسرار الإدارية .
وبالتالي الإفشاء هو سلوك ايجابي أو سلبي ينقل بمقتضاه الموظف إلى علم الغير أسرار خاصة أؤتمن عليها فما هي الشروط الواجب توفرها لتحقيق الإفشاء (أ) وما هي والصور التي يتخذها الإفشاء (ب).
أ) شروط إفشاء السر المهني:
في إطار الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية يلاحظ تأكيد المشرع على تجريمه لفعل الإفشاء المتعلق بالأسرار الإدارية وعلاوة على اهتمام المشرع بتجريم إفشاء السر المهني نلاحظ أن القانون الجزائي
لفرط اعتنائه بمبدأ الاحتفاظ بسر المهنة قد نص في بعض فصوله على طوائف يتعين عليهم بصفة خاصة الاحتفاظ بالسر وجعل العقاب بالنسبة لهؤلاء أشد من العقاب المنصوص عليه بالفصل 254 .
ويبرز ذلك في الفصل 109 من المجلة الجزائية المتعلق بإفشاء الأسرار الإدارية فقد نص على أنه ” يعاقب بالسجن مدة عام الموظف العمومي وشبهه الذي بدون موجب ينشر ما فيه مضرة للدولة أو لأفراد الناس من كل كتب أؤتمن عليه أو حصل له العلم بسبب وظيفته أو يطلع عليه غيره.” إلى غير ذلك من الفصول الأخرى مثل الفصل 138 من م.ج. القاضي بأنه “يعاقب بالسجن مدة عامين اثنين وبخطية قدرها أربعمائة وثمانون دينارا مدير المعمل أو النائب أو المستخدم به الذي يفشي أسرار الصنعة به أو يطلع الغير عليها.”
كل هذه الفصول تبرز خطورة الجريمة التي جرمها المشرع فشدد في العقاب أكثر خاصة إذا كان فعل الإفشاء من طوائف يتعين عليهم الاحتفاظ بالسر وعلى هذا الأساس بين المشرع الشروط الواجب توفرها لكي يتحقق الإفشاء المعاقب عليه وكذلك الوسائل والصور التي يتخذها هذا الإفشاء.
فيما يتعلق بالشروط تتمثل في أن يقع الإفشاء من أحد أمناء الأسرار الملتزمين بالكتمان (1) وأن يقع الإفشاء على سر مهني (2) وعلى نبأ يوصف بأنه سر (3) كما يشترط أن يحصل الإفشاء إلى الغير (4).
1. الإفشاء من أحد أمناء الأسرار:
إفشاء السر يكون من الأشخاص الذي تقتضي طبيعة مهنتهم أو وظيفتهم أو صناعتهم الاطلاع على أسرار الغير .
فالإفشاء هنا يمكن أن يكون من طرف الموظف العمومي الذي قام بتسريب الوثائق الإدارية إلى الغير وهو ما حجره المشرع فهناك حالات أجاز فيها المشرع للموظف تمكين المواطن من الاطلاع على الوثائق وهو ما يعبر عنه يحق النفاذ إلى الوثائق الإدارية .
إلا أن تعيين الواقعة السرية وحده لا يكفي لتجريم الفعل بل لابد من تحديد الشخص الذي تتعلق به ولا يتطلب هذا التحديد ذكر اسم المجني عليه وإنما يكتمل بمجرد بيان بعض معالم من شخصيته على نحو يكفي للتعرف عليه ، ومن ذكر نشر صورته أو ذكر معلومات خاصة به .
وفي هذا السياق قرر الاجتهاد الفرنسي “إن نشر كتاب علمي عن وقائع اطلع عليها مؤلف بصفته طبيب مداويا هو إذاعة للسر إذا كانت هذه الوقائع تعنى صاحب السر وتدل عليه .
2. الإفشاء على سر مهني:
يكون السر مهنيا إذا وصل إعلام الأمين من خلال ممارسته لأعمال مهنية فإذا لم يكن السر مهنيا فلا تجريم في إفشائه، فهناك بعض الوقائع التي يقع فيها إفشاء السر ومع ذلك لا يقع العقاب على هذا الإفشاء لأنه ليس له من الطبيعة المهنية البتة.
3. الإفشاء على نبأ يوصف بأنه سر:
يعني أن يظل العلم بالواقعة محصورا في عدد معين من الأشخاص، فالسر الذي يصبح معلوما بين عدد غير معين من الأشخاص بحيث لا يكون في الاستطاعة السيطرة على نطاق العلم به لا نكون هنا أمام إفشاء محرم. كما يجب أن يكون النبأ غير مؤكد ولو كان شائعا بين الناس، فمتى تأكد زالت عنه صفة السر.
والجدير بالملاحظة أن السر الذي أراد المشرع حمايته هو السر الإداري الذي يحصل عليه بموجب وظيفته .
4. أن يحصل الإفشاء إلى الغير:
يتحقق فعل الإفشاء إذا تم إفشاؤه إلى الغير، ويراد بالغير شخص لا ينتمي إلى هذه الفئة من الناس الذين ينحصر فيهم نطاق العلم بالواقعة التي توصف بالسر إلا أنه لا يعد إفشاء الأخبار بالسر للحريف. فمثلا الطبيب ملزم بإنارة المريض حول كل ما يتعلق بحالته الصحية إلا في بعض الحالات كالتي أشار إليها الفصل 36 من مجلة واجبات الطبيب الذي أجاز للطبيب أن يخفي إنذار خطيرا أو مهلكا على المريض.
وإذا كان صاحب السر قاصرا أو محجورا عليه فلا يعد إفشاء إذا وقع الإخبار إلى وليه أو المقدم عليه.
فالإفشاء فعلا معاقبا عليه ولو كان من أمين إلى أمين إذ كأن صاحب السر لم يأتمن عليه إلا الأمين الأول فلا يمكن الإفشاء ولو كان إلى أشخاص كتوميين.
غير أن هذا الرأي لا يمكن الأخذ به بصفة مطلقة، فالعديد من المهن تستوجب التعاون ونقل السر من أمين إلى أمين .فمثلا لا وجود لسر طبي بين أطباء يعالجون نفس الشخص إذا كانت الغاية هي شفاء المريض وطالما كانوا أنفسهم خاضعين لواجب الحفاظ على السر المهني .
يستخلص مما سبق أن في وضع شروط لتجريم فعل الإفشاء وفي فرض واجب الحفاظ على سرية الوثائق الإدارية وإذ كان يرمي في حد ذاته إلى حماية أسرار الأفراد أنفسهم فيما يتعلق بحياتهم الخاصة فان هذه الحماية موجهة أيضا لحماية بعض المهن والوظائف التي لها من الأهمية الاجتماعية مما يجعلها تستحق هذه الحماية .
فلا خلاف في أن المشرع منح لبعض أعوان الدولة العديد من الصلاحيات التي تمكنهم من الاطلاع على أسرار الأفراد ومكنهم من الوسائل اللازمة للبحث مثل أعوان الجباية أو الديوانة وغيرهم بل واعتبر منع اطلاع الإدارة على الوثائق أحيانا خطأ مرتبا لجزاء بل ولا يمكن أحيانا مواجهة الإدارة بواجب الحفاظ على السر المهني.
ولكن في المقابل وتجنبا لاستغلال الموظفين للمعلومات التي يتحصلون عليها بحكم وظيفتهم أوجب عليهم الحفاظ على السر المهني وإلا كانوا عرضة للعقوبات.
هذه الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية التي هي هدف المشرع تبيانها من خلال تجريم فعل الإفشاء عبر شروطه فما هو الحال إذن بالنسبة لصور ووسائل الإفشاء أو بمعنى آخر هل هذه الحماية تتفاقم مع إبراز صور ووسائل الإفشاء؟
ب. صور ووسائل الإفشاء:
هل أن الإفشاء لا يكون إلا بالنطق والكلام أما أنه يكون أيضا بغير ذلك من الوسائل؟
تستوي لدى القانون كل وسائل الإفشاء طالما أنها تخرج الواقعة من نطاق السرية إلى نطاق العلنية.
1. وسائل الإفشاء
قد يتحقق الإفشاء شفاهة (1) أو كتابة (2) أو عن طريق الصور(3)
1.1. الإفشاء شفاهة :
يكون الإفشاء شفاهة بالتحدث به بين الناس من خلال حوار أو من قشة أو بالإفضاء به ضمن محاضرة أو مناظرة حتى ولو كان لغرض علمي أو بالحديث به ولو لشخص واحد في لقاء شخص أو باستخدام وسيلة من وسائل الاتصال كالهاتف أو اللاسلكي أو غيرها من أجهزة الاتصال، أو بإلقاء حديث عنه من خلال الإذاعة أو التلفزيون، أو بتسجيله بالصوت لإذاعة في وقت لاحق .
كما يمكن أن يتخذ الإفشاء الشفوي صورة التلاوة أو التحدث بصوت عال في مكان عام، وفي هذا المعنى نص الفصل 11 من قانون واجبات الصيدلي على أنه 11 يتعين على الصيدلي قصد المحافظة على السر المهني أن يتجنب التحدث علينا في شأن أمراض حرفائه…” .
2.1. الإفشاء كتابة :
يكون الإفشاء كتابة بنشره في صحيفة أو كتاب أو تقرير، ولا يعتبر إفشاءا تدوين المهني للسر في أوراقه أو دفاتره الخاصة للرجوع إليه لمتابعة علاج الحالة أو دراسة الموضوع أو مقارنته بالحالات المتماثلة.
ويمكن أن يتحقق الإفشاء كتابة كأن يسلم الطبيب للغير شهادة طبية تتعلق بالحالة الصحية للمريض .
3.1. الإفشاء بالصور:
يمكن أن يتحقق الإفشاء بنشر صورة صاحب السر، فمثلا يكون الطبيب مسؤولا إذا نشر صورة فوتغرافية لمريض في مؤلفه.
وقد يقترن الإفشاء بالصور بالإفشاء كتابة كنشر مصحوب بصورة صاحب السر، أو يقترن بالإفشاء مشافهة كتسجيل بالصوت والصورة لإذاعته في وقت لاحق.
والإفشاء سواء كان بالكتابة أو بالصور غالبا ما يتحقق عن طريق النشر الذي يعتبر من أشد وسائل الإفشاء فاعلية إذ أنه يؤثر مباشرة في الرأي العام فتكون النتائج السيئة المترتبة عن الإفشاء مضاعفة، ومثال ذلك الضجة التي آثارها في فرنسا صدور كتاب” السر الكبير للدكتور” “كلود غويلر” الذي كشف فيه أسرار عن الحالة الصحية للرئيس الفرنسي الراحل”ميتران” والذي أكد فيه بوصفه طبيبه الخاص أن هذا الأخير على علم بأنه مصاب بسرطان في العظام وأنه أصبح عاجزا عن القيام بمهامه منذ نوفمبر 1994.
كما يطرح التساؤل عما إذا كان الصحفي الذي ينشر أسرار تتعلق بالأفراد وبحياتهم الخاصة يتعرض للعقوبات المنصوص عليها بالفصل 254 م.ج.؟
يمكن القول هنا أن من حق كل صحفي أن ينشر ما وصل إلى علمه من أخبار وأسرار ويمكن له أن يقوم بنفسه بتحقيقات صحفية بوسائله الخاصة دون أن يتعرض لأية عقوبة لأنه لا يعتبر أمينا على الأسرار التي يتلقاها وينشرها وإنما يعاقب المهني الذي أطلعه عليها.
2. صور الإفشاء
قد يتخذ الإفشاء عدّة صور فقد يكون بطريقة سرية (2-1) وقد يتخذ صورة الامتناع (2-2) كما يمكن أن يكون غير مباشر (2-3)، أو يكون جزئيا (2-4).
1.2. الإفشاء بطريقة سرية :
كأن يفشي الأمين السر إلى شخص واحد ثم يوصيه بكتمانه، أو كأن يرسل مكتوبا سريا للغير يتضمن أسرار حريفه .
إلا أنه في التطبيق يمكن تبادل المعلومات والأسرار بين الإدارات من أجل توفير الخدمة اللازمة للمواطن شريطة أن يقع تبادل المعلومات بطريقة سرية confidentiel titre a- فالمبدأ حسب الدكتور غنام محمد غنام أن الاطلاع على الوثائق الإدارية يحكمه قاعدتان الأولى: قاعدة السرية والثانية قاعدة حق الاطلاع المقرر للمستفيد من المرافق العامة .
2.2. الإفشاء بالامتناع :
بالإضافة إلى أن الإفشاء يتحقق بسلوك ايجابي فانه يتحقق بالامتناع أي أن يكون السلوك سلبيا كأن يشاهد الأمين شخصا يحاول الاطلاع على الملفات التي تحوي أسرار عملائه فلا يحول بينه وبين ذلك على الرغم من استطاعته .
3.2. الإفشاء غير المباشر:
يجوز أن يكون الإفشاء غير مباشر، كأن يقبل شخص مهمتين تفترض أحداهما الإفضاء بالمعلومات التي حصل عليها من الأخرى وكان ملتزما بكتمانها وتطبيقا لذلك فان الطبيب الذي عالج مريضا لا يجوز له أن يقبل أداء عمل من أعمال الخبرة في شأنه، إذ أن الخبرة تلزمه بأن يفضي بمعلومات حصل عليها بعلاجه هذا المرض كطبيب خاص .
كذلك بالنسبة للمحامي لا يمكنه أن يستولى الدفاع عن خصم حريفه بعد أن يكون تحصل على بعض التوضيحات أو تسلم منه بعض الوثائق في خصوص القضية .
4.2. الإفشاء الجزئي:
يتحقق الإفشاء ولو اقتصرت المكاشفة على جزء من السر الذي يوجب القانون كتمانه، وأيا كان القدر الذي تمت المكاشفة به طالما كان ينطوي على معنى واضح، فالطبيب الذي عالج مريضا مصاب بعدة أمراض يكون مرتكبا لجريمة إفشاء سر المهنة ولو اقتصر على ذكر أحد هذه الأمراض إلى الغير .
لكن صدور فعل الإفشاء عن أمين على السر لا يكفي لقيام جريمة إفشاء السر المهني بل لا بد من توافر القص الجنائي لدى الفاعل بما يفرض توافر الركن المعنوي للجريمة.
الفقرة الثانية: القصد الجزائي:
يجب لقيام جريمة إفشاء سرية الوثائق الإدارية توافر الركن المعنوي والمتمثل في أن يقصد المؤتمن على السر إفشاؤه.
وللركن المعنوي صورتان: القصد الجزائي أو ما يطلق عليه الخطأ المقصود والخطأ الغير مقصود ويسمى أحيانا الإهمال، فما هي الصورة التي يتخذها الركن المعنوي في جريمة إفشاء الأسرار الإدارية؟
تندرج جريمة إفشاء الأسرار الإدارية ضمن الجرائم العمدية (أ) التي تتطلب أن يتوفر لدى الجاني القصد الجزائي
بكافة عناصره وقد ذهب معظم الشرّاح إلى اعتباره من الجرائم التي لا تستلزم قصدا جنائيا خاصا(ب).
أ. إفشاء السر جريمة قصدية :
القاعدة الأساسية هي أن الجريمة لا تقوم إلا إذا تعمد الفاعل إفشاء سرا يجب كتمانه، فالقصد يتكون من عنصرين أساسين أولهما اتجاه إرادة الفاعل نحو ارتكاب الجريمة وثانيهما العلم بتوفر أركانها التي يتطلبها القانون.
1. عنصر الإرادة:
مما لا شك فيه أن مساءلة الشخص في أي جريمة عمدية تفرض التثبت أن إرادته اتجهت إلى إتيان الفعل المكون للجريمة والى إحداث النتيجة الإجرامية أي الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون الجنائي وفي جريمة خرق سرية الوثائق الإدارية يجب أن تتجه إرادة المتهم إلى ارتكاب فعل الإفشاء والى إحداث النتيجة التي تترتب عليه وهي علم الغير بالواقعة التي لها صفة السر، كما لو أفشى الأمين السر وهو تحت تأثير مخدر في أعقاب جراحة أجريت له، فلا تقع بفعله الجريمة ونتيجة لذلك فانه لا توجد الجريمة إذا حصل الإفشاء عن حالة إهمال وعدم احتياط كما في صورة الموظف الذي يترك ملفا مفتوحا فيطلع عليه شخص آخر، أو رجل البنك الذي يترك مستندا يحتوي على معاملات شخص معينة مع البنك على المكتب فيطلع عليه الغير، أو نطق الطبيب بتشخيص الحالة المرضية لدى المريض أثناء تدوينه له، فسمعه خادم كان يمر في ذلك الوقت دون أن ينتبه له الطبيب، غير أن الخطأ أو الإهمال يمكن أن يترتب عنه المسؤولية المدنية.
غير انه يلاحظ أن بعض القوانين الأجنبية تعاقب على مجرد الإهمال. فالقانون الايطالي مثلا يعاقب في جريمة إفشاء سر الوظيفة على التسهيل غير المتعمد الذي قد يكون من شأنه إذاعة الخبر.
فالمشرع الايطالي يضع إذن على عاتق الموظف التزاما بكتمان أخبار وظيفته بل الحرص أيضا على أن لاتصل الأخبار إلى الآخرين .
