محاضرة قانونية هام عن دور القضاء الشرعي في حل مشاكل الأسرة
محاضرة ألقاها
رئيس المحكمة الشرعية السنية العليا
القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان
بدعوة من المركز الثقافي الإسلامي
فندق البريستول – بيروت
( 17/11/2009 )
الحمدُ لله رب العالمين.
الحمد للهِ الذي خلقَ لنا من أنفسِنا أزواجاً لنسكنَ إليها, وجعل بيننا مودةً ورحمة, وجعلَ هذا الخلقَ والتكوينَ واستمرارَ الحياةِ الإنسانيةِ بالطريقِ المشروعِ من الآياتِ الداعيةِ للتفكيرِ والتأمل , فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمد خاتمِ رسلِ اللهِ وأنبيائِه ، المبعوثِ لهدايةِ الخلقِ ، والمرسلِ للناسِ كافةً داعياً ومعلماً ، الذي أنزلَ عليه الكتابَ بالحقِ والميزان ، ليقومَ الناسُ بالقسطِ ، يدعوهم إلى الله ، ويعلمُهم كتابَه ، ويرددُ عليهم قولَه تعالى: { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}، {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
وعلى آله وأصحابه ومن سلك طريقهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد : حضرة رئيس وأعضاء المركز الثقافي الإسلامي، أيها الأحبة الحضور:
فبدايةً يطيبُ لي أن أتقدم بالثناءِ والتقدير ، لسعادة الدكتور عمر مسيكة على رئاسته الرائدة للمركز الثقافي الإسلامي ومسيرتِه الثقافية المتجددة التي تواكبُ روحَ العصر مع الحفاظِ على أصالة الانتماءِ والهويةِ والتراثِ والقيم ، كما أتوجه بالشكر إلى الصديق الدكتور وجيه فانوس نائبِ رئيس المركز على تقديمه.
ويسرني مع افتتاحِ وانطلاقةِ الموسم الثقافي للمركز الثقافي الإسلامي أن أحاضرَ أمامَكم عن موضوعٍ على قدرٍ كبير من الأهمية ، لأنه يمسُ قضيتين أساسيتين في واقعنا الاجتماعي اللبناني ، يثارُ حولَهما الكثيرُ من الحواراتِ والنقاشاتِ والدراساتِ والتساؤلات ، كما يثارُ حولَهما الكثيرُ من مطالباتِ الإصلاحِ والتطويرِ والتجديدِ والتحديث.
وهاتان القضيتان هما :
الأولى – الأسرةُ وسبلُ المحافظةِ عليها وحمايتِها ومعالجةِ مشاكلها .
الثانية – القضاءُ الشرعي ودورُه في مجالِ الأحوالِ الشخصية ونظامِ الأسرة .
ولا شك أن هذا الكمَّ الهائلَ من النقاشاتِ والحواراتِ والتساؤلاتِ واقتراحاتِ الحلول ليس فقط على المستوى الوطني فحسب ، بل على مستوى العالمين العربي والإسلامي، وعلى المستوى الدولي أيضاً :
وسوف أتناولُ هاتين القضيتين تحت عنوان : (دورُ القضاء الشرعي في معالجةِ مشاكلِ الأسرة) .
الإسلام منهجُ هدايةٍ وإرشاد ، ومنهجٌ قويمٌ لحياة الإنسان ورسالة عدالة:
من معالمِ سماحةِ وعظمةِ الدينِ الإسلامي أنه منهجُ هدايةٍ وإرشاد ، ومنهجٌ قويمٌ لحياة الإنسان في أي زمانٍ كان أو في أي مكانٍ وجد ، فيه التصورُ الإعتقادي الذي يفسرُ طبيعةَ الوجود، ويحددُ مكانَ الإنسانِ في هذا الوجود ، كما يحددُ غايةَ وجودهِ الإنساني ، وينظمُ علاقتَه بربه ، ويشتملُ على التنظيماتِ الواقعيةِ التي تنبثقُ من هذا التصورِ الإعتقادي وتستندُ إليه، وتجعلُ له صورةً واقعيةً متمثلةً في حياة البشر، كالنظامِ الأخلاقي والينبوع الذي ينبثقُ منه ، والأسس التي يقوم عليها ، والسلطة التي يستمَد منها ، وكالنظامِ السياسي وشكلِه وخصائصه ، وكالنظامِ الاجتماعي وأسسِه ومقوماتِه ، وكالنظام الاقتصادي وفلسفتِه وتشكيلاتِه ، وكالنظامِ الدولي وعلاقاتِه وارتباطاتِه.
وهو أيضاً رسالةُ العدالةِ التي تحترمُ حقوقَ الإنسان ، والتي تصون دماءَ الناس وأعراضَهم وأموالَهم وسائرَ حقوقهم ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ..} ، وسئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كلمةٍ جامعةٍ لمعاني الإسلامِ الحنيف ، فتلا عليه الصلاةُ والسلام قولَه تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
وجوانبُ العدالةِ في الإسلام كثيرةُ ومتعددة ، منها : عدالةُ الإنسانِ مع نفسه ، وعدالتُه مع أهلِه وأسرتِه وأولادِه ، وعدالةُ القاضي مع المتداعيين ، وعدالةُ الراعي مع رعيته …وغيرها، والذي يعنينا من جوانبِ العدالةِ الإسلامية في محاضرة اليوم ، وفي مجالِ عملنا واختصاصِنا القضائي في المحاكمِ الشرعيةِ السنية في لبنان هو تحقيقُ عدالةِ التشريعِ الإسلامي في مجالِ الأحوالِ الشخصية ونظامِ الأسرة التي تعتبرُ الخليةُ الأولى في المجتمع ، ونواتُه الصغرى التي يقومُ عليها كيانُه، وأي خللٍ يصيبُ الأسرةَ ينعكسُ على المجتمع سلباً ، وأي صلاحٍ وصوابٍ يمسُ الأسرةَ إنما يعود على المجتمعِ بالإيجاب ، من هنا كان تقدمُ أي مجتمعٍ ما رهينٌ بسلامةِ الأسرِ فيه ، وتخلفُ أي مجتمعٍ ما وانحطاطُه رهينان بفسادِ وانحلالِ وضباعِ الأسر فيه.
