إذا كانت العلاقات بين الدين والدولة من القضايا التي استأثرت باهتمام الفكر السياسي وشغلت الفلاسفة وعلماء الاجتماع ورجال الدين، في الغرب، من خلال الصراع بين الكنيسة وملوك اوروبا، وفي جو المنازعات والمذابح التي تفجرت بين الكاثوليك والبروتستنت.
وإذا كان استقر الفكر السياسي والفلسفة الاجتماعية والدينية على تحقيق الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية، من ضمن ابراز الاختلاف في طبيعة كل من الدين والدولة والاختلاف في حقول نشاط كل منهما وصلاحياته.
وإذا كان انتهى الأمر، في البلدان الاوروبية، إلى تسليم الكرسي الرسولي في روما والسلطات الكنسية بالكف عن التدخل في الشؤون السياسية والتنظيمية والقضائية للدولة والمجتمع، وطي صفحة الدولة الدينية لتقوم الدولة المدنية (العلمانية) على أسس من احترام حرية المعتقد وحرية الممارسة الدينية، ومن حياد الدولة تجاه الأديان وتجاه نشاط المؤسسات الدينية بما فيها المؤسسات الدينية التعليمية، وهو حياد يمكن تسميته بالحياد الإيجابي بالقياس إلى الدولة المدنية الماركسية.
ففي عالم الاسلام، وفي دنيا الدول العربية بالذات، وفي وسط مجموعة الدول التي قامت على أنقاض الخلافة العثمانية، ما زالت علاقة مدنية السلطة والحكومة بالدين، إن على صعيد النظر والفكر السياسي الاسلامي أو في ميدان العمل والتطبيق الدستوري والفعلي، علاقة يكتنفها الإبهام والغموض فلا هي علاقة توحد وتطابق ولا هي علاقة افتراق وفصل.
كل النصوص الدستورية حملت بشكل أو بآخر طابع الهوية الاسلامية، بعضها حرص على الاعلان أن دين الدولة الاسلام، وبعضها اكتفى بالإعلان أن دين رئيس الدولة هو الاسلام وأن الفقه الاسلامي مصدر رئيسي للتشريع، ولكن الدولة الدينية الاسلامية التي قامت (لحراسة الدين ولسياسة الدنيا بالدين) كما جاء في تعريف ابن خلدون بها، لم تكن هي ما تعبر عنه بقية مواد الدستور فليس مرجع التشريع مرجعاً دينياً ولا الشرائع الناظمة للعلاقات من مدنية وجزائية وتجارية ودولية وغيرها مما يمكن معه اعتبار أن الدين هو الذي يسوس الناس.
في كل هذه الدساتير المكتوبة تستمد السلطة الدستورية سلطاتها من الإرادة الشعبية كما تقوم الهيكلية الدستورية على الفصل بين سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، وعلى ايلاء سلطة التشريع مجلساً منتخباً من الشعب ليس من شروط العضوية فيه أن يكون النائب من علماء الدين، فهل هذا يتوافق مع الدولة الدينية الاسلامية،
كما جاء في تعاريف علماء الفكر الديني الاسلامي السياسي والاجتماعي في قرون الاسلام الغابرة وهي الدولة التي مستند السلطة فيها هو إلى (الشرع) أي الله وليس إلى الشعب، مما ينجم عنه أن يكون للخليفة فيها على (الأمة) حق الولاية العامة المطلقة والطاعة التامة والسلطان الشامل في شؤون الدنيا والدين (وأن يكون عصيانه من عصيان الله، وأن تكون كل ولاية مستمدة منه، وكل وظيفة متفرعة عنه (لاشتمال منصبه على الدين والدنيا)؟
إن عديداً من دعاة الدولة الدينية الاسلامية وقادة الحركات السياسية الدينية الاسلامية أسهم في صياغة بعض هذه الدساتير الحديثة، ولم يجدوا في (الشرع) ما يتعارض مع المبادئ الدستورية والنظريات الديمقراطية التي أمكن بها لدعاة الدولة العلمانية في الغرب، أن يحملوا الكنيسة على التخلي عن التدخل في الشؤون السياسية والتنظيمية والقضائية للدولة والمجتمع وأن تسلم بفصل الدين عن الدولة.
موقف دعاة الدولة الدينية الاسلامية من الأنظمة الدستورية الحديثة:
ندع جانباً موقف الذين، من علماء الدين وقادة مراكز التوجيه الفكري والديني في العالم الاسلامي، يقفون من كل ما يتصل بحضارة الغرب وأنظمة حياته السياسية والاجتماعية ومذاهبه الفكرية والاجتماعية ومن كل ما تنشغل له أوساطه الثقافية والسياسية موقف الرفض الشامل المطلق. هؤلاء اعتبروا ويعتبرون التعامل مع أي جانب من جوانب حضارة الغرب، ضعفا في الوازع الديني وتخاذلاً في الاعتصام بالاسلام.
ونلاحظ فقط الذين، من علماء الدين وقاعدة الحركات الدينية الاسلامية الفكرية والسياسية ـ تعاطوا ايجابياً مع الأنظمة الدستورية الغربية وفلسفتها في الديمقراطية وفصل السلطات وغير ذلك.
