كيف يتطور القضاء في ظل الظروف الواقعية؟
د. عبد اللطيف القرني
من الأمور المهمة في تطوير القضاء عدم وجود بيئة تطوير مستدامة يبنى أولها على آخرها، بحيث تظهر نتائجها الفعالة بعد وقت من الزمن، والسبب عدم وجود برامج خطط واقعية دقيقة، والفرق بين الواقعية وغيرها هو أن الواقعية تنطلق من المكونات الموجودة وبالتالي يمكن تطبيقها لأنها متجانسة مع الواقع والعرف الإداري والنسيج الاجتماعي، ومع افتراض وجود هذه الخطط الواقعية تبقى إشكالية تغير القيادات الإدارية بين فترة وأخرى لطبيعة العمل الإداري سببا أيضا لعدم استقرار التطوير وصعود أدائه، بل على العكس غالبا تبدأ الخطط الجديدة مع القيادة الإدارية خاصة مع تغير الطاقم البشري واختلاف أنماطه الفكرية والعملية وتغير ميزان الأولويات والاهتمامات.
وهكذا يدور التطوير في حلقة إدارية ومتغيرة، وهذا يجعل الخروج من هذا المأزق يحتاج إلى حل جذري ونوعي ويكون من طبيعته مستداما بحيث لا يخضع لمتغيرات الأنماط الإدارية وأسلوبها المتغير في الإدارة القضائية، ومن خلال واقع خبرة وتأمل وجدت أن دخول الخصخصة في عمل الإجراءات القضائية حل نوعي وجذري وسيسهم في تخفيف العبء على القيادة القضائية لكي تتفرغ للتطوير الموضوعي، والمساهمة في مشاريع تقنين القضاء وتطوير القاضي المتخصص، والاقتراح الذي أقدمه يكون من خلال إنشاء شركتين وفق ما يلي:
1 – شركة عدل للبيانات: ومهمتها باختصار: تسلم القضية وتسجيلها وإحالتها إلى المكتب القضائي مع متابعة عرضها على القاضي وفق نظام معلوماتي وكتابة تقارير معلوماتية عن كل جلسة محفوظة في الشبكة المعلوماتية، وبعد الحكم فيها يتم إرسالها إلى محكمة الاستئناف ومتابعة جدولة عرضها على قضاة الاستئناف وفي النهاية يتم تسليمها للأطراف، ومن مهامها أيضا:
– تكوين قاعدة بيانات مشتركة عن معلومات أطراف الدعوى وعناوين الأفراد وربط ذلك بين المحاكم بأنواعها واللجان شبه القضائية، وأيضا تولي تقنية المعلومات والأرشفة الإلكترونية.
– توزيع مراكز للشركة داخل المدينة وفي المحافظات ومهمتها تسلم القضايا وإرسالها إلى المحكمة حسب مقدم الطلب وكذلك تسليم الأحكام وإجراءات التبليغ، وممكن في مرحلة متقدمة يكون التسلم والتسليم إلكترونيا لحظة اعتماد التوقيع الإلكتروني.
– متابعة التشغيل والصيانة المتعلقة بالتقنية والتشغيل الذاتي ورفع مستوى جودتها بشكل يليق بالسلطة القضائية ورصد الملحوظات ومعالجتها من خلال إدارات متابعة منتشرة في المحاكم ومتابعة كافة التجهيزات المساندة.
– توفير بيئة الترافع إلكترونيا في المحاكم وبعض الأجهزة الحكومية مثل السجون وغيرها. – وضع مؤشرات رقمية لكافة الإدارات وإعداد التقارير الإحصائية.
– الربط الإلكتروني بين المحاكم ومتابعة إرسال القضايا والمعاملات بين المحاكم.
– المشاركة في الاجتماعات لكافة إدارات المحاكم، ويكون لكل محكمة إدارة من قبل الشركة معنية بالتنسيق مع القضاة.
– تعيين كفاءات برواتب مميزة ونشرهم في المحاكم وإيجاد بيئة تنافسية، وإعادة هيكلة الكادر الوظيفي للموظفين وتسكينهم درجات مناسبة وتدريبهم ومحاسبتهم على التقصير وقياس مدى تكدس الموظفين في إدارات معينة وعدم وجود إنتاجية في العمل.
