مفهوم العلم و الفن في القانون
فارس حامد عبد الكريم
يذهب اتجاه فقهي قانوني تزعمُه الفقيه جيني (1) ، إلى ان كل قاعدة من قواعد القانون تنطوي من حيث مضمون وشكل صياغتها فكريا على عنصرين ينبغي التمييز بينهما ، احدهما عنصر العلم وهو عنصر موضوعي يقوم على جملة معطيات تتسم بطابع سياسي واجتماعي ، والآخر عنصر خارجي ذو طابع فني يتعلق بصياغة او بناء القاعدة القانونية وهو ما اسماه جيني بعنصر الصياغة (2) ، ويرجع أساس كلا العنصرين الى السياسة القانونية المتبناة في مجتمع ما ، فالعنصر الموضوعي يتعلق بشؤون وحاجات وأماني وتطلعات ذلك المجتمع ، ويستهدف العدالة كمثل أعلى لتنظيم ذلك على أفضل الوجوه وأكثرها ملائمة .
ويقوم العنصر الموضوعي على جملة معطيات تُعبر في مضمونها عن الحقائق الاجتماعية والسياسية والتاريخية والمُثل والقيم العليا الى تسود في مجتمع واحد معين ، ومن هذه المُعطيات يستمد المشرع مادته الأولية او الجوهر الذي يصوغ منه قانونه ، وهذا يعني ان العنصر الموضوعي يتصل بالملائمة وحسن التدبير .
أما الصياغة فتمثل الجانب الفني للسياسة القانونية التي تُعنى بوضع أنسب أدوات التقنية التشريعية لاحتواء المعطيات والحاجات والأهداف الاجتماعية ، فقد يكون من المناسب ان يضمن العنصر الموضوعي في إطار قاعدة قانونية جامدة او مرنة او معيار قانوني او مبدأ قانوني او أن يحيل المشرع الحكم الى قواعد العدالة او القانون الطبيعي، حسب ما يمليه مبدأ العدالة او مبدأ أمن واستقرار المعاملات داخل المجتمع فضلا عن ما تمليه نظرة المشرع لمستقبل الحياة الاجتماعية وما يطرأ عليها من تغيرات محتومة بعد سن التشريع ونفاذه .
ومعطيات الحياة او حقائقها عند جيني ، أربعة أنواع :
المعطيات الطبيعية الواقعية : وهي تلك الحقائق التي تتكون من ظروف الواقع المحيطة بالجماعة ، وتشمل جميع الأحوال الطبيعية التي تحيط بالإنسان وتلحق به كالتكوين الفسيولوجي ، والوسط الجغرافي والأحوال الادبية والخلقية والدينية والاقتصادية والسياسية في المجتمع ، وهذه الحقائق لا تخلق القواعد القانونية بذاتها ولكنها تحدد نطاقها ابتداءاً ، فتنظيم الزواج يُبنى على حقائق طبيعية كاختلاف التكوين الفسيولوجي والنفسي للرجل عن المرأة ، فضلا عن نظرة المجتمع وموقف الدين ، يقود الى التسليم باختلاف المركز القانوني بين الزوج والزوجة في هذا الارتباط .
المعطيات التاريخية : وتشمل ما تَكون من قواعد لتنظيم الحياة والسلوك في المجتمع ثبتت عبر الزمن مما اكسبها صلابة وقوة واحتراماً جعلت منها تراثا مكتسباً لا يُمكن إغفاله او التحلل منه كلياً في تكوين القانون، وهذه المعطيات هي أساس كل إصلاح وبناء قانوني جديد، فهي نتيجة الخبرة المكتسبة عبر الزمن مما يجعل لها حُجية مسلم بها ،ليست بالمطلقة ولا بالدائمة،لكنها حُجية نسبية لا تصد عن التطور وان تكن تـَعصم من الاندفاع او التهور .
والمعطيات التاريخية ، هي حقائق علمية في حقيقتها ومعناها ، فالتاريخ ليس سوى التجربة التي مرت بها الإنسانية عبر الزمن ، وبذلك تكون قادرة على منح القانون اساساً راسخاً وقوة وهَيبة .