في حين أن المشرع التونسي لا يكتفي في العقاب بأقل من القصد ولو أراد أن يعاقب على مجرد الإهمال أو القصور لنص على ذلك صراحة كما فعل بالفصل 61 مكرر ثانيا من المجلة الجنائية المتعلق بجريمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي .
2. عنصر العلم :
لكي يقوم القصد الجزائي يجب أن يتوفر عنصراه: عنصر الإرادة وعنصر العلم والمقصود بالعلم هو أنم يعلم الأمين بأن الخبر الذي تلقاه أو علم به له صفة السر. وأن هذا السر ذو صبغة مهنية .
وفي خصوص هذا العنصر ثار التساؤل في الفقه والقضاء حول ما إذا كان جائزا أن يفضي المحامي أمام العدالة بأسرار موكله إن اعتقد أن هذا الإفضاء هو في صالح حريفه.
وقد رأت محكمة التعقيب الفرنسية في قرارها المؤرخ في 24 ماي 1962 “أن المحامي إذا كان له كامل الحق في الاحتماء بسر المر المهنة طالما دعت لذلك مصلحة حريفه فانه يمكنه على الضد من ذلك أن يفضي أمام العدالة بالأسرار التي أفضى إليه بها حريفه كلما اعتقد اعتقادا قاطعا أن هذا الإفضاء هو في صالح الحريف”.
وفي هذا السياق يرى الأستاذ الهادي المدني في تعليقه على هذا القرار أن القانون يشترط للعقاب على الإفشاء أن يكون الأمين عالما بأن السر محرم إفشاؤه وعلى ذلك فالمحامي إذا اعتقد جازما بأن في الإفشاء مصلحة كاملة لموكله فقد انتفى عنه طبعا اعتقاد الحرمان .
ب. جريمة إفشاء السر لا تستلزم قصدا جزائيا خاصا:
لا يشترط في جريمة الإفشاء الأسرار الإدارية أن يكون الإفشاء بنية الإضرار (1) إذا لا عبرة بالأغراض أو البواعث على إفشاء السر.
1. عدم اشتراط نية الإضرار في الإفشاء :
لقد أثير الخلاف في الفقه وفقه القضاء حول إذا كانت الجريمة تستلزم قصدا خاصا نية الإضرار بصاحب السر أو لا تستلزمه. فقد ذهب جانب من الفقه الفرنسي منذ عهد بعيد إلى القول بأن نية الإضرار هذه شرط لا غنى عنه لقيام الجريمة بحجة أن جريمة إفشاء السر واردة في القانون بعد جريمتي القذف والبلاغ الكاذب اللتين يشترط فيهما هذه النية، بل هناك من الشراح من اعتبر الإفشاء نوعا من القذف.
وقد جرت محكمة التعقيب الفرنسية في أول الأمر على استلزام نية الإضرار بمقولة أن الفصل 378 من المجلة الجنائية ورد في باب القذف والسب وهاتان الجريمتان تستلزمان نية الإضرار، فمما لا شك فيه أن ذلك لازم حتما لتوفر أركان الفصل 378 .
غير أن هذا الموقف قد تبدل في سنة 1885 حينما نشرت إحدى الصحف نبأ وفاة الرسام الشهير”سباستيان لوباج” وعزت السبب في موته إلى مرض مخجل فتولى طبيبه الدكتور “Watelet” الرد على ما نشر وكتب مقالا نشرته إحدى الصحف بين فيه أعراض المرض الذي توفي به مريضه الرسام، فأقيمت الدعوى على الطبيب وحكم عليه من أجل إفشاء السر الطبي، ولما رفع هذا الحكم إلى محكمة التعقيب أيدته بقرارها الصادر في 19 ديسمبر 1885 واعتبرت أن نص الفصل 378 من المجلة الجزائية هو نص عام ومطلق يعاقب على كل إفشاء لسر المهنة دون أن يكون هناك قصد بإلحاق الأذى والضرر، وأن الهدف من وضع النص هو تأمين الثقة التي يجب أن تتوفر في بعض الأشخاص أثناء ممارستهم لمهنتهم، وأن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا اقتصر القانون على عقوبة الإفشاء الصادر عن نية الأذى والضرر وأعفى الإفشاء الصادر عن عدم قصد الإضرار من العقوبة .
ومنذ صدور هذا القرار استقر القضاء على عدم اشتراط نية الإضرار وهو أيضا موقف أغلب شرّاح القانون بحجة أن إفشاء السر هو في حد ذاته من الأفعال الشائنة التي لا يحتاج إلى نية الإضرار كي تعززها ، فالغاية من إقرار مبدأ السرية في خصوص المعلومة التي تتوفر للموظف أو المهني من شأنه أن يبعث شعور بالثقة لدى الفرد وهي “ثقة تكاد تكون عمياء “.
لأن الفرد يشعر بحماية القانون لأسراره على أن تكون موضوع إفشاء.
وكل هذه الحجج التي عرضناها تبين بوضوح عدم لزوم نية الإضرار، على أن أهم تعليل في هذا المجال هو عدم توقف قيام القص على باعث الجريمة، فاشتراط نية الإضرار مخالف للقاعدة الأساسية التي مفادها هي أن القانون لا يعبأ بالبواعث على ارتكاب الجرائم.
2. لا عبرة بالبواعث في قيام الجريمة :
تخضع جريمة خرق سرية الوثائق الإدارية وجريمة إفشاء السر المهني ككل للقاعدة العامة التي تفضي بأن البواعث أو الأغراض ليست من عناصر القصة فإذا توفر للقصد عنصراه من علم وإرادة تحقق الركن المعنوي للجريمة ولا يحول دون توافره نبل البواعث أو عدم نبلها، فتقع الجريمة من الأمين ولو كان غرضه من الإفشاء درء مسؤولية أدبية أو مدنية.
ومن باب أولى لا يجوز للأمين أن يفشي السر بقصد الحصول على أتعابه فقد قضى بمعاقبة طبيب لأنه في سبيل الحصول على أتعابه أخبر الوالد بمرض ابنه الذي كان يعالجه رغم أن الابن أظهر رغبته في إخفاءه ذلك عن والده .
وقضت محكمة هابورغ في ألمانيا بإدانة طبيب بتهمة إفشاء السر لأنه قدم للمحكمة عن طريق محامية في قضية أتعاب رسائل تحتوي على معلومات وتفاصيل خاصة تتعلق بحريفه، وقالت المحكمة في أسانيد حكمها “إن النص وضع لصالح عام فلا يجوز للطبيب في سبيل مصلحته المادية أو الشخصية أن يخالفه ولو كان حسن النية” .
وعلى كل فان توافر القصد الجزائي أو عدم توافره مسألة موضوعية بحتة ، القاضي الموضوع تقديرها بحسب ما يقوم لديه من دلائل بناءا على ما يطرح أمامه من وقائع الدعوى وظروفها، ومتى قرر أنه حاصل للأسباب التي بينتها في حكمه فلا رقابة عليه من محكمة التعقيب.فمتى قامت أركان الجريمة الأربعة لا يمكن للمفشي أن يتقصى من المسؤولية إلا إذا ثبت توفر سبب من أسباب الإباحة التي تخرج الفعل من نطاق التجريم فيتحول عندئذ إلى فعل مشروع وتنتفي عنه الصفة غير المشروعة، ولعل حالات الإباحة هي التي أخرجت مبدأ السرية المتعلقة بالوثائق الإدارية من دائرة الإطلاق إلى نطاق النسبية يعني أي نطاق جواز النفاذ إلى الوثائق الإدارية وهو ما سنتعرض له في الجزء الثاني من هذه الرسالة.
وفي الختام يمكن القول بأن في تأكيد المشرع على الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية من وراء تجريم الإفشاء وعي حقيقي منه بأن لهذا الإفشاء المخالف للقانون نتائج سلبية من شأنها هز الثقة المبنية بين المؤتمن على السر والمواطن التي ينبغي الحفاظ عليها وحمايتها من كل خدش الأمر الذي نتج عنه تعدد وتنوع في التجاوزات التي يمكن أن يتركها الموظفون أثناء قيامهم بمهامهم الوظيفية وهذا يفتح المجال لدراسة الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الفساد في الوظيفة العمومية وهذا ما نحن بصدد عرضه في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: نتائج الفعل:
يترتب عن الإفشاء المجرم الصادر عن الأشخاص الذين اطلعوا عليه بحكم وظيفتهم أو مهنتهم عدة نتائج ولعل من أبرز هذه النتائج بروز آفة الفساد الإداري (الفقرة أولى) وكذلك الفساد المالي (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: الفساد الإداري:
إن الفساد وباء غادر يترتب عليه نطاق واسع من الآثار لضارّة في المجتمعات فهو يقوض الديمقراطية وسيادة القانون، ويؤدي إلى ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان وتشويه الأسواق وتدهور نوعية الحياة ويتيح ازدهار الجريمة المنظمة والإرهاب وغير ذلك من التهديدات لازدهار الأمن البشري.
وتوجد هذه الظاهرة الخبيثة في جميع البلدان كبيرها وصغيرها، غنيها وفقيرها إلا أن آثارها في العالم النامي أكثر ما تكون تدميرا .ويضر الفساد بالفقراء بصورة غير متناسبة بتحويل الأموال المعدة للتنمية وتقويض قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية، ويؤدي إلى التحيّز والظلم ويثبط الاستثمار الأجنبي والمعونة الأجنبية والفساد عنصر رئيسي في تدهور الأداء الاقتصادي وعقبة كبرى في طريق التنمية وتخفيف حدّة الفقر .
موضوع مقاومة الفساد أصبح منذ عدّة سنوات يستأثر باهتمام كبير في المنتديات الأكاديمية والدولية وذلك نظرا للآثار السلبية لهذه الظاهرة بما تحدثه من ضرر بالمجتمع، وهو ضرر يستهدف عادة أفقر الفئات وأقلها مناعة، أو بما يؤدي إليه من فقدان ثقة الشعوب في مؤسسات دولها من خلال إساءة استعمال السلطة ومن نهب الثروات وتهريب الأموال .
ويكون الفساد إداريا عندما يمكن الموظف العمومي أحد الخواص من الحصول على صفقة، أو يوفر له الحصانة اثر ارتكابه لجريمة فالفساد الإداري يختص به الموظف العمومي الذي يستغل الوظيفة لتحقيق مآرب شخصية، أنه الانحراف الوظيفي الذي يصدر عنه أثناء أداءه لوظيفة بمخالفة التشريع والضوابط الفردية باستغلاله لموقعه وصلاحياته للحصول على مكاسب غير شرعية .
وفي هذا السياق قضت محكمة التعقيب بتوجيه تهمة استيلاء موظف عمومي على أموال خاصة وضعت تحت يده بمقتضي وظيفه والتدليس واستعمال مدلس والتحيّل على المظنون فيه عمار بن فرج بن مطير المثلوثي طبق أحكام الفصول 99و 172و175و176و291و32من المجلة الجزائية
بهذا المعنى يمكن القول حسب عبد الرزاق حنيني المساعد الأول لوكيل الجمهورية أن الفساد الإداري هو نتيجة لطغيان المبادئ الفردانية، وغياب المعايير والأسس التنظيمية والقانونية، الذي يؤدي إلى استغلال الوظيفة العامة وموارد الدولة بهدف تحقيق مصلحة فردية أو فئوية على حساب الدور الأساسي الذي يقوم به المرفق العام، والذي يؤدي إلى الإخلال بمبدأ سيادة القانون ويشكل خرقا لمبدأ المساواة أمام المرفق العام .
وعلى هذا الأساس فان الفساد الإداري يبرز من خلال جريمة الرشوة المرتابة من طرف الموظف العمومي الذي يسرب
الوثائق الإدارية وذلك بمقابل وبذلك يكون قد خرق مبدأ المحافظة على السر الإداري كذلك يتجلى الفساد الإداري من خلال ارتكاب الجرائم باستعمال خصائص الوظيفي.
أ) فيما يتعلق بمكافحة الفساد بتجريم الرشوة :
إن جريمة الرشوة من أخطر الجرائم الماسة بواجب النزاهة لذلك سعت مختلف القوانين إلى الوقاية منها ومحاولة الحد منها وهي جريمة ترتكب من طرف الموظف العمومي ولا نجد في فصول المجلة الجزائية لا القديمة ولا حتى التي تم تنقيحها بعد 23 ماي 1998 أي تعريف الرشوة، عير أن محكمة التعقيب التونسية قدمت سنة 1982 تعريف للرشوة جاء فيه “أنها عبارة عن اتفاق بين شخصين عرض فيه أحدهما على لآخر جعلا أو فائدة فيقبلها لأداء عمل أو الامتناع عن عمل يدخل ف وظيفته أو في مأموريته وبعبارة أوضح فهي في الأصل اتجار بالوظيفة العمومية أو ما شاكلها، وهو تعريف يتوافق مع ما ذهب فيه فقهاء القانون أمثال الفقيه الفرنسي “غارو” الذي يعتبر أن جريمة الرشوة هي جريمة وظيفة أكثر منها جريمة موظف وكذلك يعرف الفقه ارتشاء بأنه قبول الموظف لنفسه أو لغيره، بصفة مباشرة أو غير مباشرة “منفقة” في صورة عطايا أو وعود بالعطايا أو الهدايا أو منافع أخرى كيف ما كانت طبيعتها، مقابل انجاز أمر إداري أو تسهيله أو الامتناع عن إنجازه لذلك حدد المشرع شروط قيام هذه الجريمة التي تقتضي توفر صفة الموظف العمومي حيث ورد مفهوم الموظف العمومي بالفصل 82 جديد من المجلة الجنائية وذلك بعد تنقيحه بموجب القانون عدد 33 لسنة 1998 في 23 ماي 1998.
فجريمة ارتشاء جريمة تستوجب توفر صفة الموظف العمومي في الجاني وبالتالي وبحسب جانب من الفقه إن شاب قرار تعيين الموظف عيب فلا مجال لمساءلته، لأنه بالنظر إلى القانون فهو غير مؤهل للقيام بالفعل المجرم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا الشخص يفقد قانون صلاحيات الموظف العمومي لبطلان قرار تعينه وما يأتيه أو ما يروم إتباعه أو ما يزعم القيام به يكون باطلا ولا أثر له .
وللقارئ أن يلاحظ أن العلة في تجريم الارتشاء ليس تحديد مفهوم الموظف العمومي بل حماية الوظيفة العمومية التي تكون جزءا من سيادة الدولة والحفاظ على الثقة في تعامل الأفراد مع الإدارة وتستوجب جريمة الرشوة توفر ركنين ركن مادي وركن معنوي.
فيما يخص الركن المادي فان القانون الفرنسي اعتبر أن الرشوة اتفاق بين الراشي والمرتشي وهو ما تبينه المشرع التونسي وهذا ما يفسر رغبته في القضاء على الرشوة في مراحلها المتقدمة ، حتى أنه جرم الرشوة في مظاهرها الثلاث: الرشوة السلبية، الرشوة الايجابية والوساطة في الرشوة.
أما بخصوص الركن المعنوي فان جريمة الارتشاء جريمة قصدية يشترط لقيامه توفر القصد الجنائي للجاني ويعرف فقه القضاء القصد الجنائي بكونه يتمثل في النية المتجهة إلى خرق القانون الجنائي أو في الإرادة المتجهة إلى ارتكاب فعل مجرم مع العلم بهذا التجريم وهذه الإرادة المتجهة إلى ارتكاب فعل مجرم مع العلم بهذا التجريم وهذه الإرادة يجب أن تتوفر في كل الجرائم القصدية.
ففي الجرائم التي لا يتوفر فيها القصد الجزائي يمكن لمحكمة التعقيب في بعض قراراتها أن تقضي بحفظ تهم استغلال مدير أو مستخدم بمؤسسة عمومية لصفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر لعدم كفاية الحجة .
خلاصة القول أن الفساد قد عم كل دول العالم ولا نذهب لبعيد حيث يمكن تقديم بعض الأمثلة على الرشوة والفساد انطلاقا من بلادنا تونس وتحديدا انطلاقا من ” وثائق ويكيليس” حول الفساد في تونس موضوعها الرشوة والفساد في تونس الذي تحدث عنه من خلال العائلة الكبرى في تونس التي تملك ثروات طائلة فهي العائلة الموسعة للرئيس بن علي تقدم عادة كمحور للفساد في تونس فهي توصف بمثابة المافيا ويرمز لها “بالعائلة “.
يبدو أن نصف رجال الأعمال التونسيين مرتبطين بعائلة بن علي عن طريق المصاهرة، وتمكنوا من توظيف هذه الروابط لصالحهم.
فلقد شملت ممارسات الرشوة والفساد كل الميادين الاقتصادية وقد تبين من خلال أعمال التقصي التي تولتها اللجنة أن ظاهرة الرشوة والفساد تعلقت بصورة أساسية بالقطاعات التالية:
المجال العقاري
الأراضي الفلاحية
أملاك الهياكل العمومية
المشاريع الكبرى
الخوصصة
اللزمات
الاتصالات
القطاع السمعي البصري
القطاع المالي والبنكي
الرخص الإدارية
الديوانة
الجباية
الإدارة والانتدابات
القضاء
ويمكن أن نضيف أيضا مثال يتعلق بجزء ألي لأموال بلحسن الطرابلسي حيث وقع القيام بعمليات بيع وشراء أراضي وفيلات وعقارات وكراءات وتكوين مؤسسات وزيادات في رأسمال أخرى فوجدت هذه الأرقام:
1. في الشراءات : خمسة عشرة مليارات وتسعمائة مليون( 15.910.718.000)
2. في المبيعات: خمسة عشر مليارا وسبعمائة مليون وشوية صرف (15.784.546.000).
3. في تكوين الشركات: خمسة مليارات و400 مليون وتفتوفة (5..421.165.000)
4. في الاكتتاب في رأس مال عدّة شركات: واحد وعشرين مليارا و440 مليون (210.440.743.000).
نشير أيضا أن الرجل يشتري أراضي في الحمامات أسعارها لا تزيد عن عشرين دينارا للمتر الواحد بينما هي تباع أصلا ب 200 أو 300 دينار ويقتني أراضي في البحيرة ب 32 دينارا فقط، لا غير والحال
أنها تباع بمبالغ تتراوح بين 500 و1000 دينار .
– انطلاقا من هذه الأمثلة يتضح لنا أن ظاهرة الفساد متفشية منذ العهد السابق وليست وليدة اللحظة وهي متواصلة إلى حد الآن حتى بعد الثورة. هذا بالنسبة للفساد المتعلق بالرشوة فما هو الحال بالنسبة لارتكاب الجرائم باستعمال خصائص الوظيف؟
ب) مكافحة الفساد بتجريم استعمال خصائص الوظيف:
إن في ارتكاب الجرائم باستعمال خصائص الوظيف فيه فسادا واستغلال للنفوذ.
ويمكن دراسة مدلول خصائص الوظيف من خلال تقسيم هذه الخصائص إلى قسمين خصائص ذات طبيعة مادية وخصائص ذات طبيعة معنوية.
من أهم الخصائص ذات الطبيعة المعنوية نذكر الصفة والسلطة بالنسبة للصفة فهي تبرز كأهم عنصر معنوي من العناصر المكونة لخصائص الوظيف والتي يكتسبها الشخص من خلال انتمائه الوظيفي بالعمل لدى إحدى الهياكل أو الندوات التي ضبطها الفصل 82 من م.ج. ومن أهم أثار هذه الصفة أنها تمنح حائزها صلاحيات واختصاصات وامتيازات تجعله في نظر العامة ممثل للجهة التي ينتمي إليها ويعمل باسمها بل تجعل تلك الجهة مجسدة في ذاته .
وأساس اعتبار الصفة كأول عنصر من عناصر خصائص الوظيف هو أن الجاني في مثل هذه الجرائم يلجأ إلى تلك الصفة كأول وسيلة يعتمدها في ارتكاب جريمته باعتبارها خاصية حقيقية تعكس وظيفه والجهة التي ينتمي إليها وظيفيا ومن شأنها أن تسهل إحراز ثقة الضحية، وتخفي الصبغة الإجرامية لفعل الجاني وبذلك فان استغلال الصفة فيه فسادا يضر بالمصلحة العامة.
أما فيما يتعلق بالسلطة فهي العنصر الثاني الهام من العناصر المعنوية المكونة لخصائص الوظيف وقد تعرض المشرع الجنائي إلى هذا اللفظ ضمن القسم الخامس من الباب الثالث تحت عنوان ” في تجاوز حد السلطة ” وهي تعني عموما القدرة والنفوذ والضغط أو الإكراه والقوة الملزمة:
وهي تعتبر روح الإرادة وتمارس من طرف الموظفين تجاه العامة في شكل ضغط أو إكراه خارجي، ولكننا نجدها في شكل داخلي كعنصر يضبط الاختصاص بين فروع الإدارة وفي علاقة الرؤساء الإداريين ومساعديهم.
في هذا السياق تطرقت محكمة التعقيب إلى قرار تلخصت وقائعه في مقاضاة موظف عمومي من أجل محاولة القتل العمد المرتكب بإستعمال خصائص وظيفه، حيث إعترف المتهم بما نسب إليه بالقول أنه إلتقط من داخل المركز سلاح نوع “شطاير” وقام بطلق ناري أصابه به على مستوى الجمجمة .
ويبرز عنصر السلطة كجزء من خصائص الوظيف، خاصة لدى أعوان السلطة العامة ، فعون الشرطة يمثل السلطة التي ينتمي إليها ويعمل باسمها وهو بذلك يتمتع بجزء من سلطتها باعتباره من الموظفين الذين أسند إليهم القانون أو الحكومة قسطا من سلطتها لحفظ النظام العام .
فبمجرد أن يعرف عون الأمن بصفته لأي شخص من عامة الناس يدرك هذا الأخير أنه يتعامل مع صاحب السلطة وتتأكد تلك السلطة من خلال المظهر الخارجي لذلك العون ومن وسائل وظيفه.
والى جانب ذلك فان عنصر السلطة كخاصية من خصائص الوظيف قد يتخذ شكل قرار إداري يترتب عنه تغيير في المراكز القانونية كمنح حق أو إزالته وهذا العمل يعتبر سلطة في حد ذاته فالموظف العمومي أو شبهه كما وقع تعريفه بالفصل 82 من م ج يكتسب آليا جزء من سلطة الذوار التي حددها الفصل المذكور باعتباره يعمل باسمها ويمثلها.
إلا أن هذه الخصائص ذات الطبيعة المعنوية تحتاج إلى وسائل مادية تفصح عنها وتبرزها للعموم.
الآن فيما يتعلق بالخصائص ذات الطبيعة المادية فان من أهمها نذكر الزي الرسمي والبطاقة المهنية والوثائق الإدارية:
– البطاقة المهنية: هي عموما بطاقة مرقمة تتضمن عادة صور حاملها وهويته ورقم بطاقة تعريفه الوطنية، وتحدد الجهاز أو الهيكل أو السلطة التي ينتمي إليها ورتبته واختصاصه وتتضمن مدة صلوحيتها وتحمل ختم ذلك الهيكل أو تلك السلطة وشعاره.
– الزي الرسمي: أو الكسوة الرسمية
الزي هو العلامة الظاهرة للوظيفة به يتسنى معرفة من لهم الحق في العمل باسم القانون، وواضح أن هذا الغرض لا يتحقق إلا إذا كان استعمال الزي الرسمي، مقصورا على أولئك الموظفين دون غيرهم وقد نصت عديد الأنظمة الأساسية التونسية الخاصة بالأعوان العموميين على فرض ارتداء أزياء خاصة أثناء مباشرتهم للوظيف، أو بمناسبته إذا يطالب القضاء والعسكريون وأعوان قوات الأمن الداخلي وأعوان الديوانة وأعوان الاستقبال وبعض الأسلاك الأخرى بارتداء أزياء خاصة يهم .
وتجدر الإشارة إلى أن واجب ارتداء الزي الرسمي ليس حكرا على أعوان السلطة العامة إذا أن مختلف السلط الإدارية يمكنها أن تفرض على موظفيها أو بعض أعوانها ارتداء زي رسمي مميز وهو ما يتضح معه أن الزي الرسمي من خصائص الوظيف ووسائله ويعبر عن الاختصاص والسلطة ويعكس صفة صاحبه .
وأخيرا الوثائق الإدارية التي هي موضوع بحثنا وتعني جميع الوثائق التي تعتمدها الإدارة في نطاق اختصاصها الوظيفي وخاصة منها جميع الوثائق الرسمية من محاضر واستدعاء وعقود وأحكام ودفاتر… وغيرها من الأوراق الرسمية التي يختص بها الموظف العمومي أو شبهه بتحريرها أو تكون بصفة عامة صادرة عن الإدارة وهذه الوثائق تتعدد وتختلف بتعدد و اختلاف الاختصاصات والمهم أن تكون تلك الوثائق تابعة للهيكل الإداري أو الجهة الإدارية أو المؤسسة التي ينتمي إليها الموظف العمومي أو شبهه وأن تكون متعلقة بطبيعة وظيفه بحيث تكون في حد ذاتها ومن حيث شكلها معتبرة رسمية وصادرة عن هيكل إداري مختص. إن وسائل الوظيف المتعددة والتي لا يمكن حصرها وهي تختلف باختلاف الاختصاصات وطبيعة العمل فالسيارة الإدارية تعتبر من وسائل الوظيف والمكتب هو وسيلة وظيف … وما يجمع بينهما جميعا هو أنها تمثل وتجسم الاختصاص الوظيفي والهيكل الإداري الذي ينتمي إليه الموظف العمومي أو شبهه، وقادرة في حد ذاتها على الإفصاح عن صفة حائزها وسلطته واختصاصه.
وتأسيسا على ذلك يمكن القول بأن خصائص الوظيف: هي جملة العناصر المادية والمعنوية التي تميز وظيفة عن أخرى من حيث صفة أعوانها وسلطتهم وصلاحياتهم واختصاصهم ووسائل عمليهم.
إذن يمكن القول أننا قد بيننا تجليات الفساد الإداري من خلال مكافحته بتجريم الرشوة وبمنع ارتكاب الجرائم باستعمال خصائص الوظيف مؤكدين في كل عنصر على محاولة تصدي المشرع لهذه الآفة أو على الأقل الحد منها، وإذا كان الفساد الإداري قد أبرزته للعيان في هذين العنصرين فما هو الحال بالنسبة للفساد المالي؟
الفقرة الثانية: الفساد المالي:
يمكن أن يصل الفساد المالي إلى الأموال العامة فهي الجريمة التي تمثل هتكا للوظيفة ولمصداقيتها تجاه الأفراد. لذلك سوف نتعرض لجرائم لاستيلاء على الأموال العمومية بمختلف أنواعها لمساسها بالمصلحة التي أراد المشرع حمايتها.
في عرض الجرائم عرض للفساد الصادر عن الموظف العمومي المسؤول عن كل ذلك.
وقبل البحث في الأفعال المادية المكونة لجرائم الاستيلاء المنصوص عليها بالفصول 95 و96 و97 مكرر و98 و99 و100 من المجلة الجنائية سوف نتعرف على مدلول المال العمومي المراد حمايته.
أ) تعريف المال العمومي:
يعرف لفظ المال بمفهومه المدني بأنه كل شيء قابل للتعامل به من جهة وقابل للتثمين من جهة أخرى وبالتالي يعتبر مالا العقارات بنوعيتها الطبيعية والحكمية والمنقولات بما فيها من سندات بنكية ونقود ورقاع إلى غير ذلك إلا أنه و بالرجوع إلى التعريف الوارد بمعجم المصطلحات القانونية الذي ينص على أن كلمة أموال” تعني مجموعة موجدات الذمة المالية لشخص ما إلا أن هذه التعاريف الموسعة للمال لا يمكن تبنيها كموضوع جريمة الاستيلاء على أموال عمومية باعتبار وأنه لا يمكن اختلاس عقارات أو ديون بينما يمكن اختلاس ثمار تلك العقارات ومستخلصات تلك الديون عندما تتحول إلى منقولات. ومن ثمة لا يسلط فعل الاختلاس إلا على المنقولات.
أما لفظ العمومي فهو صفة تستند للمال إذا ارتبطت الغاية من استعمال ذلك المال بالمصلحة العامة والتي عهدت لخدمتها. وبالتالي يعتبر المال عموميا كلما كان ملك للأشخاص العموميين ومن ثمة للمجموعة الوطنية.
ويعرف المال العمومي إذا بكونه مجموع المنقولات من عملة denier وأوراق وغيرها من السندات التي تستند للموظف من الشخص المعنوي قصد تحقيق المصلحة العامة.
وهذا التعريف الموسع لعبارة المال العمومي جاء نتيجة الموقف الذي تبينه محكمة التعقيب في العديد من قراراتها بحيث اعتبرت في قرارها عدد 12504 الصادر بتاريخ 14 جويلية 1984 أن “الأموال العمومية ليست المراد به النقد السائل بل كان ما كان أو يمكن أن يكون نقدا سائلا من المنقولات وبالتالي الأشجار المستولى عليها بعد قطعها من الغابة من قبل حارسها يعد من خلال ذلك العمل مقترفا لاستيلاء على أموال عمومية” .
ب) الأفعال المنصبة على المال العمومي:
جريمة الاستيلاء على الأموال العمومية تتكون من عنصرين أساسيين:
وهما فعلا الاختلاس والذي يكتسي أنواع متعددة حسب ما نصت عليه فصول المجلة الجزائية وقيام الموظف العمومي بفعلته تلك خلال مباشرته لوظيفته.
ففعل الاستيلاء هو مجموعة الأفعال المكونة للفعل الإجرامي إذن تتكون جريمة الاستيلاء على المال العام من أفعال متعددة حسب نوع الجريمة وهي:
– جريمة أخذ أموال باطلة الفصل 95
– جريمة استغلال صفة الفصل 96
– جريمة استيلاء أموال عمومية 99-100
– جريمة الاستيلاء على المال العام 199
1. جريمة أخذ أموال باطلة فصل 95:
جاءت بالفصل 95 من المجلة الجزائية أنه يعاقب بالسجن مدة خمسة عشر سنة وبخطية تساوي مبلغ ما يحكم بترجيعه الموظفون العموميين أو أشباههم الذين يتخذون أموال باطلة وذلك بأن يأمروا باستخلاص…”
عند قراءة محتوى الفصل 95 يلاحظ عبارة ” أخذ الأموال باطلا” وهي عبارة واسعة تقصد المشرع عدم الذكر تلك الجرائم أي أنه لم يحدد طرق أخذ هذه الأموال على اعتبار أنه يدرك أن الموظف العمومي يحكم معرفته ودرايته بخفايا وظيفته قادر على أن يبتدع طريقة يتمكن من خلالها من أخذ الأموال الباطلة، لذلك لم يحصر المشرع الأفعال المتمثلة لهذه الجريمة، نفس الفعل نجده في القانون الفرنسي بالفصل 432 م.ج.ف. الذي أورد مجموعة أفعال مرتبطة بالمصلحة العامة وجرم كل موظف يأخذ أو يفرض أو يأمر بتحصيل مبالغ غير مستحقة، ونفس الشيء بالنسبة للمشرع المغربي بالفصل 243 م جزائية المغربية ” يعاقب كل موظف عمومي طلب أو تلقى أو فرض أو أمر بتحصيل ما يعلم أنه غير مستحق.
وبالعودة إلى الفصل 95 م.ج. نجد نفس الصيغة بالنسبة لمشرعنا حيث أورد عبارة الأمر والقبض والقبول بما يعلم بعدم وجوبه وبالتالي نجد أن هناك جريمتين :
أولا: جريمة أخذ أداءات أو ضرائب غير مستحقة أو تجاوز المستحقة : هذه الجريمة تبدو ومن حيث تطبيقاتها أقرب إلى جريمة الارتشاء منها إلى جريمة الاستيلاء على أموال عمومية، وقد اعتمدت محكمة التعقيب في 2003 أن الفصل 95 م ج يقتضي أن الموظفين العموميين أو أشباههم الذين يقبضون ما يعرفون عدم وجوبه أو تجاوزوا المقدار الواجب يتحاكمون لأجل الإرتشاء، ونتيجة هذه العبارات التي اعتمدها المشرع وهو ما يحيل مبدئيا إلى عقوبة الارتشاء ولا إلى العقوبة الواردة بالفصل 95 وهو الأمر الذي أدى إلى قلة تطبيق أحكام الفصل 95 وذهب فقه القضاء إلى تطبيق أحكام 97 و99، لكن مجمل الصيغة الحالية للفصل 95 بصيغته الأخيرة لا بد من أخذ العبارات كاملة ” يأمر أو يقبض أو يقبل” وهي عبارات من شأنها أن تدل على أننا في حديث عن جريمة الاستيلاء على المال العام. هذه العبارات بالضرورة مرتبطة بصنف محدد من الموظفين العموميين الذين لهم سلطة توجيه الأوامر واتخاذ القرارات.
ثانيا : تجاوز المقدار الواجب أخذه: وهو يعلم من الناحية الاصطلاحية تعدي الحد المقرر قانونا أو المستحق أخذه أو المستوجب قانونا لأننا نلاحظ مثلا أنه على مستوى البلديات هناك معاليم ورسوم محددة واضحة عند استخراج الوثائق فإذا ما تجاوزها الموظف المكلف بالاستخلاص يعد مركبا لجريمة الاستيلاء وهنا يبرز الفساد بعينه.
إذن نجد أن التراتيب المنظمة لبعض المناطق العمومية التي تقدم خدمات بمقابل نجدها تضبط وتحدد المقدار المالي الواجب دفعه للإدارة وهذا ما تبينه من التعقيب في سنة 1991 إذا قالت:” يأخذ من النص القانوني منطوق ودلالة أن الاستخلاص المحضور أو الاستيلاء الباطل هو الاستخلاص أو الاستيلاء الواقع من طرف الموظف والمتمثل في قبضة أو قبوله أو قبوله ما يعرف غير واجب ويتجاوز المقدار الواجب في الإدارة المكتسب إليه.”
وبالتالي فان رفض المشرع لهذه الجريمة يكمن في الحرص على بعث الثقة في نفوس المتعاملين مع المرافق العمومية وفي حماية الوظيفة من اعتداء وتجاوز العاملين بها.