– الاستثمار الداخلي من خلال إجراء كافة التعاقدات لتشغيل بعض المواقع داخل المحكمة مثل أماكن للتصوير والطباعة وأيضا أماكن للقهوة والمطاعم الخفيفة، بحيث تكون المحاكم بيئة ممتعة للعمل والانتظار وتوفير كافة الخدمات للمراجعين.
2 – شركة عدل للمباني: ومهمة هذه الشركة وضع خطط المباني ودراسة احتياجات المناطق والمحافظات ورسم التصاميم الإنشائية المناسبة لكل محكمة والمرافق المساندة لها والإشراف عليها والبدء في مشاريع المباني ومتابعة تنفيذها خلال مدة وجيزة، شاملا تقديم جميع الخدمات ابتداء من الخدمات الاستشارية والإدارية، مرورا بصيانة المباني والترميم والتجهيز والتأثيث المتعلق بالمباني وانتهاء بالتأجير والاستئجار وشراء المباني حال توافر الفرص.
وتكون هاتان الشركتان مملوكتين لصندوق الاستثمارات العامة أو أي ذراع مالية للدولة، وممكن إدخال بعض الشركات فيها، ولكن يكون عملها وفق آلية الشركاتBusiness Model وهي الشركات التي لا تستهدف الربح المادي إنما الخدمة الاجتماعية العالية (شركات غير الربحية- النفع العام)، وإنما تتغيا تحقيق أغراض مهنية تعود بالنفع العام على المجتمع.
وتأخذ الشركتان حكم المرفق العام، لأن القضاء استقر على أن المرفق العام هو كل نشاط تقوم به الإدارة بنفسها أو بواسطة أفراد عاديين تحت إشرافها وتوجيهها بقصد تلبية الاحتياج الاجتماعي. ولا شك أن خدمة العدل هي أهم خدمة وعليها تقوم الدول وبها تستمر، ويمكن لنا أن نقيس مستوى تغير الخدمات المقدمة في وزارة الداخلية من خلال الجوازات والأحوال المدنية وكيف أن شركة (علم) قامت بتغييرات هيكلية في مستوى الخدمة والجودة وارتفاع رضا الجمهور عنها، ولعل القارئ الكريم لمس ذلك من خلال تغير العمل في جوازات المطار وكذلك مراكز الأحوال المدنية وكذلك شركة ثقة في وزارة التجارة وأيضا التشغيل الذاتي في قطاعات الصحة.
إن إنشاء شركات تعنى بالقطاع القضائي ستكون لها إسهامات كبيرة في مستوى الخدمة القضائية في فترة وجيزة ويبقى على القيادة القضائية التفرغ للنواحي الموضوعية والاهتمام بمكتب القاضي من خلال تعيين مستشارين وكفاءات بالتعاون مع الشركة المتخصصة وتخلص القاضي من العمل الإداري، ولن تتغير الخدمات بعد تغير القيادة القضائية لكون الاستراتيجية للشركات ستكون حاضرة مع كل قيادة قضائية، وإن كان هناك تغير فسيكون محدودا، ولن يؤثر في النمط العام في تقديم الخدمة، وربما سيكون إلى الأفضل في بحث رفع مستوى الخدمة من الإدارة بالجودة الشاملة وتقويم الأداء للشركات.
وأختم كلامي للقيادة القضائية -وفقهم الله- بهذه العبارة “إن تسهيل الإجراءات وسلامتها ورفع مستواها يوازي في الأهمية النتيجة النهائية للقضية التي يتم البت فيها سلبا أو إيجابا، فالمراجع سيكون ضميره أكثر رضا حال توافر الخدمة العالية، وإن كان خسر القضية التي جاء للمحكمة من أجلها، والعكس كذلك، فلو تأخرت العدالة ولم تكن الإجراءات سليمة ومستواها غير جيد فسيكون المراجع غير راض، وإن كانت النتيجة النهائية للقضية حسمت لمصلحته”.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً