محاضرات في مقياس حقوق الإنسان
أستاذ المقياس الدكتور بدر الدين شبل
مقدمة:
تعتبر حقوق الإنسان موضوعاً ذا أولوية على الصعيد الوطني، كونه مرتبط بالإنسان والعدالة، ومقاومة كل أشكال الاعتداء والاستغلال و اللامساواة، لأجل ذلك كانت الجهود منصبة لأجل وضع الضوابط الكفيلة لضمان العدالة وحماية الإنسان من كل تلك المظاهر .
وتعد موضوعاً مهماً أيضاً على الصعيد الدولي، بعد انتقال الاهتمام بها كموضوع من النطاق المحلي إلى العالمي، فصكت بصددها الصكوك، وعقدت المؤتمرات وأبرمت الاتفاقيات، كل ذلك لأجل صيانتها وحمايتها.
كما أن الموضوع شغل الكتّاب والباحثين ورجال القانون خصوصاً، ولا يزالون به منشغلين، ونجد آراؤهم حوله متشعبة ومختلفة، وهي السمة التي لازمت الموضوع منذ بدايات الاهتمام به في القدم، وعلى مر العصور .
وهذا الاختلاف مرجعه المنطلقات الفكرية والنظرية والتي تبلورت في اتجاهات ومذاهب ومدارس عدة، وهو ما يواجه الدارس للموضوع، الذي يتطلب منه الموقف التعرض لتلك الآراء والاتجاهات المختلفة، للتمكن من أخذ فكرة ولو شاملة عن الموضوع، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بجزء من الموضوع ككل كحالتنا هذه المتعلقة بالحقوق والحريات السياسية، التي تعتبر فئة من فئات حقوق الإنسان عموما ً.
كما أنه لابد من التعرض إلى معاني الحق والحرية، والاختلافات الواردة بصددهما، للتمكن من إدراك وفهم معنى حقوق الإنسان، التي وردت وترد بصددها اختلافات، و كذلك استعراض مختلف تصنيفاتها، والاختلاف الدائر حولها أيضاً، وكذلك محاولة فهم كل التطورات التي عرفتها حقوق الإنسان على مر العصور، وصولاً إلى ما هي عليه الآن، وفي سياق ذلك نحاول استعراض المصادر وآليات الحماية المتاحة على الصعيدين الوطني والدولي، ومن ثمّ يمكن تقسيم هذه المحاضرات إلى:
أولا: مفهوم الحق والحرية والتمييز بينهما
ثانيا: مفهوم حقوق الإنسان
ثالثا: تطور حقوق الإنسان
رابعا: مصادر حقوق الإنسان
خامسا: آليات الحماية الدولية لحقوق الإنسان
أولاً-مفهوم الحق والحرية والتمييز بينهما:
للوقوف عند معنى كل منهما، فإن الأمر يتطلب معرفة المعنى اللغوي لكل من الحق والحرية، ثم معرفة المعنى الاصطلاحي لكليهما، وذلك يكون من خلال مختلف التعاريف التي وردت بصدد كل منهما.
1-معنى الحق:
للحق عدّة معاني مستقرة في اللغة، وكثيرة الورود في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكذلك في الفقه والقانون .
فالحق نقيض الباطل كما ورد في قوله تعالى: ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) .
والحق بمعنى ثبت، وفي هذا يقول الأزهري، معناه وجب وجوباً، وهو ما ورد في قوله تعالى: ( لقد حق القول على أكثرهم ) .
وحق الطريق بمعنى توسطه، وحق العقدة بمعنى أحكم شدّها .
وقد يرد الحق بعدة معاني أخرى، كالعلم الصحيح، أو العدل، أو الصدق أو البين الواضح…الخ .
أ – الاتجاه المنكر لوجود فكرة الحق: وقد عرفت فكرة الحق اختلافا كبيراً بين الفقهاء، منهم من أنكر جدواها، ومن ثم وجودها القانوني، وهؤلاء قلة أبرزهم الفقيه الألماني أوجست كونت، وهو من أنصار المذهب الوضعي، حيث يرى أن الحق فكرة خيالية غير موجودة، وبالتالي يجب استبدالها بالواجب .
وهناك فقيه آخر، هو الفرنسي ليون دوجي، الذي يرى بأن ما يدعى بالحقوق، ما هو إلا مراكز قانونية غير متضمنة لحقوق شخصية، ذلك أن القاعدة القانونية حسبه، لا تقرر للفرد مالا يمكن للآخرين الحصول عليه.
أما الفقيه الثالث فهو النمساوي كلسن صاحب النظـرية البحـتة للقـانون، والذي يرى أن القانون ما هو إلا قواعد متضمنة لالتزامات، ولا وجود لما يسمى بالحقوق، وأن ما يدعى بالحق ما هو إلا التزام على عاتق شخص معين بعدم التعرض للحق المدعى به ، فالقاعدة القانونية حسبه منشئة لالتزامات لا مثبتة لحقوق .
وقد انتقدت آراء هؤلاء المنكرين لفكرة الحق، فضلاً عن كونهم أقلية، فهم فشلوا في محو الاعتقاد بوجود فكرة قانونية مستقلة للحق .
ب- الاتجاه القائل بوجود فكرة الحق: أما القائلين بوجود فكرة الحق، فقد اختلفوا فيما يعد العنصر الجوهري للحق، والذي يمكن أن يعتمد عليه في تعريفه، وقد تبلّورت هذه الاختلافات في اتجاهات مختلفة.
– الاتجاهات التقليدية: وهذه الاتجاهات التقليدية تجسدت في ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الشخصي: أو ما يعرف بالنظرية الإرادية، وينظر فقهاء هذا الاتجاه إلى الحق من خلال صاحبه، ولذلك فهم يعرفون الحق على أنه: ( القدرة أو السلطة الإرادية التي يخولها القانون لشخص من الأشخاص في نطاق معلوم ) .
وأبرز فقهاء هذا الاتجاه الألمانيان، وينشيد وسافيني، وأخذ عليه أي الاتجاه ربطه للحق بالإرادة، وخلطه بين ثبوت الحق ومباشرته، فقد تثبت حقوق لفاقدي الإرادة كالمجنون والصبي، وحتى دون العلم كالغائب، بينما مباشرة الحق لا تكون إلا بتوافر الإرادة، فالصبي تثبت له حقوق، ولكن لا يباشرها إلا ببلوغه .
الاتجاه الموضوعي: والذي يعرف كذلك بنظرية المصلحة، وينظر فقهاء هذا الاتجاه إلى الحق من خلال موضوعه، ولذلك فهم يعرفونه على أنه: ( مصلحة يحميها القانون، وهذه المصلحة قد تكون مادية أو معنوية (أدبية)).
وأبرز فقهاء هذا الاتجاه الألماني أهرنج، والذي يرى بأن جوهر الحق هو المصلحة، ويضيف عنصراً شكلياً هو حماية القانون.
وقد أنتقد هذا الاتجاه لاعتماده في تعريف الحق وتحديده على المصلحة، رغم كونها ليست جوهر الحق، بل هي الغاية المرجوة منه، وهو وسيلة تحقيقها .
الاتجاه المختلط: أو ما يعرف بالاتجاه التو فيقي، وسمّي كذلك لأنه يجمع بين الاتجاهين السابقين، فهو يجمع بين فكرتي السلطة الإرادية والمصلحة، مع الاختلاف بين فقهائه في تغليب إحدى الفكرتين عن الأخرى.
فمن غلب الإرادة عرف الحق على أنه: ( القدرة الإرادية المعطاة لشخص في سبـيل تحقيـق
مصلحة يحميها القانون )، أما من غلب المصلحة، عرف الحق على انه مصلحة يحميها القانون عن طريق قدرة إرادية يعترف بها لشخص معين) .
وقد انتقد هذا الاتجاه على أساس أن الجمع بين الإرادة والمصلحة لا يحدد جوهر الحق، فالقدرة الإرادية شيء مختلف عن جوهر الحق، وكذلك المصلحة كونها الغاية المرجوة منه .