2. جريمة الفصل 96 م جزائية:
ما يمكن ملاحظته من خلال قراءة الفصل 96 أن هذه الجريمة لا بد أن تتوفر فيها بعض الشروط وهي: – توفر صفة الفاعل المجسد في الموظفين العموميين
– الأعمال التي يكون الجاني مكلف بالقيام بها عند استغلال صفته في ارتكاب الفعلة وهي على التوالي بيع، ًشراء، إدارة، حفظ المكاسب.
– استخلاص فائدة لا وجه لها.
وبالتالي يبدو أن جريمة الفصل 96 وتتكون من جريمتين :
أولا: استغلال الصفة لاستخلاص فائدة غير مشروعة لنفسه أو لغيره لأن الفصل 96 أخذ مفهوم “الجاني” “الموظف العمومي” المفهوم الواسع لأن الفصل 96 عدد عديد المؤسسات العمومية وأنه بصفته تلك كلف بموجبها ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ المكاسب الراجعة بالملكية سواء للدولة أو لتلك الدوائر المعنوية العاملة فيها . ويمكن القول أيضا على معنى هذا الفصل أنه لا يهم إذا كان قد حصل ضرر بالإدارة من المنفعة أو الفائدة الحاصلة للفاعل أو لم يحصل لها ضرر لأن العبرة بإمساك هؤلاء الذين عددهم الفصل 96 عن تقبل فائدة تنجر لهم مباشرة من عملهم الوظيفي لأن سعيهم في حد ذاته في السعي إلى الحصول على تلك المنفعة يعد في حد ذاته دليل على رغبتهم في استغلال مراكزهم اتجاه من يتعاملون معهم من جهة لكن من جهة أخرى وضمنية سيؤدي هذا الأمر بالإضرار بالإدارة التي منحتهما ثقتها وتركت لهم إدارة أعمالها.
في هذا السياق توجه محكمة التعقيب تهمة استغلال موظف عمومي صفته لإستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو مخالفة التراتيب الجارية على تلك العمليات لتحقيق فائدة أو الضرر المشار إليهما على المتهم الهادي بن محمد والمتهم كريم بن الحبيب طبق أحكام الفصلين 32 و 36 من المجلة الجزائية .
. ثانيا: استغلال الصفة للإضرار بالإدارة وهنا نؤكد على أن الضرر تحقق للإدارة بقطع النظر عن حصول الجاني على منفعة أو عدم حصوله عليه محكمة التعقيب في 1996 اعتبرت أن مسألة إلحاق الموظف العمومي ضرر بالإدارة تخضع للاجتهاد المطلق لقاضي الأصل الذي لا رقابة عليه من محكمة التعقيب لأن الإدارة هي مجموعة الهياكل التابعة إلى الدولة وهي تسيير مرفق إداري. لذلك نجد أن كل تصرف أو عملا موجه إلى مجموع تلك الهياكل المذكورة بالفصل 96 يعتبر ضرر ملحق بالإدارة العامة ولو أن المشرع لم يتوسع في مفهوم الإدارة فانه لم يكن هناك أي جدوى لأن هذا التوسع أراد منه المشرع أن يوسع في المقابل من مفهوم المال العام.
3. جريمة الفصل 97 من المجلة الجزائية :
ما يمكن أن نقف عليه من خلال العبارات الواردة في إطار الفصل 97 أن هناك نشطين هما الإذن بالدفع والتصفية لما وضع بين يديه.
وعند التعمق في هذا الفعل نجده أيضا يتكون من فعليين إجراميين:
أولا: الحصول على ربح لنفسه أو لغيره لأنه حسب الفصل نجد أن الموظف العمومي هو الباعث على التربح وكأنه باعث على الإرتشاء وفعل الأخذ لا يكون إلا من خلال صفته الوظيفية ومكان الجريمة يكون المرافق العمومية إلا أن القبول لا يكون إلا عند ممارسة الموظف لإحدى النشاطات التي أوردها الفصل 97.
ثانيا : أخذ أي فائدة كانت في أمر مكلف بالإذن بالدفع فيه أو بتصفيته. لأن الأخذ هو سلوك مادي يتسلم بموجبه الفاعل المقابل وينقل حيازته إليه ومفهوم الفائدة أكبر من المنفعة لأن الفائدة فيها مفهوم مادي، وفيها مفهوم معنوي، وأراد المشرع من وراء هذه الجريمة أن يعاقب كل من له سلطة التصرف في المال العمومي لأن هذا الموظف ليس إلا حارسا للمال العام لا يملك منه شيء.
4. جريمة الفصلان 99 و 100 مجلّة جزائية:
ما يمكن فهمه مبدئيا من خلال الفصل 99 م.ج. أن هذه الجريمة تتمثل بالنسبة للأعوان العموميين في سرقة الأموال كانت بأيديهم بمقتضى وظيفتهم.
فهدف الفصل 99 مثل الفصول السابقة يسعى إلى حماية المال العام وكذلك الأموال الخاصة التي تعود ملكيتها للخواص لأنه إذا ما تعرضت أموال الشركات التجارية للاختلاس نجد أن الفصل 99 جاء لحمايتها لأنه ابتكر الحجج، الرقاع، الرسوم، المنقولات، العقود وهذه الحماية تكون بتجريم الأعمال التي يقوم بها الموظفون العموميين لأن فيها نصرف بدون وجه حق وبالتالي كلما تعامل الموظف مع ما تضمنه الفصل 99 مخالف فيه الشفافية والنزاهة إلا وكان عرضة للعقوبات الواردة بالفصل 99 لكن بالتدقيق يلاحظ أن هذه الجريمة الواردة بالفصل 99 تتكون أيضا من جريمتين اثنين: هما أولا التصرف دون وجه في أموال عمومية وأموال خاصة لأن المشرع في الفصل 99 لم يفرق بينهم وقد أوردت م التع في قرار لها سنة 2000 أن أعوان الشركة التونسية للكهرباء والغاز الذين تولوا تنفيذ تحويرات في الشبكة الكهربائية بمصنع دون احترام شروط السلامة والضمانة وبدون مسبق واستعمال معدات وآلات على ملك الشركة لانجاز تلك المهمة قصد تحقيق منافع خاصة تمثلت في قبض المتهم لمبلغ 100 دينار من صاحب المصنع مرتكبا لجريمة استيلاء على أموال عمومية في شكل تصرف بدون وجه قانوني في أموال عمومية.
ثانيا: اختلاس المال العام وهو الفعل الذي يتجسد من خلال تصرف الجاني في المال الذي بعهدته بتمديده أو احتجازه أو إخفائه وقد اعتبرت محكمة التعقيب أن هذه الجريمة لا تقوم إلا بتوفر 3 أركان وهي بالأساس أن يكون الجاني موظف عمومي، وأن يكون المال المستولي عليه وضع تحت يده بموجب وظيفته، وأن يكون على سوء نية وعليه فانه يتحتم على محكمة الموضوع إبراز هذه العناصر الثلاثة وإلا أستهدف حكمها لأن الاعتداء عن المال العام هو جزء من الجرائم التي قد يرتكبها ممثل السلطة عند ممارسة أعماله لذلك تتوجه جل التشاريع إلى تجريم كل فعل من شأنه أن يخل بالمرفق العام فهذا التجريم غايته الحماية من كل الخروقات والتجاوزات لأن الأصل في الإنسان الاستقامة وحسن النية وكذلك في الموظف العمومي المحمول على النزاهة والمصداقية.
وما يمكن أن نلاحظ بالنسبة لهذه الفصول أنها كانت منطلق بتوجيه التهم ضد الرئيس السابق وزوجته الصادر عن قاضي التحقيق في جوان 2011 القاضية بإحالة المتهمين على هذه الدائرة من أجل تهم اختلاس الأموال العمومية واستخلاص فائدة لا وجه لها للإضرار بالإدارة وزوجته بصفتها مشاركة على معنى الفصول 32 و97 و99 و152 مجلة جزائية وهو ما أدى إلى إصدار بطاقات جلب.
خلاصة القول جرم المشرع على الموظف العمومي أو شبهه خرق مبدأ سرية الوثائق الإدارية التي ترتب عنه فساد إداري ومالي مازال إلى الآن القانون في معركة معه للقضاء عليه أو على الأقل الحد منه، لذلك ما فتئ المشرع يبحث عن آليات كفيلة تتمثل في منح سلطة تقديرية للإدارة بغرض تحقيق ثقة العملاء في أصحاب المهن وثقة المواطنين في الموظفين.
الفصل الثاني: آليات الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية
دائما في إطار تجريم الاعتداء على سرية الوثائق الإدارية التي خطت بعناية كبيرة من طرف القانون أوجد المشرع آليات لتأكيد هذه الحماية للوثائق الإدارية وضمان حرمتها وهذه الحماية تتدعم خاصة مع منح الإدارة سلطة تقديرية واسعة.
وغرض المشرع في انتهاج هذا التمشي لا يرمي فقط إلى حماية المصالح الخاصة للأفراد وإنما يهدف أيضا إلى حماية المصلحة العامة. وتبعا لذلك فان ضبط وتكييف الأفعال المعتبرة أخطاء تأديبية يصبح موكولا السلطة التقديرية للادارة (مبحث أول) وهي تستعين في ذلك باستشارة مجلس التأديب (مبحث ثاني).
المبحث الأول: السلطة التقديرية للإدارة في تحديد الأخطاء التأديبية
تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية واسعة في المجال التأديبي وحسب الأستاذ توفيق بوعشية تعني السلطة التقديرية ” في مفهومها العام الاعتراف للإدارة بحرية اتخاذ القرار أو اختيار الحل الذي تراه ملائما أو مناسب، وأن يكون قرار الإدارة أو اختيارها خاضعا لقاعدة قانونية مرسومة مسبقا .
وبالرجوع إلى القضايا والتوجهات المعروضة على أنظار القاضي الإداري والمتعلقة بتأديب أعوان الوظيفة العمومية. نلاحظ من هنا تمتع الإدارة بسلطة تقديرية واسعة على مستوى تحديد الأخطاء التأديبية وإثباتها وهذا ما سنبينه في (فقرة أولى) وكذلك على مستوى تكييفه (فقرة ثانية ).
الفقرة الأولى: مبررات وجود السلطة التقديرية:
اقدام الموظف العمومي على القيام بجريمة تتنافى مع أخلاقيات الوظيفة العمومية هو من الأسباب التي كانت وراء منح الإدارة سلطة تقديرية في تحديد الأخطاء. في إطار غياب تحديد أو حصر للأخطاء التي يمكن أن يرتكبها العون العمومي والتي تندرج في إطار الإخلال بهذا الالتزام الوظيفي حاولت المحكمة الإدارية في إحدى القرارات تقديم تعريف لهذا الخطأ معتبرة: ” أنه يكفي في الجريمة التأديبية أن تثير الوقائع المنسوبة للموظف غبارا قائما حول تصرفاته ممّا يمس سلوكه الوظيفي ويؤثر في حسن سمعته بين الناس، فتتناثر حوله الأقاويل الأمر الذي يفقد معه الاطمئنان إلى عمله وبالتالي يكون بكاؤه في وظيفته مما يعرض المصلحة العامة للخطر . وعلى هذا الأساس فلا تقتصر مسؤولية الموظف عما يرتكبه من أعمال عند مباشرته لوظيفته الرسمية بل انه يسأل كذلك تأديبيا عما يصدر منه خارج نطاق عمله وبوصفه فردا من الناس إذ هو مطالب على الدوام بالحرص على اعتبار الوظيفة التي ينتمي إليها حتى ولو كان بعيدا عن نطاق أعماله. ولا يجوز أن يصدر منه ما من شأنه أن يعتبر مناقضا للثقة الواجبة فيه والاحترام المطلوب له والذي هو عدته في التمكين لسلطة الإدارة وبث احترامها من الغير وذلك اقتضاء بالفصل الثالث من قانون الوظيفة العمومية .
أ) تحديد السلوك الوظيفي:
هناك عدة أسباب خولت للإدارة ممارسة السلطة التقديرية لعل من أهمها تحديد السلوك الوظيفي للموظف يعني أن ذلك الفعل أو السلوك لا يكتسب الطابع الإجرامي إلا إذا أحرز على أوصاف أحد الأفعال المضبوطة مسبقا والمدخلة تحت إطار التجريم غير أنه بالنسبة للنظام التأديبي فلئن شابه النظام الجزائي من ناحية الصبغة العقايدية لكل منهما فان هذه القاعدة لا تجد لها مكانا فيه . وهذا ما عبرت عنه المحكمة الإدارية في قرارها عدد 4880 المؤرخ في 12 /4/1983 مفيدة أنه ” وحيث إذا كانت القاعدة في الجرائم الجنائية أنها محددة على سبيل الحصر بحيث لا يمكن أن يعاقب إنسان إلا إذا ارتكب عملا جرمه القانون صراحة إذ لا جريمة بدون نص. فان هذا ليس الشأن في الجرائم التأديبية إذ لا يمكن حصرها مقدما”.
فالمشرع لم يكرس هذه القاعدة نظرا وأن طبيعة المادة تفرض ضرورة عدم إمكانية حصر الأخطاء التأديبية بصفة مخفقة مسبقا.
فنفس أفعال الموظف قد تشكل في بعض الظروف والملابسات أخطاء تأديبية وقد لا تشكل أحيانا أخرى أخطاء موجهة للمؤاخذة التأديبية. وتحديد السلوك يعني أن تقدم سلطة التأديب في كل حالة على حدة ما إذا كان ما أتاه الموظف مخلا بواجبات وظيفته أو بمركزه كموظف عام أم لا.
فهذه الظروف التي صنعت الفصل هي التي من شأنها أن تصبغ على فعل الموظف طابع الخطورة والمس من السلوك الإداري القويم أو أنها – أي الظروف – هي التي تفيد العكس وتجعل من ذلك السلوك سلوكا مغتفرا أو عاديا. ونظرا لتعديدها وتنوعها حسب الأحوال وحسب الوظائف والميادين فإن الإدارة هي السلطة الأقدر على معرفتها وتكييفها وتقديرها وتحديدا فان الرئيس المباشر للعون العمومي هو الذي يكون مخولا أكثر من أي كان على تقييم وتقرير ما إذا كان السلوك الذي أتاه العون يمثل إخلالا بالواجبات الوظيفية هكذا إذن ومن خلال تحديد السلوك الوظيفي تبرز حرية الإدارة التي تتأكد أكثر فأكثر من حلال حريتها في إثبات الخطأ التأديبي.
ب) حرية الإدارة في إثبات الخطأ :
مثلما تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية واسعة في تحديد السلوك الوظيفي المخطأ فإنها تتمتع أيضا بحرية إثباته وكما نعلم في القانون البينة على من إدعى. فعلى الإدارة بيان إثبات الخطأ في المعنى المتداول ببيان سنده الواقعي حتى تتمكن من تأسيس العقوبة المناسبة له.
وبذلك فإنّ الإدارة تتحمل عبء الإثبات فقد جاء في إحدى قرارات المحكمة الإدارية أنه بالنظر للصبغة الزجرية التي تكتسيها القرارات الصادرة في المادة التأديبية فإنّ العمل القضائي درج وضع عبء الإثبات على كاهل الإدارة التي أصدرت العقوبة التأديبية، وعليه فلا تعتبر العقوبة شرعية إلا إذا أثبتت صحة الوقائع المنسوب اقترافها .
كما تؤكد المحكمة الإدارية ذلك بقولها في قرار آخر، وحيث أن عبء إثبات الأفعال التي تمثل الواقعي للقرار التأديبي محمول على الإدارة التي يتوجب عليها إحضار الوسائل الكافية التي من شأنها أن تقيم الحجة على صحة ما نسبته لعونها المدان .
وفي خصوص عبء الإثبات المحمول على كاهل الإدارة نواها لا تتقيد بنص قانوني معين لتقديم الوسائل التي على أساسها ستثبت الخطأ الذي حددته وكيفته وإنما نجد هذه الأخيرة تعتمد ما تراه من الوسائل دون أية شروط أو قيود محددة.
وفي هذه الحرية شيء من التوسيع في وسائل الإثبات التي تعتمدها الإدارة لإدانة العون العمومي من أجل الخطأ الوظيفي.
وتتعدد الأمثلة على الصياغة التي يسلطها فيها القاضي الإداري الضوء بوضوح على تحمل الإدارة مبدأ البينة، وهذه بعضها:
” وحيث أن عبء الإثبات في المادة التأديبية محمول على الإدارة التي يتعين عليها الإدلاء بما يفيد ارتكاب الموظف المدان لما ينسب إليه من الأفعال .
أو أيضا ” وحيث أنه من المستقر فقها وقضاء أن عبء الإثبات في المادة التأديبية محمول على الإدارة التي يتعين عليها تقديم الدليل المقنع على صحة ارتكاب العون الموضوع المساءلة التأديبية للأفعال الواقع مؤاخذتها من أجلها أو أيضا ” وحيث أن عبء إثبات صحة الأفعال التي تقدمها الإدارة على أنها تمثل السند الواقعي للقرار التأديبي يبقى دوما محمولا عليها ويتعين عليها إحضار الحجج الكافية والكفيلة بإقناع المحكمة بصحة الوقائع التي اعتمدتها ولإبراز شرعية قرارها من حيث ارتكازه على سند واقعي سليم” .