لقد تجاوز هؤلاء صورة الدولة الدينية الاسلامية، كما عرفها تاريخ الإسلام، ولم يأخذوا بالمذهب الذي يعتبر الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله وقوته من قوته، وهو المذهب الذي تسري روحه بين لفيف من العلماء وعامة المسلمين أيضاً.
إذا كان مذهب الخلافة يعتبر الخليفة يقوم في منصبه مقام رسول الله، فيما يتصل بحفظ الدين وسياسة الدنيا به، مما يضفي على من أستخلف على منصب رسول الله مسحة دينية وكأنما سلطانه هو من سلطان الله، ما دام هو خليفة الرسول الذي أختاره الله لهذا المنصب، فإن المذهب الذي اعتمده دعاة الدولة الدينية الاسلامية يذهب إلى أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، فهي مصدر قوته وهي تختاره لهذا المقام.
استناداً إلى هذا المذهب انطلق هؤلاء الدعاة إلى اعتبار أن الدولة الدينية الاسلامية، التي يستمد الخليفة فيها سلطانه من الامة، غير محصورة في طريق معين، وإنه إذا كانت الشورى هي الواجب الشرعي فإن للدولة الدينية الاسلامية (أن توافق، في كيفية الشورى، الأمم التي أخذت هذا الواجب عنا وانشأت له نظاماً مخصوصاً،
متى رأينا في الموافقة نفعاً ووجدنا منها فائدة تعود على الامة والدين) هكذا قال الإمام الشيخ محمد عبده بل هو يؤكد (أن كل شكل من الأشكال نراه مجلبة للعدل وجب علينا أن نتخذه، وكما يقول ابن الجوزية: إمارات العدل، إذا ظهرت، بأي طريق كان، فذاك شرع الله ودينه والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين).
وإذا كان قام، في الغرب، نزاع بين السلطة الدينية والسلطة المدنية فالإمام محمد عبده ينكر أن يكون في الاسلام، أي شكل من أشكال السلطة الدينية، ليؤكد على مدنية السلطة في الاسلام فيقول: ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أعلاهم كما خولها الأعلى ليقرع بها الأدنى. أما في شؤون الدين (فلكل مسلم أن يفهم عن الله،
في كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسط أحد من سلف ولا خلف)(9) ويضيف الاستاذ محمد عبده: (إن صاحب السلطة في الاسلام حاكم مدني من جميع الوجوه، والأمة هي صاحبة الحق وهي التي تخلع صاحب السلطة متى رأت ذلك في مصلحتها). حكم ديمقراطي مدني كامل.
ومع أن الشيخ محمد عبده لا يتنازل في كل ما طرح وفي كل ما جنح، عن وجوب الدولة الدينية الإسلامية باعتبار الإسلام ديناً ودولة، ولا عن التمسك بالجنسية الدينية وليس بالجنسية القومية، فإن فصله بين المضمون وبين كيفية تحقيقه، بين الشورى وكيفيتها، بين العدل وطرق العدل، ثم تغليبه للمذهب الذي يعتبر الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، على حساب المذهب الذي يرى سلطان الخليفة من الله، كل ذلك كان في أساس موقف من أرتضى من دعاة الدولة الدينية الاسلامية، بأن ينبع النظام الدستوري لدولة الاسلام على غرار ما هو مثبت في الدساتير الوضعية (العلمانية).
وإذا صح رأي هؤلاء من (دعاة التحديث) بين طلاب الدولة الدينية الاسلامية، فأن تحديثهم، وصل بهم، بعد وفاة الإمام محمد عبده وسقوط الخلافة العثمانية إلى أن يقفزوا فوق نظام الخلافة نفسه فيجنحوا إلى عـدم تلازم نظام الخلافة مع الدولة الدينية الاسلامية، بالرغم مما يذهب إليه العلماء والفقهاء من أن نصب الخليفة واجب وأن الاجماع انعقد على وجوب الخلافة وبالرغم مما استعر، في أعقاب سقوط الخلافة العثمانية، من منازعات فكرية ودينية لاهبة بين المتمسكين بالنظام الاسلامي وقوامه نظام الخلافة وبين المفرطين بالخلافة ممن اعتبروا مفرطين بالنظام الاسلامي.
إن دعاة التحديث من طلاب الدولة الدينية الاسلامية وقفوا، في كل الشؤون المتعلقة بدولة الاسلام موقف الانتقاء يأخذون ما اعتبروه في الأنظمة الوضعية الغربية الدستورية جوانب خير وطرق عدل، ثم يجنحون على صعيد الشرع إلى اعتماد ما يساعدهم في تثبيت (شـرعية) موقفهم بنزوعهم نحو المذاهب العقلية والشرعية التي تدعم موقفهم الانتقائي.
ولكن هل كل علماء الدين ورجال الفكر الاسلامي يتوافقون على وجوب الدولة الدينية الإسلامية، على أساس أن الاسلام دين ودولة، أم وجد في أوساط علماء الدين ومفكري الاسلام، من يذهب إلى الفصل بين الدين والدولة، بأدلة شرعية وعقلية استقاها وانتقاها بدوره من تراث الإسلام الشرعي والتاريخي؟
—
اترك تعليقاً