– الاتجاهات الحديثة: وأبرز تعريف في هذه الاتجاهات هو تعريف الفقيه البلجيكي دابان ، الذي عرّف الحق على أنه: ( استئثار شخص بقيمة معينة، أو شيء معين، عن طريق التسلط عن تلك القيمة أو هذا الشيء )، وتحليل هذا التعريف يورد أربعة عناصر:
1 – الاستئثار أو الاختصاص .
2 – التسلط .
3 – احترام الغير لهذا الحق .
4 – الحماية القانونية .
وقد أورد الفقهاء العرب عدّة تعار يف للحق، فعرّفه عبد الحي حجازي على أنه: ( ميزة يمنحها القانون لشخص وتحميه طرق قانونية، فيكون لذلك الشخص بمقتضى تلك الميزة أن يتصرف في مال أقرّه القانون بانتمائه إليه، سواء باعتباره مالكاً أم باعتباره شيئا مستحقا في ذمة الغير ) .
وعرّفه توفيق حسن فرج على أنه: ( استئثار بشيء أو بقيمة استئثارا يحميه القانون ).
وعرّفه حسن كيرة على أنه: ( تلك الرابطة القانونية التي بمقتضاها يخول القانون شخصا من الأشخاص على سبيل الإنفراد والاستئثار – التسلط عن شيء أو اقتضاء أو أداء معين من شخص آخر) .
أما في الشريعة الإسلامية فهو: ( علاقة شرعية تؤدي إلى الاختصاص بشيء مع امتثال شخص آخر في إطار محدد ومشروع )، ومن ثم فللحق في الشريعة الإسلامية خمسة أركان:
1- صاحب الحق .
2- الشيء المستحق .
3 – من عليه الحق .
4- نص شرعي يوجب الحق .
5- المشروعية .
2- معنى الحرية:
للحرية في اللغة عدة معاني، فالحرار من حر إذا صار حراً والاسم (الحرية)، والحر (بضم الحاء) نقيض العبد، وجمعها أحرار وحرار، والحر كل شيء فاخر، وحر كل أرض وسطها وأطيبها، والحر الفعل الحسن وتحرير الكتابة إقامة حروفها وإصلاح السقط، وتحرير الحساب إثباته مستوياً .
وفي القرآن الكريم لم يرد لفظ الحرية وما ورد من ألفاظ منها:
الحر: ضد العبد في قوله تعالى: ( كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) .
تحرير رقبة: بمعنى عتقها في قوله تعالى: ( من قتل مؤمنا خطا فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا…) .
محرراً: في قوله تعالى: ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ) .
وتحرير الولد: أن يخصص لطاعة الله، وأسم المفعول محرر .
أما عن تعريفها فقد تناولها العديد من الفقهاء بالتعريف، إلا أن تعار يفهم، ورغم اتفاقها على عناصر معينة، فقد وردت مختلفة، ومرد ذلك هو التساؤل متي يمكن أن نصنف نشاطا إنسانيا بأنه حر، فمعناها يختلف باختلاف الزمان والمكان، فمثلاً وصف نظام أو مذهب بأنه حر في زمن معين، وفي مكان معين، نجد وصفه أنه غير حر في زمن آخر و في مكان آخر .
فالحرية لدى قدماء اليونان مختلفة عن الحرية لدى فقهاء الثورة الفرنسية وثوارها، ومختلفـة عن الحرية لدى الفقهاء المعاصرين، وهو ما عبّر عنه قول لأحد الرؤساء الأمريكيين وهو لنكولن في خطاب ألقاه عام1864م: ( إن العالم لم يصل أبداً إلى تعريف طيب للفظ الحرية، فنحن نستعمل الكلمة ذاتها إلا أننا لا نقصد المعنى ذاته) .
فالحرية كثيرة الاستخدام، ومتعددة المدلول ومختلفة فيه، وقد وردت لها عدة تعار يف من قبل الفقهاء العرب والغربيين .
أ- الفقه الغربي: وقد أورد الفقهاء الغربيين عدة تعار يف منها:
يعرفها جون لوك صاحب العبارة الشهيرة: ( إن الناس جميعا قد ولدوا أحراراً )، ويضيف لها مفسراً: ( إن الإنسان يولد حراً كما يولد مزوداً بالإرادة )، على أنها: ( الحق في فعل شيء تسمح به القوانين ) .
ويعرفها مونتسكيو على أنها: ( الحق فيما يسمح به القانون ، والمواطن الذي يبيح لنفسه مالاً يبيحه له القانون لن يتمتع بحريته، لأن باقي المواطنين سيكون لهم نفس القوة ) .
وعرّفتها المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي على أنها : ( إمكانية عمل مالاً يضر بالآخرين ) .
ب- الفقه العربي: وقد وردت للفقهاء العرب عدّة تعار يف منها:
يعّرفها طعيمة الحرف على أنها: ( تأكيد كيان الفرد اتجاه الدولة ) .
ويعرّفها زكرياء إبراهيم على أنها: ( الملكة الخاصة التي تميز الإنسان من حيث هو موجود عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو لا عن أية إرادة غريبة عنه، فالحرية تعني: انعدام القسر الخارجي ).
ويعرّفها محمود عاطف البنا على أنها: ( مركز قانوني عام يتضمن القدرة على إتيان أعمال وتصرفات معينة يترتب على ممارستها – عادة – نشؤ حقوق خاصة ) .
ويعرّفها محمد سعيد المجذوب على أنها: ( سلطة أو إمكانية السيطرة على الذات، بموجبها يختار الإنسان بنفسه تصرفاته الشخصية، ويمارس نشاطاته دون عوائق أو إكراه ).
أما تعريفها من الوجهة الشرعية فهي: ( ما يميز الإنسان عن غيره، ويتمكن بها من ممارسة أفعاله وأقواله وتصرفاته بإرادة واختيار، من غير قسر أو إكراه، ولكن ضمن حدود معينة ) .
ودون الإسهاب في سرد المزيد من التعاريف الفقهية، والتي تكاد تكون كلها مختلفة، وإن اشتركت في عناصر معينة، أهمها ضرورة تقييد هذه الحرية لا إطلاقها، وتقييدها يكون وفق التنظيم العام، أي المساواة في تقييدها، والتي قد تتم وفق أسلوب وقائي عن طـريق ربط ممارسـتها بـإذن أو ترخيص من جهة معينة، وقد تكون وفق أسلوب علاجي بوضع جزاءات مدنية وجزائية .
3- التمييز بين الحق والحرية: يستخدم البعض المصطلحين كمترادفين، إلا أن الغالب يميز بينهما:
1- أن الحرية إجازة أصلية مباحة للجميع ودون تمييز، والاعتداء عليها أو الحول دون التمتع بها ينشىء حقا فيها، فالحرية يتساوى فيها الجميع، أما الحق فيقتصر على أشخاص معنيين، لتمكنهم من عنصر الاستئثار والإنفراد .
2- أن الحرية لا يقابلها التزام على عاتق الغير بوجوب القيام بعمل أو أداء معين، بخلاف الحق المقترن بالواجب لدى الغير، وذلك بأن هناك واجب على الغير بعدم الاعتداء على حق وحرية الآخرين.
ورغم هذا التمييز فإن هناك بعض الاتفاقيات والإعلانات قد أخلطت بينهما، ودرجت على أن الحرية حقا، منها المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: ( لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمن الشخصي ) .
وكذلك المادة التاسعة في فقرتها الأولى من العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية: ( لكل فرد الحق في الحرية والسلامة الشخصية )، و كذلك نص المادة الخامسة في فقرتها الأولى من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان: ( لكل فرد الحق في الحرية والأمان…) .
ثانياً- مفهوم حقوق الإنسان وتصنيفاتها:
نحاول من خلال هذا النقطة التطرق إلى تحديد مفهوم حقوق الإنسان، انطلاقا من الإجابة عن السؤال التالي: ما المقصود بحقوق الإنسان ؟
وهذا يتطلب التعرض إلى ما يتردد من أفكار ومفاهيم حولها، مما يعني الاستناد إلى الجانب الفلسفي والنظري، قبل الجانب القانوني، وذلك لمعرفة الاختلاف والتنوع في النظرة إلى حقوق الإنسان، ذلك لأنه من الثابت أن القيم التي تتضمنها تجد أصولها في كافة المذاهب الفكرية، القانونية، السياسية، الاجتماعية والدينية، بحيث لا يرقى الشك في أنها نتاج الحضارات والديانات كافة.
ولمعرفة الموضوع وفهمه، فإنه تجب دراسة الحقوق والحريات دراسة تفصيلية.
لذلك نحاول في البداية، التعرض لتحديد مفهوم حقوق الإنسان، ثم نتعرض إلى تصنيف هذه الحقوق والحريات .
1- مفهوم حقوق الإنسان: يبدوا تحديد معنى حقوق الإنسان، صعباً في ظل اختلاف الكتاب حول التسمية المحددة للموضوع، فالبعض يستعمل مصطلحي حقوق الإنسان والحريات العامة كمترادفين مثل: بيلو وجون روش ، بينما يرى البعض أن الحريات العامة مجرد تسمية فرنسية، وهناك من يرى بأن حقوق الإنسان ما هي إلا اصطلاح جديد لما عرف بالحقوق والحريات العامة، و مسألة المفهوم ترتبط بمسألة التصنيف .
أ- التمييز بين حقوق الإنسان والحريات العامة: يميز العديد من الكتاب بين حقوق الإنسان والحريات العامة، وفي هذا يقول دومينيك تيربان: ( بأنـه في الوقت الذي نجد مفاهيم كل من حقوق الإنسان والحريات العامة كمترادفة، إلا أن هـذا لا يعني أن أحدهما يغطي الآخر، فالأولى قديمة جداً، وطموحه جداً، وواسعة جداً، لكنها قليلة الدقة، كونها أكثر فلسفية وسياسية – وهي اليوم أسست على كثير من القداسة – .
بينما الثانية أي الحريات العامة حديثة، كما أن دراستها مستقلة، متأخرة، ولها بداية محتشمة ومتواضعة، ولكن في نفس الوقت أكثر قانونية، وبالتالي أكثر دقة، ودون تردد يمكن اعتبارها نصر كبيـر، ولأجل تجنب أي تفرقة أو تمييز موجود، فإن بعض البلدان الأنجلوسكسونية خاصـة، تفضل القـول بحقوق الشخص ومثالـه: ( ميثاق الحقوق والحريات للشخص الكيبكي سنة 1975، والقانون الكندي لحقوق الشخص سـنة 1997 ) .
وقد وضع الكتاب مبررات للتمييز بين حقوق الإنسان والحريات العامة أهمها:
1 – أن الحريات العامة، حقوق للفرد قبل الدولة، ويكفلها الدستور والقانون، وتمارس في مواجهة السلطة وفي إطارها، فهي تفترض تدخل السلطة العامة اعتراف وضماناً، لترتقي من مجرد حرية مجـردة إلى حرية عامة، وبهذا يعرفها ريفيرو على أنها: ( الحقوق التي تعتبر بمجموعها في الدول المتحضرة بمثابة الحقوق الأساسية اللازمة لتطور، الفرد والتي تتميز بنظام خاص من الحماية القانونية) .
وبالتالي فمصـدر هـذه الحريات وضعي، وهو تلك الإرادة الشعبية التي وضعت الدسـتور أو القانـون،وعليه لا يـمكن تصـور وجود حريات عامة، إلا في ظل نظام قانوني معين، وهو ما يجعلها وثيقة الصلة بالدولة.
أما حقوق الإنسان فهي حقوق طبيعية يمتلكها الإنسان لطبيعته الإنسانية، وتظل موجودة حتى عند عدم الاعتراف بها أو انتهاكها من قبل سلطة ما، كونها تستمد وجودها من مصادر تاريخية وفلسفية ترجع إلى فكرة القانون الطبيعي .
وهي هكذا يعرفها عبد الحكيم حسن العيلي: ( الحقوق التي تهدف إلى ضمان وحماية معنى الإنسانية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) .
وهذه الحقوق تقع فوق أطر القانون الوضعي، وما عليه إلا أن يقررها ويكفل حمايتها فإذا ما فعل اعتبرت في نظره حريات عامة.