تؤكد جميع هذه القرارات على دور الإدارة في تحمل عب إثبات صحة الوقائع، متشددة أحيانا باشتراط دليل مقنع أو “دليل قطعي” أو “حججا كافية وكفيلة بإقناع المحكمة”، ومكتفية أحيانا أخرى بالتأكيد على أن الإدارة ليست مخيرة في الاضطلاع بمهمة الإثبات بل هي “مجبرة” على ذلك و”محمولة” عليه، فلا يحل تحقيق المحكمة محلّ هذا “الالتزام” وهذا “الحمل”.
تعتبر السلطة التقديرية للإدارة في تحديد الخطأ أو إثباته أو تكييفه آلية من آليات الحماية الجزائية سرية الوثائق الإدارية.
الفقرة الثانية: أوجه سلطة الإدارة التقديرية:
سلطة الإدارة التقديرية لا تقف عند تحديد السلوك الوظيفي واثبات الخطأ بل وصلت إلى حد التكييف.
يمكن تصنيف سلطة الإدارة في تقدير الأخطاء التأديبية حسب ما يستنتج من النصوص التشريعية إلى سلطة ضبط وتكييف. فالمشرع وضع بعض الواجبات الوظيفية ونص على ضرورة عدم مخالفتها كالمحافظ على السر المهني الوارد بالفصل السابع من النظام الأساسي العام لسنة 1983 وضرورة الخضوع لتعليمات الرئيس المباشر وتنفيذها .
فمثل هذه الواجبات إن كانت لا تخول الإدارة حرية تحديد الواجب المعاقب عن تركه إلا أنها تخولها سلطة تكييف فعل ما بأنه يدخل تحت طائلة الأخطاء المنجرة عن تلك المخالفة وبالتالي فان السلطة التقديرية للإدارة في مثل هذه الأخطاء هي سلطة تكييف.
– فالمشرع في منعه مثلا لعدم إفشاء السر المهني أو تسريب الوثائق الإدارية من طرف الموظف العمومي دون تحديده – المشرع – لكل هذه المفاهيم يحيل بصفة غير مباشرة إلى الإدارة سلطة تكييف الأفعال بحسب أحوال كل نشاط مهني وما يولده من أسرار مهنية.
إذن يمكن القول بأن المشرع منح سلطة تكييف الأفعال إلى الإدارة.
كما نجد أن المشرع من جهة أخرى يضع قواعد مسلكية عامة يجب على الموظف الالتزام بها كتنصيصه في الفصل الثالث من القانون عدد 112 لسنة 1983 أنه ” على العون العمومي أن يتجنب أثناء ممارسته وظيفته وفي حياته الخاصة كلما من شأنه أن يخل بكرامة الوظيفة العمومية وهو ملزم في كل الظروف باحترام سلطة الدولة وفرض احترامها”.
من خلال هذا الفصل رسم المشرع للموظف العمومي المسار الذي يجب عليه إتباعه وبالتدقيق فيما جاء بهذا الفصل نلاحظ أنه جاء عاما سواء من حيث الأفعال المراد حمايتها من وراء إقرار عقاب تلك السلوكيات.
وتبرز عمومية الأفعال مثلا من خلال استعمال المشرع لعبارة:” كل من شأنه” ومفادها وبعبارة أخرى جميع الأفعال وتتجلى فيها بوضوح صبغة العمومية المذكورة. أما بالنسبة لعمومية القيم الوظيفية المحمية فتبرز من خلال استعمال المشرع لعبارات “كرامة الوظيفة العمومية” وسلطة الدولة و”فرض احترامها” وهي عبارات لا مجال للشك في عموميتها وإطلاقها وإمكانية انطباقها على العديد من الأفعال التي تستعصي على الحصر .
نستنتج من كل ما سبق أن المشرع أعطى للإدارة بصفة غير مباشرة سلطة تقديرية من نوع ثان وهي سلطة الضبط بما هي تحديد للسلوكيات والأفعال التي تدخل تحت إطار هذه النصوص العامة والمعتبرة أخطاء تأديبية على معناها. وحتى تتمكن الإدارة من الاضطلاع بهذا الدور على أكمل وجه ممكنها المشرع من استشارة مجلس التأديب كلّما تعلق الأمر بأخطاء موجهة لعقوبات شديدة.
المبحث الثاني: الدور الاستشاري لمجلس التأديب
تستعين الإدارة في تقديرها للخطأ التأديبي الموجب لعقوبة من الدرجة الثانية باستشارة مجلس التأديب تحقيق للتحري في ماديات الأفعال المنسوبة للموظف من جهة (فقرة أولى) واستعانة بما يبديه من رأي في خصوص تطبيق القانون التأديبي من جهة ثانية (فقرة الثانية).
الفقرة الأولى: التحري في ماديات الأفعال المنسوبة للموظف
نص المشرع صلب الفصل 51 من القانون عدد 12 لسنة 1983 على أنه تتعين استشارة مجلس التأديب قبل اتخاذ العقوبات من الدرجة الثانية المسلطة على الموظفين والعملة ونظرا لشدة هذه العقوبات فإنها يمكن أن تصل إلى حد العزل .
وتبعا لمبدأ التناسي بين الخطأ والعقاب الذي يلزم الإدارة بأن توقع هذه العقوبات الأشد على أخطاء ذات خطورة مما يقتضي مزيد تثبت الإدارة في تقديرها لتلك الأخطاء وهنا بالذات تبرز قيمة السلطة التقديرية التي تتمتع بها الإدارة – عند توقيع مثل هذه العقوبات ومبدأ حق الموظف في الدفاع عن نفسه في خصوص الأفعال المنسوبة إليه خاصة وأن دفاع الموظف عن نفسه يندرج في إطار ” الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين ” التي أكد عليها الدستور التونسي صلب فصله الرابع والثلاثين .
فقد أوكل المشرع لمجلس التأديب مهمة زيادة التحري في الأفعال الموجبة للعقاب على ضوء التحقيق الإداري السابق للإحالة على مجلس التأديب والذي يقرر بمقتضاه الرئيس المباشر هذه الإحالة وعلى ضوء ردود الموظف على ما ورد بالتقرير من الأخطاء المنسوبة إليه ويكون هذا الردّ أما بنفسه أو بواسطة من يختاره للدفاع عن نفسه وكذلك من خلال مستنداته ووسائل دفاعه التي يمكن أن تتمثل في شهود عيان أو في حجج متكونة.
ومما يؤكد هذا الاتجاه إقرار المحكمة الإدارية لمبدأ إعادة القيام بكل الإجراءات في صورة تغيير سبب من أسباب الإحالة على مجلس التأديب وذلك قصد تمكين العون من الدفاع عن نفسه في خصوص ما نسب إليه من أخطاء محددة .
ومن جهة أخرى وفي إطار تعزيز حظوظ الموظف في الدفاع على نفسه فقد نص الفصل 53 من النظام الأساسي لأعوان الوظيفة العمومية على أنه إذا رأى المجلس أنه لم يحصل له ما يكفي من الوضوح في شأن الأعمال المنسوبة للموظف أو الظروف التي ارتكبت فيها تلك الأعمال يمكن له أن يأذن بإجراءات بحث.
والقيام بهذا البحث الإضافي يمكن أن يظهر لزومه بناءا على ظهور عناصر جديدة خلال انعقاد المجلس متعلقة بالأفعال محل النظر التي من شأنها أن تؤثر على مال المشكل التأديبي وتستدعي تحريا إضافيا أو في صورة التناقض الحاصل بين وسائل إثبات الإدارة ووسائل إثبات العون الجديّة أو التضارب في بيانات شهود الإدارة وشهود العون. وتمكين للعون من القيام بدفاعه الكامل فان نفس الفصل المذكور ينص بفقرته الأخيرة على أنه يتحتم استدعاء العون لحضور كل الجلسات التي تستوجبها أشغال المجلس وهو ما من شأنه أن يفضي مزيدا التحرّي في خصوص الأفعال المنسوبة للموظف بغية المرور إلى تطبيق القانون عليها.
الفقرة الثانية: إبداء الرأي في خصوص تطبيق القانون:
الدور الاستشاري لمجلس التأديب لا يقف عند التحرّي في ماديات تلك الأفعال المنسوبة للموظف بل يصل إلى إمكانية إبداء الرأي في خصوص ما أقره القانون.
فالرأي الذي يبديه مجلس التأديب في خصوص تطبيق القانون ينصرف الرأي فرعين أساسيين أولهما التكييف القانوني للأفعال وثانيهما يتمثل في تمكين الإدارة من فرصة الاطلاع على مدى ملائمة العقاب للخطأ المنسوب للعون.
بالنسبة إلى الفرع الأول المتمثل في التكييف القانوني للأفعال فان المجلس ينظر في استجابة تلك الأفعال لأن تشكل خطأ تأديبيا فحتى يوصف الخطأ بأنه خطأ تأديبي لابد أن يمثل مخالفة للواجبات المهنية وهو ما يمثل بحث مجلس التأديب في الوجه القانوني لمشكل التأديب المطروح أمامه وسندنا في هذا الرأي ما ورد بنص الفصل 54 من ذكر لتعليل رأي المجلس وتفسير ذلك أن المجلس لا يكتفي بإقرار ثبوت الفعل من عدمه فإقرار العقوبة اللازمة بل لا بد من تبرير الأسباب المؤدية للعقوبة وهو ما يمرّ حتما عبر تبين أوجه خرق القانون.
أما الفرع الثاني والمتمثل في تمكين الإدارة من فرصة الاطلاع على مدى ملائمة العقاب المزمع اتخاذ الخطأ المنسوب للعون حيث يتولى أعضاء المجلس بعد الدفاع عن نفسه بما يراه صالحا اقتراح العقوبة الأصلح وتبعا لذلك تقع عملية تصويت سرية تكون نتيجتها الأخذ بأغلبية الأصوات إلا أنه رغم أن أعمال مجلس التأديب تمكن الإدارة من التحري في خصوص خطأ الموظف ومن تصور العقاب الملائم فان تلك الأعمال تبقى في نهاية الأمر استشارية وذلك بصريح الفصل51 ويبقى اصدرا القرار النهائي من مشمولات السلطة الإدارية التي لا يوجب عليها المشرع التقيّد بالرأي المذكور، ممكنا إياها بالتالي من مخالفة رأي المجلس التأديب إما في اتجاه تشديد العقاب أو في اتجاه التخفيف منه وقد أكدت المحكمة الإدارية مبدأ عدم تقيّد الإدارة برأي مجلس التأديب في قرارها عدد 453 المؤرخ في 2/12/1998 وهو ما يبرز مرّة أخرى سلطة الإدارة في ضبط وتكييف الأخطاء وبالتالي إيقاع العقاب الذي تراه ملائما.ويبقى للموظف المعاقب الحق في الالتجاء للقضاء الإداري تبعا للرقابة التي يسلطها على المقررات التأديبية.
خلاصة الجزء الأول
سعى المشرع لتكريس حماية جزائية لسرية الوثائق الإدارية حيث أوجب على الموظف والمهني واجب الالتزام بسرية الوثائق الإدارية وذلك لضمان الثقة بين الإدارة والمواطن وضمان استمرارية الشفافية والنزاهة في التعامل.
وعمل على تأكيد هذه الحماية من خلال تحريم إفشاء الأسرار الإدارية من خلال الفصل 109 من المجلة الجزائية وجرم الاعتداء على هذه السرية من خلال تجريم فعل الإفشاء الذي كانت من نتائجه بروز ظاهرة الفساد الإداري والمالي.
وللمزيد من الحماية لضمان سرية الوثائق الإدارية أوجد المشرع آليات لتدعيم الحماية تتمثل في إعطاء سلطة تقديرية واسعة للإدارة في تحديد الأخطاء التأديبية.
ونظرا لخطورة الجريمة فان الاعتداء على سرية الوثائق الإدارية يقابله جزاء غاية المشرع منه هو الضرب على أيدي العابثين بنزاهة الوظيفة العامة والمتجرين فيها، لذلك أخصت الفصول المنظمة للأسرار الإدارية. بل ركزت على الزجر في هذه الجريمة ولربما كان الزجر هو جوهر القانون. ولكن من الممكن التفطن إلى محدودية هذه العقوبات في صد جريمة الإخلال بسرية الوثائق الإدارية عند الحديث عن حق النفاذ إلى الوثائق الإدارية يعني أن المواطن له حق الاطلاع على الوثائق الإدارية باستثناء البعض منها المتعلق بمسائل معينة حسب مرسوم عدد 41 لسنة 2011.
الجزء الثاني: زجر الإخلال بواجب سرية الوثائق الإدارية
إن السياسة العقابية الجديرة بالإتباع هي التي ترمي إلى الدفاع عن المجتمع من جميع الظواهر الإجرامية التي تحف بأمنه واستقراره و حتي تحقق عقوبة الإفشاء غايتها المتمثلة في حماية النظام العام وحسن سير الإدارة العمومية كان لابد أن تكون العقوبة في حجم الخطر المحدق بالمصالح المعتدي عليها و بصدور الفصول المتعلقة بالإفشاء والاستيلاء على الأموال العمومية تم التشديد في العقوبات وذلك بمضاعفاتها في خصوص العقوبات السالبة للحرية وأيضا بالنسبة للخطية وانطلاقا من تأكيد أن المتهم باقتراف جريمة الإخلال بسرية الوثائق الإدارية إنما هو موظف عمومي أو شبه – فاعلا أصليا أو شريكا – بقطع النظر عن الموقع الذي يحتله في ترتيب درجات سلم الوظيفة العمومية فانه يتولد عن هذه الجريمة نوعان من الجزاء :جزاء جزائي وجزاء تأديبي وهو ما يعني ان العقوبات متنوعة (الفصل الأول) على أن هذه العقوبات تبقي محدودة في صد جريمة الإخلال بسرية الوثائق الإدارية (الفصل الثاني ).
الفصل الأول: أنواع العقوبات المسلطة في جريمة الإخلال بالسرية
كما كانت جريمة الإخلال بسرية الوثائق الإدارية من جرائم ذوي الصفة فإنها تتميز بإزدواجية العقوبة: عقوبة تأديبية تسلطها الإدارة التي أشرنا منذ البداية إلى سلطتها التقديرية حتى تضمن طهارتها ونزاهتها من بعض الموظفين الذين يشكلون خطرا عليها، وعقوبة جزائية صارمة ومتشددة بلغت إلى حد تضمن الجريمة الأربعة عقوبات في نفس الوقت منها ما هو تكميلي وهي: السجن والخطية بمبالغ هامة وهائلة.
ولدارسة أنواع العقوبات يتجه التمييز بين العقوبات التأديبية (مبحث أول) والعقوبات الجزائية (مبحث ثاني).
المبحث الأول: العقوبات التأديبية
ظل مفهوم العقوبة التأديبية من المفاهيم الغامضة والمثيرة للجدل مثلها مثل الخطأ التأديبي لكن في مقابل ذلك عمد المشرع إلى تحديد قامة حصرية تعريف العقوبات التأديبية بصفة عامة بأنها مجموعة الجزاءات التي وقع على مرتكبي الجرائم التأديبية من الموظفين وتكون هذه العقوبات ذات طبيعة أدبية أو مالية أو مهني وهي تهدف أساسا إلى ردع الموظف المخالف وتقويمه وإلى تأمين سير المرفق العام من جهة ثانية.
الفقرة الأولى: الخطأ كأساس للجزاء التأديبي
بدل أن يتعرض المشرع لمفهوم الخطأ الموجب للتأديب رسم إطار نظريا عاما يمكن من خلاله تحديد المقصود بنظرة المشرع لهذا الخطأ.
وفي هذا السياق بين المشرع صلب الفصل 3 من قانون 112 لسنة 1983 المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية بصفة صريحة الإلتزامات العامة أو الواجبات المهنية المحمولة على كاهل الموظف العمومي والتي يمكن على ضوئها تحديد معالم الخطأ الموجب للتأديب الذي لم يحظى بتعريف فقد نص الفصل المذكور:”على العون العمومي أن يتجنب أثناء ممارسته وظيفته ومن حياته الخاصة كل ما من شأنه أن يخل بكرامة الوظيفة العمومية وهو ملزم في كل الظروف بإحترام سلطة الدولة أو فرض إحترامها” .
يتجلى من خلال هذا النص أن المشرع أخذ من عبارة “إجتناب الإخلال بكرامة الوظيفة العمومية موجها عاما يحدد سلوك وأخلاقيات وممارسات الموظف العمومي، فهذه العبارة جعلها المشرع كعبارة يستأنس بها لتحديد مفهوم الخطأ الموجب للتأديب عموما.
وبطبيعة الحال فإن الخطأ يقابله عقاب لذلك ننتقل بعد هذا التعريف إلى الحديث عما ينجر عن الخطأ من عقوبات وذلك ما ورد بالفصل 8 فقرة أولى من القانون المذكور أعلاه “كل خطأ يرتكبه عون عمومي أثناء ممارسة وظيفته أو بمناسبة مباشرته لها يعرضه لعقاب تأديبي بصرف النظر عند “الإقتضاء عن العقوبات التي ينصص عليها القانون الجزائي” يفهم من هذا النص أن كل خطا موجب لعقاب تأديبي وأيضا العقاب جزائي إن إقتضى الأمر.
لئن لم يحتوي الفصل المذكور على بيانات تساعد على بلورة مفهوم الخطأ الموجب للتأديب أورد المشرع بالفصل 56 من قانون الوظيفة العمومية بعض العناصر التي تيسر إلى حد كبير التوصل إلى تحديد ملامح الخطأ الموجب للتأديب، وقد ورد في الفصل المذكور أنه ” في صورة ارتكاب خطأ جسيم من طرف موظف سواء كان ذلك بإخلاله بالواجبات المهنية أو بإرتكاب جريمة من جرائم الحق العام فإنه يقع إيقافه حالا عن مباشرة وظيفته…” ويمكننا هذا النص من حصر الخطأ الموجب للتأديب في حالتين عما اسماه المشرع بالخطأ الجسيم:
الحالة الأولى: حالة الخطأ الجسيم إخلالا بالواجبات المهنية: وهي تستوجب جميع الحالات التي يخل فيها الموظف العمومي بواجباته المهنية ويستنتج هذا الإخلال من قانون الوظيفة العمومية ومن الواجبات التي يشكل الإخلال بها خطأ يتمثل في وجوب إلتزام الموظف العمومي بكافة النصوص العامة والخاصة.
الحالة الثانية: حالة الخطأ الجسيم إقترافا لجريمة حق عام: وهي أيضا تشمل حالات عديدة يقترف فيها الموظف العمومي الخطأ إلى جانب قانون الوظيفة العمومية الذي مثل نقطة الإنطلاق لتحديد مفهوم الخطأ التأديبي نجد كذلك بعض القوانين الإستثنائية التي ساهمت في بلورة مفهوم الخطأ الموجب للتأديب ومن بين هذه القوانين يمكن ذكر: القانون المتعلق بضبط النظام الأساسي لأعوان الديوانة، حيث نص الفصل 52 منه على أن كل خطا شخصي أو تهاون يعرضه لعقاب تأديبي كذلك نجد قانون دائرة المحاسبات .
الفقرة الثانية : مدي حجية الجزاء التأديبي على الجزاء الجزائي:
انتهي احد الفقهاء إلى أن العقاب التأديبي وإن كان عقابا مستقلا إلا أنه لا يختلط أبدا مع العقاب الجزائي وهذا ما يدفعنا إلى الإقرار أن إختلاف العقابين في الطبيعة يؤدي إلى إستقلالها ويظهر هذا الإستقلال في أن عديدا من التصرفات يمكن أن تكون جرائم و كذلك العكس .
ولمعرفة مدى حجية الجزاء الـتأديبي على الجزائي يتجه التمييز بين إستقلال الدعوى التأديبية على الدعوى الجزائية وبين مدى تقيد الإدارة بالأحكام الجزائية.
فحسب الفصل 53 من القانون عدد 12 لسنة 1986 القانون القديم المنظم للوظيفة العمومية نجد أن تتبع موظف مدان أمام محكمة تجربة يقرر بمجلس التأديب إرجاء إيداء رأيه إلى أن تصدر المحكمة حكمها. إذن ننتهي إلى أنه يمكن للإدارة توقيع الجزاء التأديبي مادام قد قام لديها السبب المبرر لهذا الجزاء إلا أنها ترى من الملائم انتظار في المحاكمة الجزائية قبل النظر في المحاكمة التأديبية، ولكن تلك متروكة لتقديرها .
المبحث الثاني: العقوبات الجزائية
إن عقوبة الإخلال بسرية الوثائق الإدارية تتميز بتظمنها أصلية وتكميلية.
ولدراسة العقوبات الجزائية يتجه التمييز بين العقوبات الأصلية (فقرة أولى) والعقوبات التكميلية (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: العقوبات الأصلية
إكتفى المشرع بعقوبتين أصليتين وهما: السجن (أ) و الخطيّة (ب).
أ) السجن:
إن صبغة تشديد العقوبة تطعن على جميع الجرائم المرتكبة من قبل الموظف العمومي، إلا أنها تظهر بوضوح صلب القسم الثالث تحت عنوان “في الإختلاس من قبل الموظفين العموميين أو أشباههم “فبالرجوع إلى أحكام الفصول 109 و 254 و 99 و100 من المجلة الجزائية ندرك منذ الوهلة الأولى أن المشرع قد نص على عقوبات متعددة أصلية وتبعية.
بالنسبة للفصل 109 من المجلة الجزائية الوارد بالقسم الرابع تحت عنوان “في الإختلاسات التي يرتكبها المؤتمنون العموميون” ينص الفصل المذكور على ما يلي “يعاقب بالسجن مدّة عام الموظف العمومي أو شبهه الذي بدون موجب ينشر ما فيه مضرة للدولة أو لأفراد الناس من كل كتب أؤتمن عليه أو حصل له به العلم بسبب وظيفته أو يطلع عليه غيره”.
هذا الفصل يتعلق بموضوع بحثنا خرق سرية الوثائق الإدارية ونظرا لخطورة الجريمة نص المشرع على عقاب لمدة عام لكل من ينشر ما فيه مضرة للدولة أو للأفراد من كل كتب أؤتمن عليه يعني أن تلك الوثائق هي أمانة عهدت بذمة الموظف العمومي الذي يجب عليه إحترام أخلاقيات الوظيفة العمومية من خلال كتمانها والحرص على عدم تسربها.
وللقارئ أن يلاحظ أن هذا الفصل له نفس الهدف مع فصل آخر ألا وهو الفصل 254 من المجلة الجزائية فكلا الفصلان يلزمان الموظف بالكتمان حيث ينص الفصل 254 المنقح بالأمر المؤرخ في 25 أفريل 1940 على ما يلي “يعاقب بالسجن مدة ستة أشهر الأطباء والجرّاحون وغيرهم من أعوان الصحة والصيادلة والقوابل وغيرهم ممن هم مؤتمنون على الأسرار نظرا لحالتهم أو لوظيفتهم، الدين يفشون هذه الأسرار في غير الصور التي أوجب عليهم القانون فيها القيام بالوشاية أو رخص لهم فيها”.
هذه الفصول فيما يتعلق بخرق سرية الوثائق الإدارية نأتي الآن إلى جرائم الإختلاس التي يرتكبها المؤتمنون العموميون والتي تعرضنا لها في الجزء الأول حيث ينص الفصل 99 من القانون الجنائي على ما يلي “يعاقب بالسجن مدة عشرين عاما كل موظف عمومي أو شبهه… وتصرف بدون وجه من أموال عمومية أو خاصة أو اختلسها أو إختلس حججا قائمة مقامها أو رقاعا أو رسوما أو عقودا أو منقولات كانت بيده بمقتضى وظيفة أو حوّلها بأي كيفية كانت. وتنسحب وجوبا أحكام الفصل 98 على الجرائم المنصوص عليها بهذا الفصل”. وأيضا ينص الفصل 100 كذلك “يعاقب بالسجن مدة 10 أعوام كل موظف يسرق أو يزيل أو يختلس…
إنطلاقا من هاذين الفصلين ندرك أن جريمة الاستيلاء على أموال عمومية عقابها صارم لاشك فيه يتراوح بين 10 و 20 سنة وتزداد هاته الصرامة بالاعتماد على طبيعة الجريمة كجناية تستوجب إجراءات طويلة. فبالرجوع إلى القوانين المقارنة وخاصة القانون الفرنسي ندرك أن جريمة الإستيلاء جناية في بعض الأحوال وجنحة في صورة أخرى.
وإن هذا التوجه التشريعي خير دليل على واقعية المشرع ومدى التصاقه بالواقع فتكييف الجريمة يكون بالأساس حسب الظروف ووقائع القضية .
فهل يحكم على الموظف بعشرين سنة على إختلاس أشياء تافهة؟
لا بدّ من الإشارة وعلى سبيل المثال لا الحصر وصلب القضية عدد 8903 المعروفة بقضية الغابات سلطت الدائرة الجنائية لدى محكمة الإستئناف بتونس صلب حكمها الصادر بتاريخ 17 مارس 1984.
العقاب الأقصى على المتهم الرئيسي في القضية وهي عشرين سنة أشغالا شاقة كما أنه لا يمكننا أن ننسى الصدى السيئ الذي تركته هذه القضية في الرأي العام الوطني.
إذن كل فعل مخالفا للنصوص القانونية يكون عقابه السجن في مرحلة أولى والخطية في مرحلة ثانية وهما من العقوبات الأصلية.
ب) الخطيّة:
إن المشرع سواء في القانون التونسي أو الفرنسي لم يقتصر على العقوبة السالبة للحرية فحسب بل تعداها لينص على عقوبة أصلية أخرى وهي العقوبة المالية. ولو أن بعض الفقهاء إعتبروا أن عقوبة السجن من أفضل أنواع العقوبات ويعود ذلك بالأساس إلى ما يحققه هذا العقاب من زجر وردع وتقويم.
حتى أن بعض الفقهاء ذهبوا إلى إعتبارها من قبيل عقوبة الإستئصال لأنه يترتب عليها إستبعاد الموظف العمومي عن المجتمع بصفة عامة وعن الوظيفة بصفة خاصة.
بدئ ذي بدئ يمكن الإقرار بأن الفصل 109 من المجلة الجزائية المتعلق بنشر الموظف العمومي لما أؤتمن عليه إكتفى بالتنصيص على عقوبة السجن المقدرة بعام ولم يرد عقوبة الخطية إذن هنا نسجل غياب لعقوبة أصلية وهي عقوبة الخطية عكس الفصل 254 من المجلة الجزائية الذي نص على عقوبة الخطية المقدرة بمائة وعشرون دينارا للذين يفضون الأسرار.
أما فيما يتعلق بالفصول الواردة تحت عنوان الإختلاس التي يرتكبها المؤتمن العمومي ينص الفصل 99 من المجلة الجزائية على أن الموظف “يعاقب بخطية تساوي قيمة ما وقع الإستيلاء عليه” ولقد كان النص القديم ينص على أن الخطية تكون مساوية لقيمة الأشياء المتصرف فيها أو المختلسة لكن دون أن يتجاوز مقدارها 3000 فرنك. أما الفصل 100 من المجلة الجزائية فإنه ينص على قيمة موحدة للخطية ألف دينار دون التنصيص على حدّ أدنى وأقصى.
أما في بعض القوانين المقارنة فإن القانون الفرنسي على سبيل المثال وصلب الفصل 172 ينص على حدّ أدنى وحدّ أقصى للخطية المستوجبة.
وكما نعلم فإن تسليط العقوبة المالية على الموظف العمومي تستوجب في مرحلة أولى أن يحكم القاضي بالعقوبة السالبة للحرية.
إن تحديد قيمة العقوبة المالية يثير بعض الصعوبات على مستوى التطبيق فبالرجوع إلى التشريع الليبي نجده أكثر صرامة من المشرع التونسي في عقابه للموظف العمومي الذي يرتكب جريمة إستيلاء على الأموال العمومية. حيث ينص الفصل 230 “على عقاب الموظف بغرامة توازي ضعف قيمة الشيء المختلس”.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى كون المشرع الفرنسي كان سباقا في تغيير مقدار الخطية في بعض الجرائم لأنها تبدو ضئيلة ولا تتماشى مع رغبة المشرع في تحقيق الزجر حيث أصبحت الخطية تقدر بـ 100 ألف دينار فرنك بالنسبة إلى جريمة إفشاء السر المهني.
خلاصة القول إذا ما أردنا القضاء على هذه الظاهرة والحد من استفحالها لابد من تشديد العقوبات ففكر المشرع في إضافة عقوبات تكميلية فما هي العقوبات التكميلية القابلة للتطبيق على الموظف؟
الفقرة الثانية: العقوبات التكميلية:
قسم المشرع العقوبات الواردة في الباب الثاني من الكتاب الأول من القانون الجنائي إلى قسمين عقوبات أصلية وعقوبات تكميلية حيث تتفق العقوبات التكميلية في أنها لا تقوم لوحدها أي لا توقع إلا إذا كانت هناك عقوبة أصلية محكوم بها . ويتكلم القانون في هذا الصدد عن منع الإقامة والمراقبة الإدارية ومصادرة المكاسب في الصور التي نص عليها القانون والحجز الخاص والإقصاء في الصور التي نص عليها القانون والحرمان من مباشرة الحقوق والإمتيازات وقد وردت هذه العقوبات بصفة عامة في الفصل 5 من المجلة الجزائية والعقوبة التكميلية تختلف وتتميز عن العقوبة التبعية المنصوص عليها في بعض القوانين المقارنة مثل القانون المصري في المواد 24 إلى 31. فالعقوبة التبعية هي التي تلحق المحكوم عليه بقوة القانون لمجرد الحكم بالعقوبة الأصلية. أي لا تحتاج في توقيعها إلى النص عليها في الحكم. أما العقوبات التكميلية فلا تلحق المحكوم عليه إلا إذا نص عليها صراحة في الحكم، وهي من هذا الوجه تشبه العقوبة الأصلية.
والعقوبة التكميلية قد تكون وجودية وقد تكون إختيارية أو جوازية.
ما يهمنا في كل هذه العقوبات التكميلية هي عقوبة الحرمان من مباشرة الحقوق والإمتيازات التي تتماشى مع هذا البحث والمقصود بعقوبة الحرمان من مباشرة بعض الحقوق والإمتيازات الحرمان من مزاولة بعض الأعمال أو ممارسة بعض الحقوق بقصد الحيلولة بين المحكوم عليه وبين ممارسة الحق أو المهنة أو الحرفة أو أي عمل متى كان سلوكه الجرمي يمثل خروجا على أصول العمل أو انتهاكا لوجباته أو متى كانت ممارسته ألحق سببا للسلوك الإجرامي أو ظرفا مهنيا له .
والمشرع التونسي حدد بالفصل 5 من المجلة الجنائية الحقوق والإمتيازات التي يمكن للقاضي حرمان المحكوم عليه من مزاولتها أو ممارستها. إلا أن هذا التحديد وإن كان مفيدا أو نافعا في بعض الصور بما أن يسهل عمل القاضي عند التصريح بالعقوبة، إلا أنه لا يخلو من بعض التساؤلات حول جدواه في بعض الصور الأخرى وسوف نتعرض لذلك بشيء من التحقيق عند سردنا للمهن والحرف والوظائف أو الحقوق التي يمكن حرمان المحكوم عليه من مزاولتها أو ممارستها.
1. الوظائف العمومية:
جواز حرمان المحكوم عليه من مباشرة الوظائف فالعمومية جزاء تكميلي نص عليه المشرع دون تعريف للوظيفة العمومية. ولكن بالرجوع إلى الفصل 82 من المجلة الجنائية نجده ينص على أنه “يعتبر موظفا عموميا في نظر هذا القانون كل فرد من أفراد الشعب الذي بأي تسمية وبأي وسيلة كانت تولى ولو مؤقتا خطة أو نيابة القيام بها مرتبط بمصلحة من النظام العام سواء كان ذلك بأجر أو مجانا بحيث يكون بهاته الصفة مشاركا في خدمة الدولة والإدارات العمومية أو الإدارات البلدية وغيرها مما فيه مصلحة عمومية من الإدارات التي للدولة حق المراقبة عليها ويشبه بالموظفين العموميين الأشخاص الذي ينتخبهم الناس أو تنويهم العدلية بصفة عرفاء أو محكمين أو مترجمين”. في خصوص هذا الفصل نبدي الملاحظات التالية:
أولا: المشرع التونسي لم يعرف الوظيفة العمومية وإنما يستنتج ذلك من خلال تعريفه للموظف العمومي وقد عرفت محكمة التعقيب لفظة “إدارة عمومية” في قرارها التعقيبي الجزائي عدد 1658 مؤرخ في 10 أكتوبر 1964 بقولها “لفظة إدارة عمومية تطلق قانونا على جمع من الموظفين الخاضعين لنظام وتراتيب إدارية ومعينين من لدن الحكومة للقيام بإدارة شيء من مصالح الدولة”.
ثانيا: شبه المشرع في الفصل 82 م.ج. بالموظفين العموميين العرفاء والمحكمين والمترجمين الذين تنتدبهم العدلية لإنجاز بعض الأعمال في مساعدة القضاء وبالتالي فإن حرمان المحكوم عليه من مزاولة الوظيف العمومي يعني بالضرورة أيضا حرمانه من أن يكون معرفا أو مترجما أو محكما.
ثالثا: عقوبة الحرمان من الوظائف العمومية كجزاء تكميلي هي في حقيقية الأمر عقوبة تتجه إلى المستقبل ضرورة أننا نعلم وأن قانون الوظيفة العمومية ينص على أن كل شخص وقعت إدانته من أجل جنحة أو جناية لمدة تتراوح بين ثلاثة أشهر سجنا مع النفاذ أو ستة أشهر مع تأجيل التنفيذ لا يجوز له ممارسة الوظيفة العمومية بحكم القانون وبالتالي يكون تسليط هذه العقوبة التكميلية من طرف القاضي بمثابة الجزاء القضائي على جزاء حصلت نتيجته بقوة القانون .
رابعا: عقوبة الحرمان تطرح إشكال يتمثل في التداخل بين السلطة القضائية والسلطة الإدارية، فمن المعلوم أن قرار العزل من الوظيفة العمومية هو قرار إداري يجوز الطعن فيه لدى المحكمة الإدارية، إلا أننا هنا نجد أنفسنا أمام قرار قضائي يقضي بحرمان المحكوم عليه من مباشرة الوظيفة العمومية إذا كان غير موظف بعد وبعزله إن كان عند صدور الحكم بصدد مباشرة الوظيفة العمومية.
خامسا: تهدف هذه العقوبة إلى التنكيل بالمحكوم عليه وبغاية ردعه كتلك المنصوص عليها بالفصل 141 من المجلة الجنائية وذلك في صورة ما إذا تعلقت الجريمة بالإعتداء على التجارة والصناعة، وهي تهدف في بعض الصور الأخرى إلى الوقاية من بعض الأشخاص حماية لهم وللمجتمع كتلك المنصوص عليها بالفصل 86 من نفس المجلة إذا ما تعلقت الجريمة بالإرتشاء الحاصل من طرف موظف عمومي أو تلك المنصوص عليها بالفصل 115 إذا ما تعلق الأمر بجريمة تجاوز السلطة.
الفصل الثاني: محدودية العقوبات في صد جريمة الإخلال بسرية الوثائق الإدارية:
جل هذه العقوبات التي كان لها نظام زجري حاد ساهمت بشكل كبير في تخويف الموظف العمومي وثنيه على القيام بجريمة إفشاء الأسرار الإدارية ولكن القارئ أن يلاحظ أن هذه العقوبات تكون محدودة أحيانا في الصد عن جريمة الإخلال بسرية الوثائق الإدارية خاصة مع بروز قوانين وتشاريع جديدة تسعى إلى منح الموظف حقه في النفاذ إلى الوثائق الإدارية وبذلك نكون أمام منظومة إدارية تتسم بالنزاهة والشفافية (مبحث أول) وتتدعم هذه الشفافية أكثر مع الحماية الوقائية المكرسة للوثائق الإدارية.
المبحث الأول: إيجاد منظومة إدارية تتسم بالنزاهة والشفافية
تندرج سياسة النفاذ إلى الوثائق الإدارية في إطار التأسيس لممارسة كل شخص طبيعي أو معنوي لحق الاطلاع على المعرفة والمعلومة. ويعتبر حق النفاذ إستحقاق ديمقراطيا يهدف إلى تكريس مبدأ الشفافية وتوحيد إجراءات نفاذ العموم إلى الوثائق الإدارية التي بحوزة الهياكل العمومية مهما كان تاريخها أو شكلها أو وعاؤها.
وقع إقرار حق النفاذ إلى المعلومة والوثائق الإدارية من قبل الحكومة التونسية بمقتضى المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المؤرخ في 26 ماي 2011 (فقرة أولى) ومن أجل الملائمة مع أحكام هذا المرسوم وعلى غرار بوابة البيانات المفتوحة لوحدة الإدارة الإلكترونية برئاسة الحكومة، تنشر الوكالة الوطنية للسلامة المعلوماتية المعلومات والوثائق المتاحة لديها مع مراعاة الاستثناءات المنصوص عليها في المرسوم (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: الحق في النفاذ إلى الوثائق الإدارية
في إطار تكريس مبدأ الشفافية الإدارية بتمكين كل مواطن من حق الإطلاع على الوثائق الإدارية تم إقرار حق النفاذ إلى المعلومة والوثائق الإدارية (أ) ويعزز هذا الحق بدعم وتقوية الإعلام (ب).
أ) إقرار حق النفاذ إلى المعلومة والوثائق الإدارية
يمثل المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المؤرخ في 2 ماي 2011 والمتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية مرحلة هامة نحو إرساء إدارة أكثر شفافية ووضع أسس المصالحة بين الإدارة والمتعاملين معها ويعتبر هذا المرسوم أول نص صدر بالجمهورية التونسية يخصص بأكمله لتناول ولو بصفة جزئية موضوع العلاقة بين الإدارة والمتعاملين معها…بعض الأوامر الظرفية التي صدرت في التسعينات من القرن الماضي والتي تناولت في معظمها بعض الأحكام الترتيبية المتعلقة بهذا الموضوع فلم يصد ( أي نص ذي صبغة تشريعية تعرض إلى هذا الموضوع الهام.
وقد جاء هذا النص بثورة حقيقية على الأوضاع السائدة في علاقة الإدارة مع المتعاملين معها التي كانت ترتكز في مادة الوثائق الإدارية على أن السرية هو المبدأ النفاذ والاستثناء السرية.
وتكريس لهذا الحق يعتبر الفصل 3 من المرسوم موضوع العرض من أهم الفصول الواردة به نص على أن “لكل شخص طبيعي ومعنوي الحق في النفاذ إلى الوثائق الإدارية … سواء كان ذلك بإفشائها بمبادرة من الهيكل العمومي أو عند الطلب من الشخص المعني مع مراعاة الاستثناءات المنصوص عليها بهذا المرسوم” فلقد انتهت المحكمة الإدارية إلى الإذن استعجاليا لوزير الداخلية بتمكين العارضين من نسخة من الأرشيف ذي العلاقة برؤساء وأعضاء المكاتب السياسية للأحزاب التونسية المعترف بها والغير معترف بها قبل 14 جانفي 2011، كتمكينهم من الأرشيف ذي العلاقة بالمترشحين لإنتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ونشر جميع هذه الوثائق للعموم وذلك بعد الإطلاع على المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المؤرخ في 26 ماي 2011 والمتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية، مثلما تمّ{ تنقيحه وإتمام بمقتضى المرسوم عدد 54 لسنة 2011 المؤرخ في 11 جوان 2011 . ويكون الإفشاء بالنسبة للوثائق بمبادرة من الهيكل العمومي حيث يقوم بنشر الوثائق مسبقا بمواقع الواب الخاصة بها أو بطلب الإطلاع على الوثائق مهما كان شكلها أو محملها أو تاريخها- مباشرة أو بطرق أخرى والحصول عليها مجانا أو بمقابل بسيط ويتم الحصول على الوثائق المطلوبة يعد تقديم مطلب إطلاع يتضمن معطيات أساسية يتولى المكلف بالإعلام والنفاذ دراسته ومتابعته ويتم الاستجابة لهذه المطالب حسب الفصل 100 من هذا المرسوم في أجل 15 يوما مع وجوبيّة تعليل الرفض الصريح وفي حالة السكوت من طرف الإدارة عن المطلب في الآجال المحددة بالفصول 10 و11 و12 يعتبر ذلك رفضا ضمنيا يفتح الحق في رفع الدعوى القضائية.
وبالإطلاع على هذا القانون يمكن أن نستنتج منه حرص الحكومة الحالية على تصدير قانون الحق في النفاذ للمعلومة كأحد أولوياتها التشريعية لارتباطه بالاستقرار الاقتصادي والمالي مرده خيار الدولة التونسية على المستوى الوطني والدولي في تكريس الشفافية والحوكمة الرشيدة في مختلف مجالات الحكم، هذا الحصر على تمرير هذا القانون كأحد حلقات الحكم الرشيد لا يعني أن تونس تعيش فراغا تشريعيا في هذا المجال .
وتعتبر تونس على المستوى العربي سباقة في هذا المجال على المستوى التشريعي بإصدار مرسوم عدد 41 لسنة 2011 فمن مميزات القانون الجديد المتعلق بالنفاذ للمعلومة والمعروض على المجلس الوطني التأسيسي أنه يحتوي على 10 أبواب موزعة على 66 فصلا، يرى “نجيب مكني” منسق مشاريع في منظمة المادة 19 أنها أكثر دقة من مرسوم 2011 ويحمل في طياته إيجابيات أكثر ستساهم في دعم هذا الحق وستلزم الهياكل والمؤسسات بتوفير المعطيات والمعلومات لطالبيها في إطار ما يضبطه التشريع الجاري به العمل وفي هذا الإطار قررت المحكمة الإدارية إلزام المدير العام للأرشيف الوطني بتمكين الطالب من نسخة مشهود بصحتها من المؤيدات المظروفة بملف القضية عدد 1450 (تجاوز السلطة )الصادر فيها الحكم عن المحكمة الإدارية بتاريخ 18 افريل 1988 موضوع الترحيل عدد 61 لسنة 2010 تحت العدد الرتبي 1412 .
وأضاف “مكني” أن أهم مميزات مشروع القانون الأساسي الجديد أنه سيكون أداة لتفعيل حق النفاذ للمعلومة لإعتبار علويته القانونية كقانون أساس مما سيزيل العراقيل الإدارية في منح المعلومة حيث سيكون القانون الأساسي متناغما مع عدّة نصوص قطاعية إلى حين تنقيحها، مشيرا إلى أن القانون الجديد حدد وعرّف علاقته بالقوانين القطاعية الأخرى إلى جانب تدعيمه لحق النفاذ للمعلومة عبر توسيع تعريف المعلومة بإخراجها من التعريف الكلاسيكي المرتبط بالوثائق الإدارية لكما انفتح أكثر على الهياكل المعنية والقطاعات والمؤسسات والأحزاب ليصبح أشمل كما دقق مسألة الاستثناءات وأخضعها لمقاييس درجات الضرر بإقترابه من المعايير الدولية.
وأوضح “نجيب مكنى” كذلك أن هذا النص القانوني الجديد سيمنح ضمانات أكثر لطالبي المعلومة ولمصادرها وذلك بتدقيق الإجراءات والوسائل والنظم.
والجدير بالملاحظة أن حق النفاذ إلى المعلومة والوثائق الإدارية يتعزز بدور الإعلام ودعمه لهذا الحق.
ب) تقوية الإعلام ودعمه لحق النفاذ:
للإعلام دور كبير في دعم الحق في النفاذ إلى المعلومة، فبالرغم من المرسوم عدد 41 لسنة 2011 الذي يضمن نظريا، حق المواطن في النفاذ إلى الوثائق الإدارية للمنشآت العمومية، وبالرغم من كثرة الحديث عن مقاومة الفساد ومحاسبة الفاسدين وضرورة تأسيس حوكمة رشيدة قامة على الشفافية إلا أننا لم ننعم بعد لا بحق النفاذ إلى المعلومة ولا بمقاومة جادة للفساد بل على العكس، رأينا كيف يحاكم ويتبع عدليا كل من حاول كشف المستور من فساد ومحاباة واستغلال للنفوذ وغيرها من المظاهر التي لا تزال تنخر عوالم السياسة والإدارة والأعمال.
كيف يمكن مواجهة هذا الواقع وتغييره دون فتح الملفات التي أفلتت من أضواء الإعلام والمحاسبة بل زادت في بعض الأحيان من حجم فسادها؟
وهل يمكننا نحن الساعون إلى إرساء وطن لا يترعرع فيه الفساد الإستغناء عن أولئك العارفين بخفايا ملفات الفساد والماسكين بأدلة ووثائق تثبت تورط البعض فيه؟ وكيف يمكننا تسهيل وتأمين عملية تسريب وثائق الفساد ومساعدة الإرادات التي تسعى لفضح ممارسات جاءت الثورة لتقضي عليها؟
ففضح الماضي وكشف العيوب عن طريق الإعلام يعزز ويدعم حق النفاذ لأن حق النفاذ يكون على المعلومة القديمة أو الجديدة.
فالإرادات الطيبة للماسكين بالوثائق والعارفين بخفايا الملفات المتعلقة والعارفين بخفايا الملفات المتعلقة بالفساد لا تكفي وحدها، فالخوف من تتبعات تسريب الملفات إلى الإعلام، والخوف من العقاب أو من انتقام من يسعى إلى إخفاء الحقائق عادة ما تقف أمام تسريب وكشف المستور من قضايا الفساد التي تفاقمت بعد الثورة.
لأجل كل هذا قام فريق نواة إنشاء صفحة خاصة تحمى مسربي الوثائق والملفات السرية. هذه البرمجة تحمى المتسربين حتى من فريق نواة نفسه الذي لن يتعرف بفضل هذه التقنيات على هوية الأشخاص الذين سيقومون بعملية التسريب. ولضمان حماية أكثر للمسربين، سيعمل فريق نواة كعادتة قبل نشر أي وثيقة سرية مسربة على فسخ كل البيانات الوصفية التي تزيد من إمكانية الكشف عن المصدر الإلكتروني للوثائق سواء كانت ملفات صوتية، مقاطع فيديو، صور أو وثائق نصيّة.
كل هذا العمل المتمثل في فضح المستور يساعد المواطن من الحصول على المعلومة التي كان محروما منها في زمن ما قبل الثورة إلى درجة أنه يتساءل عند وصولها إلى مسامعه متى حدثت واليوم بفضل المرسوم الجديد أصبح المواطن مواكبا لكل معلومة جديدة يرغب في الإطلاع عليها لكن مع التذكير بأنه هناك حالات يرفض فيها تسليم الوثائق وإعطاء المعلومة وهو موضوع حديثنا في الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية: حالات رفض تسليم وثيقة إدارية:
انطلاقا من المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المكرس لحق النفاذ للمعلومة نجده تضمن أيضا استثناءات للنفاذ نصت عليها الفصلان 16 و17 و18 من المرسوم.
فبعد جلسات عديدة واستماعات مكثفة إلى جمعيات ومنظمات تهتم بالشأن الإعلامي والحق في النفاذ إلى المعلومة والإتفاق صلب لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب على نسخة نهائية لمشروع قانون الحق في النفاذ إلى المعلومة سحبت رئاسة الحكومة مشروعها قصد تعديله قبل أن تعيد إحالته على مجلس نواب الشعب في صيغته الجديدة وتشرع لجنة الحقوق والحريات في مناقشة النسخة الجديدة المعدلة لمشروع القانون المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة سحبت رئاسة الحكومة مشروعها قصد تعديله قبل أن تعيد إحالته على مجلس نواب الشعب في صيغته الجديدة وتشرع لجنة الحقوق والحريات في مناقشة النسخة الجديدة المعدلة لمشروع القانون المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة .
ويبدو وفقا تصريحات عدد من أعضاء اللجنة لوكالة تونس إفريقيا للأنباء بعد الإطلاع على النسخة المعدلة أن أهم النقاط المطروحة في هذا المشروع والتي كانت محل نقاش مطول وهي قائمة الاستثناءات أو نوعية المعلومات غير المسموح بالنفاذ إليها هي أبرز محاور تحفظ رئاسة الحكومة التي دعتها سابقا إلى سحب المشروع بعد إحالته على المجلس.
وفي هذا الشأن عبرت رئيسة اللجنة بشرى بلحاج حميدة المتمثلة لنداء تونس عن تفهمها لصعوبة التوفيق بين ضمان حق المواطن في الوصول إلى المعلومة ومراقبة الحكومة وضمان الشفافية وبين الحفاظ على المصلحة العليا البلاد لافتة إلى أن الدولة في وضع صعب وإنه قد وقع المساس بهيبتها وقوتها وسلطتها وأشارت إلى أن مشروع القانون المذكور يحاول الوصول إلى معادلة تكون فيها الدولة محافظة على سلطتها وصورتها كدولة قوية وفي نفس الوقت كدولة تحترم القانون وتقوم ركائزها على المبادئ الدستورية وذكرت أن الحكومة قد أدخلت تعديلات على عدد من الفصول لكنها ركزت بالخصوص على موضوع الاستثناءات ونقحته في اتجاه توسيع قائمة نوعية المعلومات الممنوعة من النشر والإستغلال، وتجدر الإشارة إلى أن الفصل 28 من مشروع القانون المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة تعرض إلى هذه الاستثناءات وجاب به على أنه للهيكل المعني أن يرفض طلب النفاذ إلى المعلومة التي يمكن أن ينجر عن النفاذ إليها ضرر بالمجالات التالية الأمن والدفاع الوطني والعلاقات الدولية والمصالح الإقتصادية للدولة والمعلومات المصنفة ذات طابع سري بما لا يتعارض وأحكام هذا القانون وسير الإجراءات أمام المحاكم والبحث في الجرائم والوقاية منها والمهمات المتعلقة بممارسة الإشراف والرقابة طبقا للمعايير المهنية الدولية المعتمدة في المجال وحماية الحياة الخاصة والمصالح التجارية المشروعة للهياكل الخاضعة لأحكام هذا القانون بما في ذلك حقوق الملكية الفكرية والصناعية والمداولة وتبادل الآراء ووجهات النظر والاستشارات والتجارب والدراسات المنجزة لفائدة الهياكل الخاضعة لأحكام هذا القانون هكذا إذن كرس الحق في النفاذ إلى المعلومة مع احترام جملة من الاستثناءات لضمان استمرارية هيبة الدولة، وللقارئ أن يلاحظ أن المنظومة الإدارية التي وقع تكريسها والمتسمة بالشفافية والتزامه أقرت حق النفاذ إلى المعلومة وتسعى إلى ضمان الحماية الوقائية للوثائق الإدارية (مبحث ثاني).
المبحث الثاني: الحماية الوقائية للوثائق الإدارية:
يعتبر المرسوم عدد 41لسنة 2011 من أهم التشريعات التي صدرت بعد الثورة في مادة الحقوق و الحريات العامة إلى جانب بعض النصوص الأخرى مثل المرسوم عدد 87 المتعلق بتنظيم الجمعيات والمرسوم عدد 88 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية الصادرين في 24 سبتمبر 2011 وهو نص يهدف بالأساس إلى تكريس مبدأ الشفافية الإدارية وتأسيس لعلاقة جديدة بين الدولة ومواطنيها تقوم على ما يعبّر عنه بمبدأ “الحوكمة المفتوحة” – OPEN GOUVREMENT- لتلتحق بلادنا في هذا المجال بركب الدول الديمقراطية التي كرست هذا الحق ضمن تشريعاتها الوطنية بل هناك حتى من الدول من اضفى على هذا الحق صبغة دستورية على غرار فنلندا وبلجيكيا وجمهور التشيك وبولونيا وعلاوة على رغبة المشرع من خلال مرسوم عدد 41 في تكريس مبدأ الشفافية الإدارية فإنه يسعى أيضا إلى تدعيم الحماية القضائية لحق النفاذ إلى الوثائق الإدارية (فقرة أولى) ومراقبته بين النص والتطبيق (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: الحماية القضائية لحق النفاذ إلى الوثائق الإدارية
يتبين بالإطلاع على أحكام المرسوم عدد 41 لسنة 2011 أنه لئن أحاط الحق في النفاذ إلى الوثائق الإدارية بآليات وضمانات قضائية قصد حماية هذا الحق وتكريس ممارسته الفعلية وذلك من خلال إقراره للحق في رفع الدعاوي الإدارية ثم القضائية أمام المحكمة الإدارية في صورة عدم الاستجابة إلى مطالب النفاذ إلى الوثائق الإدارية، إلا أنه قد أحدث نظاما إجرائيا خاصا فيما يتعلق بطريقة تولد قرارات رفض تسليم الوثائق وآجال التقاضي بشأنها (أ) والتباس على مستوى الاختصاص الاستعجالي للمحكمة الإدارية (ب).
أ) إجراءات خاصة بخصوص قرارات الرفض وآجال التقاضي بشأنها
لقد وضع المرسوم عدد 41 لسنة 2011 نظاما إجرائيا خاصا بخصوص طريقة تولد قرارات الرفض الضمني لتسليم الوثائق الإدارية والتي تفتح الحق في رفع الدعاوى أمام المحكمة الإدارية وذلك بأن ميّز بين ثلاثة آجال ضبطها النص: الأجل الأول هو الأجل العادي والمتمثل في 15 يوما من تاريخ تقديم المطلب (الفصل 10) والأجل الثاني هو أجل الشهر إذا تعلق الأمر بالحصول على عدة وثائق أو إذا كان توفيرها يستدعي إستشارة أطراف أخرى (الفصل 12) والأجل الثالث هو أجل يومين إذا كان لمطلب النفاذ إلى الوثائق تأثير على حياة الشخص أو حريته (الفصل 11) وأعتبر النص أن عدم رد الهيكل العمومي على المطالب في الآجال المذكورة يعتبر رفضا ضمنيا يفتح الحق في رفع الدعاوي .
كما اقتضى صلب الفصل 19 من المرسوم أنه في صورة رفض المطلب يمكن لطالب الوثيقة أن “يطعن” في ذلك خلال أجل لا يتجاوز 15 يوما التي تلي قرار الرفض لدى رئيس الهيكل الذي يكون مطالب بالرد خلال 10 أيام الموالية لتاريخ طلب المراجعة.
ويمكن للطالب الذي لم يرضه قرار رئيس الهيكل العمومي الطعن فيه أمام المحكمة الإدارية في أجل لا يتجاوز 30 يوما.
ويستفاد مما سبق أننا أمام ثلاثة آجال مختلفة لتولد قرار الرفض الضمني بتسليم الوثائق الإدارية المطلوبة: أجل أول يتولد بعد مرور 15 يوما من تقديم المطلب، أجل ثاني يتولد بعد شهر من تقديم المطلب واجل ثالث يتولد بعد مرور يومين فقط من تقديم المطلب.
وأمام هذا التعارض بين الآجال والإجراءات المنصوص عليها بالمرسوم عدد 41 لسنة 2011 وبين الإجراءات العادية المعمول بها أمام المحكمة في خصوص تولد قرارات الرفض الضمني لتسيلم الوثائق الإدارية وآجال الطعن بشأنها المنصوص عليها بالفصل 37 من قانون المحكمة، اتجه بعض القضاة نحو استبعاد تطبيق مقتضيات المرسوم على أساس أن هذا النص لا يمكن أن يغير النظام الإجرائي المنطبق أمام المحكمة في خصوص طريقة تولد قرارات الرفض وآجال التقاضي بشأنها خاصة أن هذه الأحكام وردت بمرسوم والمرسوم أدنى قيمة قانونية من القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الإدارية وبالتالي لا يمكنه أن يغير في الأحكام الإجرائية المنطبقة أمام المحكمة الإدارية.
ب) غموض على مستوى النظر الإستعجالي للمحكمة:
إن الصياغة الحالية للفصل 19 من المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية أحدثت التباس على مستوى تحديد القاضي المختص بالنظر في النزاعات المتولدة عن رفض تسليم الوثائق الإدارية وذلك عندما اقتضت في الفقرة الأخيرة من الفصل المذكور أن المحكمة الإدارية تنظر استعجاليا في دعوى الطالب المنصوص عليها بالفصل 11 من المرسوم 6. فهل يعني ذلك أن اختصاص المحكمة الإدارية في المادة الاستعجالية فيما يتعلق بتسليم الوثائق الإدارية أضحى مقتصر على الدعاوي المشار إليها الفصل 11 والمتعلقة بالنفاذ إلى الوثائق التي لها تأثير على حياة الأشخاص أو على حرياتهم دون غيرها من الدعاوى التي ترجع بالنظر إلى قاضي الأصل؟
أم أن المقصود بعبارة “إستعجاليا” هو استعجال النظر في هذه القضايا لا غير؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقتضي في تقديري “عماد الحزقي”، وضع هذه النزاعات في إطارها الطبيعي، ذلك أن موضوع النزاعات التي تنشأ بين الهياكل العمومية والمتعاملين معها طبقا لأحكام المرسوم عدد 41 لسنة 2011 ينحصر بالأساس حول رفض الهيكل العمومي تمكين الطالب من وثيقة إدارية، والتصدي لهذه المسألة من قبل القاضي الإداري يفرغ تماما النزاع من محتواه، أي أن الاستجابة لطلب القائم بالدعوى في هذا الخصوص والإذن الذي يصدره القاضي الإداري لجهة إدارية معينة بتسليم الوثيقة موضوع النزاع، له نفس آثار الإلغاء في الأصل، وبالتالي، وطالما أن الحكم القاضي بتسليم الوثيقة الإدارية يتجاوز مرحلة التدابير الوقتية ليبت في أصل الحق وينهي النزاع بشأنه، فإن هذا الإختصاص لا يمكن أن ينعقد إلا لفائدة قاضي الأصل.
تأسيسا على جميع ما تقدم، فإن الإختصاص في مادة النزاعات المتعلقة بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية طبقا للصياغة الحالية المرسوم عدد 40 لسنة 2011 لا يمكن أن ينعقد إلا لفائدة قاضي الأصل دون سواه، علما وأنه نفس المنحى الذي ذهب إليه القضاء المقارن في خصوص إسناد إختصاص النظر في النزاعات المتعلقة بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية إلى قضاة الأصل.
الفقرة الثانية: المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية بين النص والتطبيق
يهدف المرسوم عدد 41 لسنة 2011 إلى تكريس مبدأ الشفافية الإدارية والى تحسين علاقة المواطن بالإدارة غير أن الإطلاع على أحكام هذا المرسوم في صياغته الحالية يبيّن أنه يثير بعض الإشكاليات سواء بخصوص مجال تطبيقه (أ) أو بخصوص الضمانات والإجراءات التي أرساها لممارسة هذا الحق (ب).
أ) الإشكاليات التي يثيرها المرسوم عدد 41 بخصوص مجال تطبيقه
إن هذه الإشكاليات متولدة بالأساس عن عدم دقة المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها هذا النص والمتمثلة أساسا في مفهوم الهياكل العمومية من جهة (1) ومفهوم الوثيقة الإدارية من جهة أخرى (2).
1. القصور في تحديد مفهوم الهياكل العمومية
يتبين بالرجوع إلى الفص 2 من المرسوم أنه عرّف مفهوم الهياكل العمومية كما يلي: “يقصد في مفهوم هذا المرسوم بالهياكل العمومية مصالح الإدارة المركزية والجهوية للدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العمومية”.
ويستفاد من هذا التعريف أو واضعي النص اعتمدوا معيارا عضويا صرفا لتعريف الهياكل العمومية وهو في تقديري تعريف ناقص وقاصر على تحقيق الغاية التي من أجلها صدور هذا النص وذلك بالنظر إلى حجم وأهمية الوثائق الإدارية التي يمكن أن تنشأ عن هياكل غير إدارية بالمعنى الهيكلي للمفهوم واقصد بذلك بالخصوص الهياكل وثائق ذات صيغة سياسية أو دبلوماسية. فهذه الوثائق لا يمكن تصنيفها ضمن زمرة الوثائق الإدارية التي تخضع لمبدأ النفاذ.
تأسيسا على جميع ما سبق فإن التعريف الوارد بالفصل 2 من المرسوم عدد 41 لمفهوم الوثيقة الإدارية يبدو تعريفا واسعا وغير دقيق ويستوجب في تقديرنا مراجعته من جهة بحصره في إطاره الطبيعي المتمثل في ارتباطه بالنشاط الإداري للهياكل العمومية ومن جهة أخرى بمزيد تدقيقه.
ب) الإشكاليات التي يثيرها تطبيق المرسوم عدد 41 لسنة 2011 بخصوص إجراءات التقاضي:
يتبين بالإطلاع على أحكام المرسوم عدد 41 لسنة 2011 أنه أحاط الحق في النفاذ إلى الوثائق الإدارية بآليات وضمانات قصد ممارسة هذا الحق وذلك من خلال إقراره الحق في رفع الدعاوى الإدارية ثم القضائية أمام المحكمة الإدارية في صورة عدم الاستجابة إلى مطلب النفاذ. وهذا المرسوم أحدث نظاما إجرائيا الأول خاص بتولد قرارات الرفض وآجال التقاضي بشأنها والثاني يتعلق بالغموض على مستوى النظر الاستعجالي للحكمة.
1. إجراءات خاصة لتولد قرارات الرفض وآجال التقاضي بشأنها:
لقد وضع المرسوم عدد 41 لسنة 2011 نظاما إجرائيا خاصا بخصوص طريقة تولد قرار الرفض الضمني حيث ميّز في هذا الإطار بين ثلاثة آجال ضبطها النص: الأجل الأول هو الأجل العادي والمتمثل في 15 يوما من تاريخ تقديم المطلب والفصل 10 والثاني هو أجل شهر إذا تعلق الأمر بالحصول على عدة وثائق أو إذا كان توفيرها يستدعي إستشارة أطراف أخرى (الفصل 12) والثالث هو أجل يومين إذا كان لمطلب النفاذ إلى الوثائق تأثير على حياة الشخص أو حريته وأعتبر أن عدم رد الهيكل العمومي على المطالب في الآجال المذكورة يفتح الحق في رفع الدعاوى كما اقتضى الفصل 9 من المرسوم أنه في صورة رفض المطلب يمكن لطالب الوثيقة أن يطعن في ذلك خلال أجل لا يتجاوز 15 يوما التي تلي قرار الرفض لدى رئيس الهيكل الذي يكون مطالبا بالرد خلال 10 أيام الموالية لتاريخ طلب المراجعة إن مثل هذه الإجراءات الخاصة لتولد قرار الرفض لدى رئيس الهيكل الذي يكون مطالبا بالرد خلال 10 أيام الموالية لتاريخ طلب المراجعة إن مثل هذه الإجراءات الخاصة لتولد قرارات الرفض وآجال التقاضي بشأنها قد طرح بعض الإشكاليات على مستوى التطبيق لتعارضها مع الأحكام العادية المنطبقة أمام المحكمة الإدارية بإعتبار أن قرارات الرفض الضمني التي تخول للمتقاضي اللجوء إلى المحكمة الإدارية تتولد حسب قانون المحكمة الإدارية بعد مضي شهرين على تقديم مطلب إثارة الجهة الإدارية وهي تمنح للمتقاضي أجلا بشهرين مواليين للطعن فيه .
2. الغموض على مستوى النظر الاستعجالي:
تقر المحكمة لنفسها باختصاص النظر إستعجاليا في الطلبات الرامية إلى تمكين المتقاضين من الوثائق الإدارية المتعلقة بهم مؤسسة اختصاصها في هذا الإطار على أحكام الفصل 81 من قانون المحكمة الإدارية الذي ينص على أنه في جميع الحالات التأكد يمكن لرئيس الدائرة الابتدائية أو الاستئنافية أن يأذن استعجاليا باتخاذ الوسائل الوقتية المجدية بدون مساس بالأصل وبشرط ألا يفضي ذلك إلى تعطيل تنفيذ أي قرار إداري.
غير أن الصياغة الحالية للفصل 19 من المرسوم عدد 41 أحدثت ارتباكا بهذا الشأن وذلك عندما نصت على أن المحكمة الإدارية تنظر استعجاليا في دعوى الطالب المنصوص عليها بالفصل 11 من المرسوم. وفي تقديري “عماد الحز قي” الصياغة الحالية للفصل 19 من المرسوم غير دقيقة بالمرة ولا يمكن أن تفيد حصر الاختصاص الإستعجالي للقاضي الإداري بخصوص النفاذ إلى الوثائق الإدارية في دعاوى الفصل 11 من المرسوم دون غيرها. ذلك أنه من ضمن الشروط الواجب توفرها في المادة الاستعجالية بالنسبة للقاضي الإداري إلى جانب توفر عنصري التأكد وعدم الخوض في الأصل في حين أن الدعاوى المقصودة بالفصل 19 هي دعاوى مؤسسة على عدم رد الهيكل الإداري المعنى على طلب وثائق لها تأثير على حياة شخص أو حريته وهي بالتالي مطالب نظرت فيها الإدارة واتخذت قرارا بشأن عدم تسليمها مما يحول مبدئيا دون اختصاص المحكمة بالنظر في الدعاوى المرتبطة بها استعجاليا باعتبار أن الاستجابة إلى تلك الأذون سيؤدي إلى تعطيل تنفيذ القرارات الضمنية الصادرة بالرفض.
خلاصة الجزء الثاني:
تم إيجاد منظومة إدارية تتسم بالنزاهة والشفافية من خلال المرسوم عدد 41 لسنة 2011 الذي أرسى حق المواطن في النفاذ إلى الوثائق الإدارية للمنشآت العمومية حيث أصبح المبدأ هو النفاذ والإستثناء هو السرية بمعني أن المواطن بعد الثورة أصبح يتمتع بحق النفاذ إلى الوثائق إلى درجة أنه يسأل عن تلك المعلومة متى وقعت ولماذا لم يسمع بها لأنه كان يعيش في حرمان من النفاذ إليها وهذا الحق تدعم من خلال الإعلام فكشف العيوب عن طريق الإعلام يدعم حق النفاذ الذي يكون على المعلومة القديمة او الجديدة وتجدر الإشارة بخصوص هذا المبدأ أنه هناك حالات يرفض فيها تسليم وثيقة إدارية وهي المجالات التالية: الأمن والدفاع الوطني والعلاقات الدولية والمصالح الإقتصادية للدولة.
وبالتالي يلاحظ أن المنظومة الإدارية التي وقع تكريسها والمتسمة بالشفافية أقرت حق النفاذ وتسعى إلى ضمان الحماية الوقائية للوثائق الإدارية حيث أحيط الحق في النفاذ بآليات وضمانات قضائية قصد حماية هذا الحق وتكريس ممارسته الفعلية لكن هذا المرسوم يثير إشكاليات بخصوص مجال تطبيقه وبخصوص إجراءات التقاضي، فقد إحتوى عدّة نقائص تتمثل في القصور في تحديد مفهوم الهياكل العمومية والغموض على مستوى النظر الإستعجالي.
الخاتمة
خلاصة القول إن موضوع الحماية الجزائية لسرية الوثائق الإدارية هو موضوع العصر الراهن ونظرا لأهميته أقر المشرع حماية لهذه الوثائق من كل اعتداء يمارس عليها من طرف الموظف العمومي الذي قد تخول له السلطة إفشاء الأسرار الإدارية مقابل الحصول على رشوة تفاقمت خاصة بعد الثورة.
لذلك أقر المشرع جملة من العقوبات التأديبية والجزائية يردع الموظف وثنيه عن اقتراف هذه الجريمة ولكن للقارئ أن هذه العقوبات تكون محدودة خاصة مع صدور قانون جديد وهو مرسوم عدد 41 لسنة 2011 والمتعلق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية وإلى المعلومة بصفة عامة، والملاحظ هنا أنه قد تم إقرار حق النفاذ وكأنه المبدأ وتعزز هذا الحق مع دور الإعلام المتمثل في كشف المستور وفضح القضايا الخطيرة، فلا يمكن الحديث عن نفاذ للمعلومة دون أن يكون من يرغب في الحصول عليها غير عالما بالمعلومة القديمة أي ما حصل في الماضي خاصة في سنوات مات قبل الثورة، لكن مبدأ النفاذ تحده عدة استثناءات حيث فرضت فصول هذا المرسوم عدم النفاذ إلى بعض المسائل المتصلة بالنظام العام والتي لها طابع سري وذلك لضمان هيبة الدولة واستمرارها.
لكن هذا المرسوم طرح عدة إشكاليات أو ما يسمى بالنقائص بخصوص مجال تطبيقه وبخصوص إجراءات التقاضي.
شاركها
اترك تعليقاً