فعبر التاريخ اكتسب حق الملكية احتراماً خاصاً ، لم تستطع ان تنزع احترامه من النفوس حتى أقوى النظم الاشتراكية ، وهكذا نصت اغلب دساتير دول العالم على ان ( حق الملكية مقدس ) و ( لا يجوز نزع الملكية الخاصة إلا وفقاً للقانون وبموجب تعويض عادل ) (3)، وهكذا الأمر بالنسبة لنظام الزواج الذي يخضع دائما لرقابة دينية او مدنية تسبغ عليه الصفة الشرعية ، ويُنص غالبا على انه رابطة مقدسة، فمثل هذه النصوص تجد سندها في التطور التاريخي الذي خرجت منه.
وعلى سبيل المثال كان الزواج في المجتمعات البدائية يتم عن طريق خطف النساء من الجماعات الأخرى ، وقد أدى هذا الى استقرار فكرة الزواج من الأجنبيات او على الأقل من النساء اللواتي لا يتصلن بالرجال بقرابة من درجة معينة ، وهذا هو أصل فكرة المحارم (4)، ولا تزال بعض مظاهر نظام اختطاف النساء قائمة ليومنا هذا في العديد من المجتمعات الشرقية والغربية ، حيث يقوم الزوج بدور المختطف للزوجة ليلة الزفاف، لا شعورياً ، فيحملها بين ذراعيه ويذهب بها بعيداً عن المشاركين في حفلة الزفاف.
المعطيـات العقلـية: وتشمل القواعد التي يستخلصها العقل من المعطيات السابقة بعد صقلها وتهذيبها وتحويرها، حيث يعمل القانون على ملائمة معطيات الواقع والطبيعة والتاريخ وموافقتها على ما يفرض من غاية للقانون.
وتسهم المعطيات العقلية في النصيب الأكبر في تكوين جوهر القواعد القانونية ، وما دام ان هذه المعطيات مبنية على العقل فانها تمثل الجوهر الأساسي للقانون الطبيعي ، اي قواعد السلوك التي يستخلصها العقل من طبيعة الانسان وحركة المجتمع ، إلا ان المعطيات العقلية تُظهر فقط ما تبديه طبيعة الانسان حتما ولا تتجاوزها الى النزعات المثالية ، فالعقل يوحي بضرورة ان يكون الزواج ثابتا ومستقراً حتى تنشأ أسرة متماسكة ، إلا ان عدم تعدد الزوجات لا يعتبر من المعطيات العقلية بل من المعطيات المثالية ، لأنه لو سايرنا منطق العقل ، فأن غاية الزواج النهائية هي النسل ، وتعدد الزوجات يحقق هذه الغاية بطريقة أوسع .
وللمعطيات العقلية صفة علمية بالمعنى الواسع المعبر عن كل نشاط او جهد عقلي تفكيري يَنفذ الى جوهر الأشياء بوسائله المُسَلم بها الخاصة بالمعرفة دون الوسائل المتنازع في قيمتها ، فيتمكن من فرض قواعده فرضا جازماً ، وان أمكن تصور إنكارها والنزاع بشأنها ، من الناحية الواقعية .
المعطيات المثالية : وهذه المعطيات تعبر عن اتجاهات ونزعات مثالية تنحو بالنظام القانوني نحو السمو والتقدم المستمر نحو الكمال ولا يقف معها القانون جامدا عن التطور والتقدم ، حتى لو كانت المعطيات الأخرى لا تؤيد هذا التطور ، إذا كان هذا التطور هو ما تقتضيه مصلحة الجماعة .
ومن ذلك ان العقل يقضي ويسايره القانون في ذلك ، انه لا مسؤولية بدون خطأ يثبته المضرور حتى يتمكن من المطالبة بالتعويض عن الضرر ، إلا ان ضرورات الحياة المعاصرة والنتائج الظالمة المترتبة على هذه القاعدة خاصة في مجال العمل ، حدت بالنزعة المثالية الى التدخل وضمنت للعمال الحصول على تعويض عن الإصابات على أساس مبدأ جديد هو ، المسؤولية بدون خطأ ، عرف بمبدأ تحمل التبعة ، ومفاده ان من ترتب على نشاطه ضررا للغير يلزم بالتعويض ، وهكذا اُستبعد ركن تاريخي جوهري من اركان المسؤولية هو الخطأ ، خلافاً لمنطق العقل .