بناء الأسرة في التشريع الإسلامي :
لقد حرصَ التشريعُ الإسلامي على تنظيمِ مؤسسةِ الأسرة ، وضبطِ الأمورِ وتوزيعِ الاختصاصات فيها ، وتحديدِ الواجباتِ والحقوقِ لكلِ أفرادها ، وبيانِ الإجراءاتِ التي تتخذُ للمحافظةِ عليها من زعزعةِ الأهواءِ والخلافات ، ومن عناصرِ التهديمِ والتدميرِ لها ، فلقد شاءَ اللهُ تعالى أن يجعلَ في الإنسانِ ، وهو محورُ الرسالاتِ السماوية والفلسفاتِ والإيديولوجيات ، شطرين للنفسِ الواحدة ، وأرادَ من التقاءِ شطري النفس الواحدة – الذكر والأنثى – فيما أراد ، أن يكونَ هذا اللقاءُ سكناً للنفسِ ، وطمأنينةً للروحِ ، وراحةً للجسدِ ، ثم ستراً وإحصاناً وصيانة ، ثم مهداً للنسلِ وامتداداً للحياة الإنسانيةِ مع ترقيها المستمر في رعايةِ المحضَنِ الساكن الهادىءِ المطمئنِ المستور ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
ومن تساوي شطريِّ النفسِ الواحدةِ ، ومن تكريمِ اللهِ تعالى للإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ، كانَ ذلك التكريم للرجلِ والمرأةِ المتساويين في الإنسانية ، واللذين يشكلان نوعين لجنسِ الإنسانِ الواحد ، يتشابهان ولا يتماثلان ، لكلٍ خصائصُه الذاتية ، يتكاملان فيها وينسجمان ويتعاونان ، ليؤدي كلُ واحدٍ منهما رسالتَه ودورَه دون تعدىٍ على حقوقِ الآخر ومهامِه وواجباتِه ، وكان الإنصافُ والتكريمُ للمرأة ودورِها في الحياةِ الإنسانية ، جنباً إلى جانب مع الرجلِ ، من خلالِ التشريعاتِ الإسلامية التي أعطتها حقوقَها ، وحررتها من الظلمِ والتظلم ، والتهميشِ والتبعيةِ المطلقة للرجل ، وساوتها في حقوقِ الأجرِ والثواب ، وفي حقوقِ التملك والإرثِ ، وفي استقلال الشخصية المدنية ، قال تعالى : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}.
ومن أهميةِ التقاءِ شطريِّ النفسِ الواحدةِ لإنشاء مؤسسةِ الزواج ، ومن ضخامة تبعةِ هذه المؤسسة ، في توفيرِ السكنِ والطمأنينةِ والسترِ والإحصانِ للنفسِ بشطريها ، وفي إمدادِ المجتمعِ الإنسانيِ بعواملِ استقرارِه وامتدادِه وترقيه … كانت تلك التشريعاتُ والتنظيماتُ الإسلاميةُ الدقيقةُ المحكمة ، التي تتناولُ كلَّ جزئيةٍ من شؤونِ هذه مؤسسة ، والتي تواكبُ جميع المراحلِ التي تمرُّ بها قبلَ تشكيلِها وبعدَه ، فوضعت لكلِّ مرحلةٍ قواعدَها -الكلية والجزئية- الشاملة لجوانبِ النفس وجوانبِ الحوادثِ والمواقف ، وحددت أطرَ العلاقاتِ بين الجنسين قبل الزواجِ وبعدَه ، وقبلَ توسعِ الأسرةِ بالإنجاب وبعدَه ، ونظمت مجموعةَ العلاقاتِ داخلَ الأسرةِ على ضوءٍ من الحقوقِ والواجباتِ المتبادلة ، القائمةِ على التعاونِ والتكاملِ والانسجام والتكافلِ والتراحمِ والتناصحِ والسماحةِ والمودةِ والإحسانٍ ، ورسمت للأسرةِ خارطةَ طريقِها في التعاملِ الاجتماعي من أجل التكاتفِ والتآزرِ لبناءِ وإصلاحِ كيانِها والكيانِ الاجتماعي الكبير ، فالتشريعاتُ والتنظيماتُ الإسلاميةُ الدقيقةُ المحكمة رفدت الأسرةَ بمنهجِ حياةٍ واقعي ، يبينُ أهميتَها ويوضحُ خصوصياتِها وعلاقاتِها وآمالَها وآلامَها ، ويضع الحلولَ اللازمةَ لوقايتها ولعلاجِ خلافاتِها المتأصلةِ أو الطارئة ، وتظهرُ هذه التشريعاتُ والتنظيماتُ الإسلاميةُ الدقيقةُ المحكمة في آياتٍ بيناتٍ من سورةِ البقرةِ والنساءِ والنورِ والأحزابِ والطلاقِ والتحريمِ ، وفي مواضعَ أخرى متفرقة من سور ِالقرآن الكريم ، التي تؤلفُ مع السنةِ النبوية الشريفة دستوراً كاملاً شاملاً دقيقاً لنظامِ هذه المؤسسةِ الإنسانية يشملُ جميعَ مراحلِ بنائها ، وتدلُّ كثرةُ هذه النصوص بتنوعِها ودقتِها وشمولِها على مدى الأهميةِ التي يعقدُها المنهجُ الإسلاميُّ للحياةِ الإنسانية على مؤسسة الأسرة ، باعتبارها نواةُ المجتمعِ الذي يتكونُ من مجموعِها التي يقوم عليها وينمو ويتجذر ويتطور بها ، ويحصل له منها الامتدادُ الأفقي حتى يصبحَ شعباً ، والرأسي حتى يبقى تاريخاً لمن بعده ، وباعتبارها الأمةُ الصغيرةُ التي فيها الحصانةُ والحمايةُ والوقاية ، وفيها الأمنُ والأمانُ والسلامةُ ، والسعادةُ والهدوءُ والاستقرار ، وفيها البعدُ عن الشرورِ والآثام ، والسلامةُ من الحيرةِ والاضطراب ، والأمنُ من العدوانِ والاجتراءِ على الحرمات، وفيها يتعلمُ الإنسان أفضلَ أخلاقِه وقيمِه الثقافيةِ الاجتماعية ، فلولا الأسرةُ لم تحفظْ الثقافة ، وتترسخْ القيمُ الخلقية والاجتماعية ، التي توارثَها الأبناءُ عن الآباء ، ثم توارثَها أبناءُ الأمةِ جيلاً بعد جيل ، فالأسرة هي التي تمسك اليوم ما بناه النوعُ الإنساني في ماضيه، وهي التي تؤول به غداً إلى أعقابِه وذراريه .
الأسرة كما أرادها الإسلام:
هكذا أرادَ الإسلامُ للأسرة أن تكون مؤسسةً فطريةً اجتماعيةً :
– لتحقيقِ سنةِ الله تعالى في خلقِه وهي (نظامُ الزوجية) .
– لإشباعِ مطالبِ الجسدِ عن طريقِ الزواج الشرعي الذي يهذبُ النفوس ، ويسمو بالأخلاقِ ، ويقي من الانحرافِ ، ويحمي المجتمعَ من الأمراضِ الجنسيةِ المصاحبةِ للزنى والشذوذ ، ومن الأمراضِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ والإنحلالِ والفلتانِِ الأخلاقي – وبهذا وقفَ الإسلامُ موقفاً يتسمُ بالوسطيةِ والاعتدال بين الإباحيةِ الجنسيةِ وبين الحرمانِ والكبت .
– لتلبية مطالبِ الفطرةِ البشرية بإيجادِ الولدِ والذريةِ الصالحة التي تعتبر من النعم الكبرى التي أنعم الله بها على خلقه ، ولحفظِ الأنسابِ من الاختلاط ، قَالَ صلوات الله وسلامُه عليه (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْل مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ) ، أي أن معرفةَ الأنسابِ في الإسلامِ ضرورية لمعرفةِ الأقاربِ وصلةِ الأرحام والترابطِ الاجتماعي عبر القرابة والمصاهرة .
– لإعدادِ الفردِ ليكون إنساناً صالحاً في نفسِه وأسرتِه ومجتمعه ، فالزوجُ – الأب – مسؤولٌ عن إعالةِ أهلِه وإصلاحِهم ، وقِوامتُه قوامةُ مسؤوليةٍ وتكليفٍ لا قوامةُ تشريف كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} ، والزوجة – الأم – مكلفةٌ بطاعةِ زوجها – في غير معصية – ، وحفظِ مالِه وعرضِه، والقيامِ بواجبِ الأبناء في التربيةِ والرعايةِ ، وهما معاً مسؤولان عن رعيتهما في كلِ صغيرةٍ وكبيرة ، كما جاء في الحديث : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ ).
نعم إن دورَ الأسرة أراده الإسلام هو دورٌ مهمُ في مجالِ التربيةِ على الأخلاقِ الفاضلةِ والتضحيةِ والإيثار ، والتضامنِ والتكافلِ الاجتماعي ، لأنها المكانُ الصحيُّ السليم للحضانةِ والتربيةِ السليمة في المراحلِ الأولى للطفولة ، ولا تستطيعُ أيُّ مؤسسةٍ عامةٍ أن تسدَ مسدَّ الأسرة في هذه الشؤون .
أيها السيدات والسادة :
الأسرة بين المفهوم الإسلامي والواقع العملي :
هذه نظرةُ الإسلامِ إلى الأسرةِ كما أرادَ الله تعالى لها أن تكون مؤسسةً فطريةً لحياةٍ زوجية مشروعة ، ومحلاً للسكنِ والسكينةِ والاستقرارِ الاجتماعيِ والنفسي , ووسيلةً للمودةِ والتعاطفِ , وموطناً للرحمةِ والتراحمِ والإحسانِ, ومهداً صالحاً لحضانة الذرية ورعايتها ، وتشكيلِ حياة الإنسانِ السلوكية والاجتماعية ، وميداناً للتدريب على المعاني الإنسانيةِ الرفيعة لتصبحَ سجيةً وخُلقاً .
أما ما نشهدُه اليوم ونحنُ نعيشُ في عصرِ العولمةِ ( الماديةِ – الإلحاديةِ – الإباحيةِ – الهدامة) ، والذي غابَ معها إنسانُ الواجب , إنسانُ الفطرة , إنسانُ الإيمان ، إنسانُ القيم ، باني الحضارة , وراعي الأسرة ، وبرز إنسانُ الغريزةِ وكفرِ النعمة ، وعدوُّ القيم , الأمر الذي يذكرنا بقوله تعالي : { بل يريدُ الإنسانُ ليفجُر أمامَه} {يسألُ أيّانَ يومُ القيامة} ، نرى بعضَ المجتمعاتِ الغربية تتحولُ إلى غاباتٍ وساحاتٍ من الإباحيةِ باسم الحريةِ الشخصية والحقوقِ الإنسانية- حيث أصبحَ الكثير من أناسِ اليوم لا يرى إلا رغباتَه ونزواتَه الذي لا حدودَ لها , لا يهمُه إلا إشباعُها .
الأسرة العربية والإسلامية مستهدفة من خارجها ومن داخلها :
ونرى أن مؤسسةَ الأسرةِ العربية والإسلامية قد أصبحت مستهدفة من خارجِها ومن داخِلها .
– الأسرةُ مستهدفةٌ من خارجها : لأنها المؤسسةُ التي أضفى عليها الإسلامُ القدسيةَ ولأنها الحصنُ العربيُّ والإسلاميُّ المتبقي ، الممانعُ لقوى العولمةِ في سعيها لتفيت بنيةِ مجتمعاتِنا العربيةِ والإسلامية ، وإلغاءِ هويتِها وانتمائِها وتاريخِها وقيمِها ، بإنهاءِ دورِ مؤسسةِ الأسرة في مجتمعاتنا بإبدالِها بأنماطٍ غربية مخالفةٍ للفطرة الإنسانية , بسيلٍ من المؤتمراتِ والمقرراتِ والوثائقِ والاتفاقياتٍ الدولية ، التي تحاولُ التأكيد على أن شكلَ الأسرةِ هو نمطٌ اجتماعيٌ تاريخيٌ وتقليدي يمكن تغييره ، وتطرحُ مفاهيمَ وعناوينَ ومصطلحات ك (حقوق الإنسان) و (المساواة والتنمية والسلم) و (القضاء على جميع أشكال التمييز بين المرأة والرجل) ، تتفنن في إخفاء المضامين ، ومعظمها ظاهره فيه الرحمةُ والإنسانيةُ ، وباطنُه من قبلٍه العذابُ والشقاءُ والضياع ، وتشجعُ على الاعترافِ بأنماطٍ من الاقترانِ مخالفةِ للفطرة السوية ، وتعتبرُها من أشكالِ الأسرة ، بل وتوصي بدعمِها وتأمين الحمايةِ القانونية لها :
– كالزواجِ الحرِ أو المفتوحِ المنطلقِ من قيود النوع الإنساني – ذكورة وأنوثة -، والمتحررِ من القيود الجنسية التقليدية : وهذا النوعُ من الزواجِ موجودٌ ومشروعُ في بعضِ المجتمعات الغربية .
– وكعلاقةِ التساكنِ المجرد : وهي تعايشُ زوجين دون جماعِ في إطار الزوجيةِ بالاتفاق على ذلك ، وكلٌ حرٌ خارجَ إطارِ الزوجية .
– وكالتعاشر من غير زواج : وهذا الأمرُ واسعُ الانتشار خاصةً في الطبقة الوسطى وبين طلابِ المدارسِ الثانوية والجامعات في المجتمعاتِ الغربية .
– والأسرةُ مستهدفةٌ من داخِلها : بأشكالٍ وأنواعٍ من الخلافاتِ والنزاعاتِ وعدم الانسجامِ والتفاهمِ ، وفقدانِ أجواءِ المودةِ والمحبةِ ، وغيابِ الحوارِ الهادىء الرصينِ الهادفِ إلى حلِّ المشكلاتِ الطارئة بتغليبِ مصلحة الأسرة العامة وبقائِها واستمرارِها على أنانياتِ كل طرفٍ من طرفي هذه المؤسسة، وانعدامِ الاحترام المتبادل ، وتفريطِ كل طرفٍ بواجباتِه وافتئاتِه على حقوقِ الطرف الآخر …. ،
إنَّ من يزورُ مبنى محكمة بيروت الشرعية السنية (كنموذجٍ عن المحاكمِ الشرعية السنية المنتشرةِ على مساحة الوطن) ?يرى طوابيرَ النساءِ والرجالِ والأطفالِ الذين تعجُّ بهم أروقةُ هذه المحكمةِ وقاعاتُها ، ومن يتابعُ قضايا الزواجِ والطلاقِ والنفقةِ والحضانةِ ، وكلَّ ما يتعلق بقضايا الأسرة?ِ ، ?يعرف جيداً مدى ما تغصُّ به محاكمُنا من ملفاتٍ قضائيةٍ شرعيةِ معروضةٍ على القضاةِ الشرعيين ،? ?ويدرك مدى المعاناةِ التي? يعانيها هؤلاءِ القضاة ، ومدى المعاناةِ التي يعانيها أفرادُ الأسرِ – سواء كانوا أزواجاً أم زوجات ، آباءً أم أمهات ، مطلقات أم أرامل – ، وما يدفعُ ثمنَه الأولادُ – ذكوراً كانوا أم إناثاً – نتيجةَ الخلافاتِ الزوجيةِ المستحكمة ، وما ينتجُ عنها من انحلالِ عرى الزوجيةِ وتفككِ الأسر .
وإن من يزورُ دورَ رعايةِ الأطفال أو دورَ العناية بالمسنين والعجزة ، يدركُ تماماً مدى الخطرِ الكبير الذي يتفاقمُ يوماً بعد يوم نتيجة ضياعِ القيم وانحلالِ الروابطِ الأسرية التي وصفها ربُّنا تعالى بأنها رابطةُ المودة والرحمة .
إن هذه الصورة التوضيحية السريعة ، تجعلنا نتساءل جميعاً : عن الأسبابِ التي أدت إلى استحكامِ المشاكلِ الأسرية والتي تؤدي في الغالبِ إلى التفككِ الأسري ، وما ينتج عن هذا التفككِ من الكوارث – نعم كوارث – لأن هذا التفككَ ينعكسُ سلباً على وحدةِ الأسرةِ وعلى تماسكِ واستقرارِ مجتمعنا ؟ ، ويجعلُنا نتساءل عن دورِ القضاءِ الشرعي في حل مشاكلِ الأسرة ؟
أسباب المشاكل الأسرية المؤدية إلى التفكك الأسري :
الحقيقة أن أسبابَ المشاكلِ الأسريةِ المؤديةِ إلى التفككِ الأسري ليست محددةٌ أو ثابتة ، وإنما هي أسبابٌ متنوعةٌ ومتعددةٌ ومتحركة ، حتى في وقوعِها وفي تأثيرِها وذلك وفقَ الظروفِ والتطوراتِ المحيطةِ بكلِ أسرة ، ولا توجد قضيةٌ من قضايا الخلافاتِ الزوجيةِ والأسريةِ معروضةٌ على القضاء الشرعي تتشابه مع غيرِها من القضايا ، ونستطيعُ أن نجملَ الأسبابَ المؤدية إلى المشاكلِ الأسرية والتفككِ الأسري ، بمجموعةٍ من القضايا الأساسية ، ينضوي تحتها تفصيلاتٌ جزئية تؤثرُ على واقعِ أسرِنا اليوم ، وتدفعُ بالأسرةِ إلى أتونٍ من المشاحناتِ والكيديات ، تؤدي إلى تصفيةِ هذه المؤسسة وإنهاءِ الرابطة الأسرية :
أولاً : تفشي الأمية الدينية في فهمِ الحياةِ الزوجية: إذ إن عقد الزواج ينُشئ بين الرجلِ والمرأةِ علاقةً خاصةً متميزةً لا تتحقق بين الرجلِ وأقربِ الناسِ إليه رحِماً ، كما لا يمكن أن تكونَ بين المرأةِ وأقربِ الناسِ إليها أيضاً ، وعدمُ فهم الزوجين لما يجب على كل منهما نحو الآخر من الحقوق والواجبات , وغياب الوعي الديني في فهم الحياة الزوجية يهدد الأسرة بالقلق والإضطراب الذي ينتهي بها إلى التفكك أو التفرق .
ثانياً : عدمُ الالتزامِ بالضوابط الشرعية عند الإقدامِ على الزواج بسبب تفشي بعضُ التقاليد والأعراف التي تفرضُ أنماطاً متنوعةً قبلَ الزواج تخالفُ ما دعا إليه الدين الإسلامي : فإجبار الفتى أو الفتاة على الاقترانِ بمن لا يأنسٍ إليها أو تأنس إليه ، ومسارعةُ أهلِ الزوجة أو أهلُ الزوجِ إلى إجراء عقد الزواج قبل أن يتعارفَ الخاطبان على بعضهما ، وقبل أن يتبادلا الحوارَ للتخطيط لمستقبل ما يقدمان عليه ، يؤدي إلى الاختلافِ والتنافر بعد إجراءِ العقدِ أو الزفافِ ، عندما يكتشف كلُّ طرف أنه تزوج بمن لا يسره أن يقترن به للتباينِ في الفهم والتفاهم ، أو التباينِ في المستوى الثقافي أو الديني ، أو التباينِ في طريقةِ العيش المشترك , وتغدو الأسرةُ في مقتبلِ تكوينها في مهب رياح الشقاء والتمزق والتفرق.
ثالثاً : ألا يرغب الرجلُ في الزواجِ من المرأة لذاتها , , وألا ترغب المرأةُ في الزواج من الرجلِ لذاته ، وإنما يكون اختيارُ أحدِهما للآخر على أساسِ غناه وثرائِه أو طمعاً في اكتسابِ جنسية أو مميزاتٍ نفعية آنية ، ودون النظرِ إلى المقاصدِ الأساسيةِ للحياة الزوجية .
رابعاً : التباينُ الكبير في المفاهيمِ ، والتعصبُ الديني الأعمى في بعض الزيجات المختلطةمما يؤثرُ سلباً على العلاقةِ الزوجية وعلى استمرارِ التعايش بين الزوجين .
خامساً : إهمالُ الأبِ لرسالته في رعايته وتوجيهه لأسرته وأنه مسؤول كما الأم مسؤولة كل بحسب دوره واختصاصه في حماية الأسرة وتماسكها وإشاعة أجواء الود والتعاون ، فنرى بعضَ الآباء يؤثرون الإنفلاتَ وراءَ نزواتهم وأنانياتهم تاركين دورهم التوجيهي والأبوي في رعاية الأسرة ، مما يؤدي إلى اضطرابِ أجواءِ الأسرةِ ودخول القلق إلى نفسيةِ الزوجة ، وتصبحُ الأسرةُ عرضةً للتشتت والضياع .
سادساً: إهمالُ الأم لرسالتها الأولى وفق ما اقتضت حكمةُ الله في خلقه ، بأن تكون أماً وحاضنةً وراعيةً ومربيةً للأجيال , وهي لن تنهض برسالتِها هذه عل أكملِ وجه إن أهملت هذه دورها ، وتركت مهمةَ الرعايةِ والعنايةِ بالبيتِ والزوجِ والأبناءِ إلى الخدم الذين أصبحَ لهم في أسرِنا حضورٌ مستمرُ ، جعل منهم ركائزَ أساسية ، وكانوا من ثم من عواملِ ضعفِ العلاقات بين أفرادِ الأسرة ، الأمر الذي نشأت عنه ظاهرةُ الحيرة والتمزقِ التي تواجها بعضُ الأسرِ اليوم.
سابعاً : التأثرُ الأسري بالنقل الثقافي والاجتماعي الغربي والاغتراف العشوائي من أعراف وتقاليد المجتمعات الغربية أو من أمراضَها , في ظلِّ التهاونِ بالقيمِ الإسلامية والعربية أو غيابِها، ذلك أن التقنياتِ الحديثة من : فضائيات وفيديو وكمبيوتر وإنترنت ، أوجدت لكلِّ فردِ في الأسرة مواردَه التربويةِ والثقافيةِ وجوَّه الخاصَ البديلَ عن جوِّ الأسرة , وتحولت الأسرةُ إلى مجموعةٍ من الأفرادِ ، لا روابطَ تجمعهم ولا علاقات اجتماعية تؤلفُ بينهم، يضافُ إلى ذلك سيلُ المسلسلاتِ والأفلامِ والنماذجِ الغربية التي هي نماذجُ رديئة للعلاقاتِ الزوجية , والخياناتِ الزوجية, تغري البعضَ بالاقتداء بها ، فتقوضُ دعائمَ الأسرة .
ثامناً : تدخلُ أهلِ الزوجين لا من أجل الصلحِ والتوفيقِ لحل المشاكل الأسريةِ الطارئة ،وإنما من أجل تأجيجِ الخلاف واحتدامِه، وممارسةُ أهلِ الزوج أنواعَ الضغوط عليه من أجل تطليق الزوجة ، وممارسةُ أهلِ الزوجة أنواعَ الضغوط عليها من أجل طلبها التفريق وقد يكون الأهلً هم سببُ المشكلة، مما يدفعُ بالأسرةِ نحو التفككِ وحلِّ عرى الزوجية .
تاسعاً : ممارسةُ أيَّ طرفٍ من طرفي الرابطة الزوجية ضد الطرف الآخر أنواعَ الإهاناتِ والتحقيرِ والتشهير (وكشف المستور) وممارستُه العنفَ المعنوي والماديوالإيذاءَ المعنوي والجسدي ، مما يُنهي مع هذه الممارسات الاحترامَ المتبادل والمودة ، ويجعلُ الرابطة الزوجية فريسةَ الضياعِ والتمزق .
عاشراً : تردي الأوضاع الاقتصادية وتزايد الضغوطات الحياتية والمعيشية، وعدمُ قناعةِ الزوجين أو أحدهما بما قسم الله لهما من رزق ، كل ذلك يحرك نوازع الخلافِ ويزيلُ سماتَ التآلفِ والانسجامٍ ، ويدفعُ بالأسرةِ نحو احتدامِ وصولاً إلى انحلال الرابطة الزوجية .
أخيراً : من أسبابِ المشاكلِ الأسرية الناتجة عن احتدامِ الخلافِ بين الزوجين أو انفصامِ عرى الزوجية بينهما ، الاختلافُ على حضانةِ الأولاد ، الذي يؤدي إلى اتهامِ كلِ طرف الطرفَ الآخر بعدمِ الأهليةِ لتربيتهم ورعايتهم ، وتبدأُ بينهما حملاتُ التشهيرِ الجارحةِ والمخزية ، ويصبحُ أطفالُ الأسرةِ بالنتيجة الضحايا الذين ينعكس عليهم هذا الخلاف اضطراباً وقلقاً وجنوحاً.
هذه بعضُ الملامح الأساسية لأسبابِ الخلافاتِ والمشاكلِ الأسرية ، وغيرُها كثير وكثير ، مما في طياتِ ملفاتِ القضاء الشرعي .
دور القضاء الشرعي في معالجة مشاكل الأسرة :
إن القضاء الشرعي في لبنان يعتبرُ جزء من تنظيماتِ الدولة اللبنانية القضائية ، وقد حصر قانون تنظيم القضاء الشرعي الصادر بتاريخ الصادر بتاريخ 16 / 7 / 1962 مهام واختصاصات وصلاحيات هذا القضاء ، وحددَ هذا القانون أيضاً أصولَ المحاكماتِ والإجراءاتِ المتبعة لفصل المنازعات في الدعاوى الداخلة في اختصاصِ المحاكمِ الشرعية المنتشرةِ في المحافظاتِ اللبنانية ، كما بينت المادة (242) منه أن القاضي الشرعي السني يصدر حكمه طبقاً لأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة إلا في الأحوال التي نص عليها قانون حقوق العائلة الصادر في 8 محرم سنة 1336 و25 تشرين الأول 1933 فيطبق القاضي السني أحكام ذلك القانون ويصدر القاضي الجعفري حكمه طبقاً للمذهب الجعفري ولما يتلاءم مع هذا المذهب من أحكام قانون العائلة .
وحددت المواد (337 – 347) منه أصولَ السيرِ بالمحاكمات والإجراءات الواجب اتخاذها ، والتحكيم في قضايا التفريق لحل الرابطة الزوجية .
ما يهمنا في موضوعِ محاضرتنا اليوم من تنظيم القضاء الشرعي الذي حدد عمل القاضي الشرعي ، وبين حدودَ مهمتِه وقضائِه ودورِه في التعاملِ مع مشاكلِ ، أن نبين نموذجين من القضايا الداخلةِ في اختصاص القضاء الشرعي ، ولهما علاقةٌ أساسيةٌ بالمشاكل الأسرية :
أولاً: في قضايا الطلاق والتفريق :
أعطى التشريعُ الإسلامي للزوجِ حقَّ إنهاء العلاقة الزوجية بإيقاعِه الطلاقَ (على أنواعه) على زوجته :
– وقد يستعمل الزوج هذا الحق لأسباب معتبرة .
– أو قد يستعمله عن تجني وافتراء واستهتار .
– وقد لا يستعملُه – رغم تعذر استمرار الحياة الزوجية – كيداً للضغط على الزوجة كي تتنازل عن حقوقها المقررة شرعاً أو ليتركها كالمعلقة وظلماً وعدواناً .
ويأتي دورُ القاضي الشرعي في الحالتين الأوليين بالتوجيهِ والإرشادِ ونصح الزوجين في حل خلافاتهما ما أمكن ، وعدمِ التسرع في إنهاء الرباط الزوجي ، ويحيلهما إلى لجنةِ إصلاح ذات البين الملحقة تطوعاً بالمحاكم الشرعية ، وهي لجنةٌ من السيدات الفاضلات المتخصصات في مجال الإصلاح ، فإن تعذر الصلح ، فالقاضي الشرعي يقوم بتدوين الطلاق ويحفظ حق المطلقة في المطالبة بحقوقها الشرعية إن لم يتم التوصل إلى اتفاقهما عليها .
أما في الحالة الثالثة : وهي حالة تشدد الزوج في عدم إيقاع الطلاق، فقد أتاح التشريع الإسلامي للزوجة أن تتقدم من القاضي الشرعي بدعوى تفريق وفق المادة ( 337 ): (لكل من الزوجين أن يطلب التفريق بسبب الضرر الناشئ عن الشقاق أو سوء العشرة كالضرب والسب والإكراه على محرم أو تعاطي المحرم) .
وهنا نحن أمام مطالبتين :
– المطالبة الأولى : تدعو القضاء الشرعي إلى تعديلِ إجراءات التقاضي واختصارِها للإسراع في بت دعاوى التفريق .
المطالبة الثانية : تدعو إلى التريثِ والتمهلِ وعدمِ الإسراع في بت دعاوى التفريق حرصاً على الأسرة واستمرارها .
والحقيقة أن القضاء الشرعي يولي قضايا التفريق عناية خاصة ، ويتخذُ موقفاً وسطياً بين المطالبتين طبقاً لظروف كل قضية من القضايا المعروضة ، فالقاضي الشرعي يعرض الصلح في أول جلسة ثم يستمعُ إلى الطرفين ويعرضُ الصلحَ مجدداً لحل أسباب التفريق إن كانت ممكنة ، ثم يطالبُ المدعي /أو المدعية بالبينة ، ثم في حال ثبوت الشقاق والنزاع يمهلهما مجدداً إن رأى في ذلك ضرورة ، ثم يحيلهما بعد ذلك إلى المجلسِ التحكيمي لدراسة القضية والإصلاح وإلا لتحديد نسبة المسؤولية على كل طرف ، وعلى ضوء تقرير الحكمين يحكم القاضي بالتفريق مع تحميل كل طرف نسبة المسؤولية التي يقتنع بها .
ومع إعطاء التشريع الإسلامي حق الطلاق الرجل ، وإعطاء المرأة حق الالتجاء إلى القضاء الشرعي لطلب التفريق ، أجاز أيضاً للزوج والزوجة أن يتفقا على أن تكون الزوجة مفوضة بتطليق نفسها متى شاءت وهو ما يسمى (بتمليك العصمة) سواء عند إجراء العقد أو بعد إجرائه مع بقاء حق الزوج في التطليق سارياً ، ولا شك أن القاضي الشرعي يعمل جاهداً في محاولاته لرأبِ الصَدْع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً قبل إيقاع الطلاق .
ثانياً : قضايا الحضانة واستلام الأولاد :
يطبق القاضي الشرعي السني في قضايا الحضانة واستلام الأولاد أرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة طبقاً لأحكام المادة (242) من قانون تنظيم القضاء الشرعي ، وقد حددَ أرجحُ الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة أن مدة حضانة :
(تنتهي فترة حضانة الغلام إذا بلغ سبع سنين وتنتهي مدة حضانة الصبية ببلوغها تسع سنين . وللأب بع ذلك أخذهما من الحاضنة )
والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يتعامل القضاء الشرعي مع قضايا الحضانة واستلام الأولاد في ظل الخلاف الكيدي المحتدم بين الأب والأم ، وفي ظل المجبورية القانونية وما حددته المادة (242) من أن القاضي الشرعي السني عليه أن يحكم بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة :
يعول القضاء الشرعي في قضايا الحضانة واستلام الأولاد ومشاهدتهم ، وهي من أكثر القضايا خطورة على إقرار الصلح بين الوالدين في هذه القضايا مع الأخذ بعين الاعتبار مصلحة المحضون– ذكراً أو أنثى – لأنه موضوع الحضانة التي شرعت لتأمين مصلحته، فإن لم يتم التوصلُ إلى اتفاق ، وثبتَ أن الأم غير أهل للحضانة أو أن حضانتها قد سقطت لوجود مانع شرعي يمنع من الحضانة يعطى المحضونُ إلى من يليها من الحاضنات بناء للطلب ، فإن لم تتوافر حاضنة لأي سببٍ كان يعطى المحضون إلى الأب إن كان أهلاً للحضانة وإلا لجده لأبيه ، وإلا لأقرب عصبة .
وإن ثبت أن الأب غير أهل لرعاية الصغير أو الصغيرة بعد انتهاء فترة الحضانة ، وأن الأم أهل لبقاء المحضون – ذكراً أو أنثى – معها بعد انتهاء فترة الحضانة وأنها نذرت نفسها لتربية المحضون ولم تتزوج أو لم يوجد فيها مانع شرعي يمنعها من إبقاء المحضون – ذكراً أو أنثى – عندها ، فإننا نبقي المحضون عندها إلا إذا كانت مصلحةُ المحضون تقتضي تسليمَه لأبيه وهو أهل لرعايته .
السبل الآيلة إلى تعزيز دور القضاء الشرعي في لبنان لأداء رسالته في الحفاظ على تماسك الأسرة ومعالجة مشاكلها :
إن القضاء الشرعي في لبنان يقوم بمهامِه ومسؤولياته في معالجة مشاكل الأسرة وإنهاءِ منازعاتها بتحقيق العدالة وفق الإجراءات القانونية والنصوص الشرعية المحددة قانوناً ، ونعمل بكل جهد ممكن لتعزيز حضوره وأدائه ، ولكي يتأكد دورُ القضاء الشرعي وفعاليتُه في إحقاقِ العدالةِ والإنصاف وتعزيز دوره في الحفاظِ على الأسر التي هي عماد مجتمعنا اللبناني لا بد من بذل جهودِنا لإقرار مشاريع التطوير في الأداءِ وفي الأنظمةِ والقوانين ، عبر العملِ على إقرارِ سلسلة من التعديلات القانونية ، وتعديلِ بعض النصوص الشرعية المعمول بها حالياً ، بما يتوافق مع مقاصدِ الشريعة الإسلامية لتحقيق مصالحِ الأسرة ودرءِ المفاسد والعنت عنها ، ولنا سعة ورحمة في الاختلاف المذهبي ، ولنا ما تم إقرارُه من قوانين للأحوال الشخصية في الدول العربية خيرُ حافزٍ لإنجازِ التعديلات التي ستكلل إن شاء اللهُ تعالى بطرح مشروعٍ خاص للأحوال الشخصية عادل ومنصف، أسوةً ببقية الطوائف اللبناني .
دور مؤسسات المجتمع المدني في المحافظة على تماسك الأسرة العربية والإسلامية :
إن واجبَ الحفاظِ على الأسرة وتماسكِها وحلِّ مشكلاتها ليس مقصوراً فقط على دور المحاكم الشرعية لأنها تعنى بالأحوال الشخصية ، وإنما ينبغي أن تتشارك وتتكامل من أجل هذا الواجب كلُّ مؤسساتِ وفعالياتِ التشكيلِ الديني والثقافي والتربوي والاجتماعي ، وهذه مسؤولية الجميع ، لأن الأسرةَ العربية والإسلامية في العصرِ الحاضر تعاني آثارَ الضعف والتفكك , والروابطُ التي ظلت تميزُ هذه الأسرةَ عبر تاريخها الطويل , وكذلك التقاليدُ الطيبة التي تضفي عليها هالةَ من التوقيرِ والتقديرِ والعطفِ والحنانِ والمشاعرِ القلبية الصادقة لم تعد كما كانت قويةً وحيةً في حياة الأسرة .
نحن في القضاء الشرعي بدأنا بالاستعانةِ بلجانٍ لإصلاح ذات البين ملحقةٍ بالمحاكم الشرعية ، لمعالجة أكثرِ المشاكلِ الأسرية قبل عرضها على القضاءِ لبت النزاع فيها ، وسنعمل إن شاء الله على استحداث مكاتبَ متخصصة بقضايا الإرشاد والتوجيه والإصلاح الأسري تلحق بكلَ محكمة شرعية .
كما وإننا في هذا الإطار سنتعدى الإطار َالقضائي الوظيفي – باعتبارنا قضاةً ودعاة إصلاح – إلى التعاونِ مع جميع المؤسسات الدينية والاجتماعية والمراكز والثقافية ، لتعزيزِ الوعي وتعميمِ الثقافة بأهميةِ الأسرة وضرورةِ حمايتها والمحافظة عليها ، بالوسائل الممكنة من الندوات والمحاضرات والنشرات ، وسنعملُ بالتنسيق معها على إقامة دوراتٍ توجيهية وتثقيفية للخاطبين قبل إجراءِ عقد الزواج ، ليدركا مدى أهمية ما يقدمان عليه ، ولتكون هذه الدورات عوناً لها في مسيرتهما الزوجية المباركة .
إنني ومن هذه المحاضرة أدعو مؤسسات المجتمع المدني إلى إيلاء قضايا الأسرة العربية والإسلامية الاهتمامَ المطلوب على قدرِ الاستهدافات التي تتعرض لها ، وادعوها إلى إنشاء مؤسسات متخصصة للإرشادِ والتوجيهِ والإصلاحِ الأسري ليس فقط على مستوى العاصمة بيروت وإنما على مستوى كل الوطن .
فلنعمل جميعاً من أجل المحافظة على أسرِنا ، إنها مسؤولية سيحاسبنا الله عليه ، فلنحاسب أنفسنا قبل يوم الحساب يوم ينادى : (وقفوهم إنهم مسؤولون)
اترك تعليقاً