2- الحريات العامة غالبا ما تستعمل في إطار الدولة دلالة على الإمكانيات التي يمتلكها المواطن في مواجهة السلطة، ولذلك فمكانها الدستور أو القانون، وعلى هذا يعرفها كوليار: ( حالات (أوضاع) قانونيـة مشروعة ونظامية حيث يسمح للفرد أن يتصرف كيفما شاء ومن دون قيود في إطار حـدود مضبوطة من طرف القانون الوضعي ومحددة تحت رقابة قاضِ من قبل سلطة بوليسية مكلفة بحفظ النظام العام ) .
بينما يحتفظ بتعبير حقوق الإنسان دلالة على اهتمام المجتمع الدولي بالإنسان وحقوقه، ولذلك يكون نطاقها القانون الدولي، وبهذا يعرفها عمر إسماعيل سعد الله: ( جملة من القواعد والمبادئ القانونية الدولية، التي قبلت بموجبها الدول الالتزام القانوني والأخلاقي بالعمل على تعزيز وحماية حقوق الإنسان والشعوب وحرياتها الأساسية ) .
ومرد هذا الاختلاف إلى اختلاف المدارس الفكرية في حقوق الإنسان، وحسب كامل زهيري فإنه يمكن تركيز هذه المدارس في ثلاث مدارس أساسية: مدرسة دينية، ومدرستان وضعيتان، على أن المدرسة الوضعية المستندة إلى القانون الوضعي، تضم غالبية فقهاء القانون الدستوري المعاصرين .
وترى أن حقوق الإنسان ليست سوى اصطلاح جديد يغطي كل ما عرف حتى الآن تحت اسم الحقوق والحريات العامة، والتي ترجع إلى الفكر الأوربي خلال القرنين 18 و 19، وإلى فكرة العقد الاجتماعي وإلى مبدأ الحرية والمساواة، والتي انعـكست في الإعـلان الفرنـسي لحقـوق الإنسـان
و المواطن وإعلان فرجينيا في أمريكا .
وتضم مدرسة الحقوق والحريات العامـة المـعاصرة، فقيهين مهمين هما جورج بيردو وكلود ألبير كوليار، وهي المدرسة التي أخذ بها أغلب فقهاء القانون الدستوري العرب .
والحرية حسب هذه المدرسة توصف كذلك، عندما يترتب عليها واجبات يتعين على الدولة النهوض بها وتتميز عندهم بالوضعية – أي ما لم يعترف القانون بالحريات فإنها لا توجد، والحرية عندهم لم تعد مشكلة في حدّ ذاتها، لا يهتم بها سوى المفكر والفيلسوف، بل انتقلت تدريجياً من التجريد إلى التطبيق، ومن الفكرة إلى العمل، بدءا من إشكالية الحرية والسلطة والحرية والدولة إلى الحرية في المجتمع .
ومن هنا كانت النقلة الكبرى والتطور العظيم من الفكرة المجردة إلى مرحلة التقنين، وذلك لأن الفكرة الأساسية عند هذه المدرسة أن الحريات لا توجد ما لم يعترف بها القانون، ومن ثم ظهـرت ضرورة إصدار المواثيق الوطنية والدولية، وهو ما تحقق عقب الثورة الفرنسية على المستوى الوطني، وتحقق بعد الحرب العالمية الثانية على المستوى الدولي.
ولكن الفقيه الدستوري رينيه كاسان أسس بعد الحرب العالمية الثانية، مدرسة جديدة وتجديدية في فقـه حقوق الإنسان، وذلك بأنها تقوم بغض النظر عن اعتراف الدستور بها أو عـدم اعترافه، وهو يختلف مع المدرسة القانونية الوضعية التي تقول أن الحريات لا تنشأ إلا إذا اعترف بها القانون .
وعلى هذا فإن رينيه كاسان يؤمن بأن حقوق الإنسان لها قيمة فوق قانونية، ويضيـف كاسان بأن حقوق الإنسان متطورة ومتجددة وديناميكية، لأن حقوق الإنسان المدنية والسياسية سبقـت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإذا كانت الأولى نبعت من أفكار مونتسكيو وروسو، فـإن الثانية نبعت من رواد المنادين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل لوي بلان وبرودون .
وبقدر ما كانت أفكار كاسان في حقوق الإنسان متجددة ومعترفة بالتطور فإنها لم تكن حبيسة النظرة الأوربية لحقوق الإنسان، فقد أوضح في كتاباته مختلف الثقافات والحضارات القديمة، وأشار إلى التقدم في حقوق الإنسان في الربع الأول من القرن 19 في مصر والهند واليابان .
وأهمية هذه المدرسة، تنبع من كونها تتحمس لتوسيع حقوق الإنسان، وتتجدد تبعاً لاحتياجات الإنسان في المجتمع، ولأن الحقوق تثبت للإنسان لمجرد كونه إنساناً، لأنها تنبع من ضمير الجماعة، ومطالبة الجماعة بهذه الحقوق، دون اشتراط أن يكون القانون الوضعي قد اعترف بها أو أدركها بالحماية، إضافة إلى أن هذه المدرسة تعترف بحق الشعوب في تقرير المصير، وبالتالي فالحق موجود أصلاً لكل شعب يناضل، ليكون له وطن، ومن ثم دولة، حتى قبل الاعتراف الدولي بها .
ورغم التمييز الذي وضع بين حقوق الإنسان والحريات العامة، فإن هذا التمييز بدأ يتجه نحو الضيق وذلك أن أغـلب الـدول صارت أطـرافا في المـعاهدات الـدولية المتعلقة بحقوق الإنسان،
وباعتبار أن القواعد الدولية المتعلقة بالموضوع هي قواعد آمرة، حيث يرى الشافعي محمد البشير بأن حقوق الإنسان صارت قانوناً دولياً ووطنياً من حيث المصدر والتطبيق، وأساس ذلك يكمن في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان .
ب- تعريف حقوق الإنسان: صعوبة تحديد معنى حقوق الإنسان، لا تنتهي عند حد التسمية، بل تمتد إلى التعريف، وهذا راجع ربما إلى تباين الثقافات الإنسانية، والمذاهب الفكرية وتباين الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمختلف الدول، وهذا ما يؤدي إلى اختلاف المعايير والاعتبارات التي يعتمد عليها في تعريف الموضوع. ونجد هناك ثلاث وجهات:
– الدول الغربية: ويعتمد مفهومها على المذهب الفردي بمصادره المتعددة، ونجدها تركز على الحقوق والحريات الفردية، وفي إطارها على ما يسمى بالحقوق والحريات التقليدية أي الحقوق والحريات المدنية والسياسية، والتي تعدها مقدسـة، ويتـساوى فيـها الجـميع، وعلى الـدولة عـدم التدخل فيها مما يجعل مضمونها ذو طابع سلبي .
– الدول الاشتراكية: ويرجع أصول مفهومها عموما إلى الزحف الاشتراكي إبان الثورة الصناعية، ومطالبات العمّال بحقوقهم، ونجدها تنتقد الدول الغربية لاعتمادها على الحقوق والحريات التقليدية – القديمة المستمرة إلى الآن والتي لا تلتزم فيها الدولة سوى التزام سلبي وهو ما لم يعد كافياً بل لابد من اضطلاعها بدورها وهو ضمان ظروف حياة كريمة للأفراد، وهو ما يجعلها تلتزم إيجابياً، وتعمل على إبراز الانتهاكات التي تعرفها الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول الغربية، وتعمل جاهدة على صيانتها في دوله.
– دول العالم الثالث: ويركزون على انتقادهم للدول الغربية في تركيزها على الحقوق الفردية وإهمالها للحقوق الجماعية، حيث أن ذلك حسبهم تعصب للحضارة الغربية، كما أنهم ينكرون بعض الحقوق، ويقولون أن ذلك تضحية بها بصفة مؤقتة بهدف تحقيق الحقوق الجماعية، وقد ظهر هذا الخلاف جلياً بصدد صياغة العهدين الدوليين حيث صيغا العهدين بمقدمة واحدة، ولم يظهرا في عهد واحد محاولة للتوفيق بين المعسكرين، ونفس الخلاف ظهر من قبل أثناء إعداد ميثاق الأمم المتحـدة، حيث كانت حقوق الإنسان محل اختلاف إيديولوجي .
هذا الصراع ولد مفهوما معاصرا لحقوق الإنسان، خاصة مع وصول الأحزاب الاشتراكية إلى السلطة في الدول الغربية، وإضفاء نوع من اللبرلة في الدول الاشتراكية، كل هذا أدى إلى صياغة مفهوم يراعي كل فئات حقوق الإنسان، ويعدها نتاج لنضال إنساني، وتراث مشترك للإنسانية، ساهمت في صياغته مختلف الحضارات وهي:
– الفئة الأولى: الحقوق المدنية والسياسية
– الفئة الثانية: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
– الفئة الثالثة: الحقوق الجماعية أو حقوق التضامن
وقد وردت عدة تعار يف أكاديمية لحقوق الإنسان فيعرّفها رينيه كاسان على أنها: ( فرع خاص من فروع العلوم الاجتماعية، يختص بدراسة العلاقات بين الناس، استنادا إلى كرامة الإنسان، بتحديد الحقوق والرخص الضرورية لازدهار شخصية كل كائن إنساني ).
أمـا تلميذه كارل فاساك فيعرّفها: ( أنها تلك الحقوق التي ينبغي الاعتراف بها للإنسان لمجرد كونـه إنسانـاً، وتختلف عـن الحقوق الوضعية في كون المطالبة بها تتوقف على شرط هو الحماية القانونيـة لها) .
وهناك تعريف آخر يقال أنه تقني وضع من قبل مجموعة باحثين سنة 1973، وعلى رأسهم كار ل فاساك، حيث وضعوا حوالي خمسة آلاف كلمة في الحاسوب تتعلق بحقوق الإنسان، فحصلوا على التعريف التالي : ( علم يهم كل شخص ولاسيما الإنسان العامل، الذي يعيش في دولة معينة، والذي إذا كان متهما بخرق القانون أو ضحية حالة حرب، يجب أن يستفيد من حماية القانون الوطني والدولي، وأن تكون حقوقه وخاصة الحق في المساواة مطابقة لضرورات المحافظة على النظام العام).
ويعرفها إيف ماديو في كتابه حقوق الإنسان الصادر سنة 1976 على أنها:
( دراسة الحقوق الشخصية المعترف بها وطنياً ودولياً والتي في ظل حضارة معينة، تضمن الجمع بين تأكيد الكرامة الإنسانية وحمايتها من جهة والمحافظة على النظام العام من جهة أخرى) .
وعرفتها إحدى نشرات الأمم المتحدة الصادرة سنة 1990م على أنها: ( الحقوق المتأصلة في طبيعتنا والتي لا يتسنى بغيرها أن نعيش عيشة البشر فهي الحقوق التي تكفل لنا كامل إمكانات التنمية واستثمار ما نتمتع به من صفات البشر، وما وهبناه من ذكاء ومواهب وضمير ومن أجل تلبية احتياجاتنا الروحية وغير الروحية وهي تستند إلى تطلع الإنسان المستمر إلى حياة تتميز باحترام وحماية الكرامة المتأصلة في كل إنسان وقدره) .
ويعرفها إبراهيم بدوي على أنها: ( أن الإنسان كونه بشراً فإنه يتمتع بمجموعة من الحقوق اللازمة واللصيقة به وذلك بغض النظر عن جنسيته أو جنسه أو ديانته أو أصله أو وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي) .
ويعرفها مصطفى كامل السيد على أنها: ( ممكنات أو قدرات تسخرها الإرادة لبلوغ غايات معينة مادية أو معنوية وهذه الممكنات هي نابعة من طبيعة الإنسان فلا يكون لها وجود بدون استخدامها ولا يتمتع بأي كرامة إلا في ظلها، ولما كانت هذه الممكنات لازمة لوجود الإنسان وكرامته فإن مفرداتها الأساسية تظل واحدة برغم اختلاف الثقافات وتنوع النظم الاجتماعية وتعدد الدول التي يعيش في ظلّها البشر) .
اترك تعليقاً