والمعطيات المثالية تتأتى من قوى غير واضحة هي الإيمان والعاطفة والرحمة ، وهي تحدد بطريقة غامضة ولكن مؤكدة ، ما يوجد لدى الأفراد والجماعات من معتقدات وقيم مشتركة مما يجعل لها صفة موضوعية كافية لتكملة نقص الحقائق العقلية والحد من شدتها وجفافها وطغيانها . وان كان من العسير اعطاءها بوجه عام صفة علمية بحتة.
ويقرر جيني ان أهم المعطيات هي المعطيات العقلية، فجوهر القانون إنما هو عمل عقلي لأنه يصقل المعطيات الأخرى، وهو الذي يحافظ على فكرة العدل التي تُعين على إقامة النظام والأمن في الحياة الاجتماعية، ولهذا يستلزم جيني وجود حد أدنى لفكرة القانون الطبيعي في تكوين جوهر القاعدة القانونية، أي وجود قواعد يستخلصها العقل من طبيعة الأشياء، قواعد سامية يخضع لها الأفراد.
يتضح مما تقدم ، ان المعطيات العقلية هي الأهم من بين جميع المعطيات الداخلة في تكوين جوهر القانون ، ولكن مسايرة منطق العقل ، لا تعني دائما انه يعطي أفضل الحلول .
وعلى النحو المتقدم فان القانون علم وفن ، فهو علم لأنه يقوم على عدد من النظريات العلمية التي شيدت على أساس معطيات واقعية وعقلية وطبيعية ومثالية وتاريخية تعطي للقاعدة القانونية مداها ومعناها وتفسيرها بهدف كشف المراد منها ومن ثم تطبيقها تطبيقاً سليماً على الوقائع المتطابقة مع فرض تلك القاعدة ، فالقاعدة القانونية لا تُضمن في الغالب تعريفات او شروط للتطبيق ، فهي قاعدة عامة مجردة لا تغوص في التفاصيل عادة ، مما يعني وجوب الرجوع الى النظرية ذات العلاقة لبيان الأحكام التفصيلية وفك الغموض الذي قد يكتنف تلك القاعدة . ولا غنى للقاضي او رجل الإدارة في حدود عمله عن الرجوع الى تلك النظريات لتطبيق النصوص القانونية تطبيقاً سليماً لتفادي الوقوع في الخطأ في تطبيق القانون او فهمه او تأويله .
ومن تلك النظريات نظرية الشخص المعنوي ونظرية الأوضاع الظاهرة ونظرية الظروف الطارئة ونظرية العقد ونظرية البطلان ونظرية السبب ونظرية الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة ونظرية التكييف ونظرية الغلو وغير ذلك من كبرى نظريات القانون المستقرة غير القابلة للحصر التي تبنى على أساس من معطيات الطبيعة والعقل والتاريخ والمنطق .
والقانون فن لان صياغة القاعدة من حيث الشكل والمضمون ما هي إلا تعبير عن الجانب الفني للسياسة القانونية التي تُعنى بوضع أنسب أدوات التقنية التشريعية لاحتواء المعطيات والحاجات والأهداف الاجتماعية ، فقد يكون من المناسب ان يضمن العنصر الموضوعي في إطار قاعدة قانونية جامدة او مرنة او معيار قانوني او مبدأ قانوني او أن يحيل المشرع الحكم الى قواعد العدالة او القانون الطبيعي، حسب ما يمليه مبدأ أمن واستقرار المعاملات داخل المجتمع او مبدأ العدالة فضلا عن ما تمليه نظرة المشرع لمستقبل الحياة الاجتماعية وما يطرأ عليها من تغيرات محتومة بعد سن التشريع ونفاذه .
اترك تعليقاً