مقال مميز يفسر المفهوم القانوني للجرائم السياسية
أ * أحمد أبو الزين
انتهج فقهاء القانون الجزائي الوضعي عدة اتجاهات في سبيل تقسيم الجرائم المختلفة وتصنيفها ، فرأوا أن هناك جرائم إيجابية وأخرى سلبية . ورأوا أن هناك جرائم تامة وأخرى ناقصة أو مستحيلة ، ورأوا أن هناك جرائم عادية وجرائم سياسية ، كما رأوا أن هناك جرائم بسيطة جرائم اعتياد ، وجرائم آنية وجرائم مستمرة ، هكذا ، والحقيقة أن هذه التصنيفات كلها مفيدة لكل دارس ولكل باحث في مفاهيم العدالة الجزائية وهي تعمق الفهم الجزائي.
وحديثنا الآن في الجرائم السياسية .
وعندما تحدث فقهاء القانون الجزائي عن هذا النوع من الجرائم ، نظروا إليها من زاويتين : الأولى : طبيعة الحق المعتدى عليه . والثانية : الدافع إلى ارتكاب الجريمة أو الغرض منها .
وقد كان المجرم السياسي في المجتمعات القديمة ينظر إليه على أنه أخطر المجرمين ،وكانت عقوبته غاية في القسوة حتى يكون عبرة لغيره !! لأنهم كانوا يصورونه على أنه عدو الشعب والدولة !! وكان عقابه (في روما القديمة مثلا ) الموت بحرمانه من الماء أولا ثم إحراقه بالنار ، وطبعا بعد مصادرة كل أمواله ولصق العار بأسرته إلى الأبد.
وكان المجرم السياسي هو الذي يرتكب أفعالا تهدد الامبراطور أو يحاول تغيير نظام الحكم.
وفي العصور الوسطى كان الإجرام السياسي معاقبا عليه بشراسة وهمجية عجيبة ، والسبب في ذلك ، أن الدكتاتور وطبيعته الاستبدادية لا تمكنه أن يتحمل فكرة أن هناك من ينازعه السلطان أو يعترض على طريقة حكمه أو يطالب بتغييرها أو تغييره !!.وكانت هناك جريمة سياسية فريدة اسمها ( انتهاك حرمة الولاء نحو الملك )!! وكان الملك في القرون الوسطى يكسو ظلمه وجوره ثوبا حقوقيا أو دينيا عن طريق بعض العلماء !! حتى أن أحدهم ، واسمه ” ريشليو ” يقولها صراحة : (( من الجرائم ما يجب على أولي الأمر معاقبة فاعلها أولا ثم التحقيق فيها ثانيا !! ومن هذه الجرائم : الاعتداء والنيل من جلالة الملك ، فهي جريمة جد خطيرة لدرجة أنه تجب المعاقبة على مجرد التفكير فيها !!)).
وهذه الجملة ، دفعت مونتسكيو إلى القول تعليقا : (( لو نزلت العبودية إلى الأرض لما تكلمت غير هذه اللغة )).
وريشليو منظر الاضطهاد السياسي في العصور الوسطى ، هو الذي قال :
(( في الجرائم الموجهة ضد الدولة يجب إغلاق باب الرحمة وازدراء شكايات أرباب المصالح ، وصخب الشعب الجاهل ..)).
ولكن الفلسفة الجزائية الجديدة التي جاءت مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية غيرت الأوضاع والنظرة إلى المجرم السياسي ، مع شيوع مفاهيم الحرية والديمقراطية وانعكاسها على التشريع الجزائي.
رغم أن الثورة الفرنسية استمرت في البطش بالمعارضين والمجرمين السياسيين والذين كان معظمهم من الأشراف ورجال الدين.
ونلاحظ أن النظرة للجرائم السياسية تختلف من نظام سياسي إلى آخر . فإن كان النظام السياسي ديمقراطيا نجد تشريعه الجزائي متسامح مع المجرمين السياسيين وعقوباته مخففة ، أما في ظل الأنظمة المستبدة فتجد عقوبة المجرم السياسي قاسية ، فضلا عن (العقوبات اللامرئية ) الناجمة عن الاعتقالات التعسفية والتعذيب في السجون مما هو معروف للجميع.
وكان الاتحاد السوفياتي يعاقب المجرم السياسي بعقوبة الموت رميا بالرصاص ، وكانت قوانين الاتحاد السوفياتي من القسوة والتشدد في العقاب ضد كل من تسول له نفسه النيل من الثورة ومن القوانين الاشتراكية والماركسية ، حتى أن بعض الجرائم ( ذات الطابع الاقتصادي ) كان يعاقب عليها بالإعدام وعقوبات أخرى قاسية جدا . وقد أنشأت روسيا محاكم خاصة لمحاكمة المجرمين السياسيين ، وكان تعريفها لهذا الصنف من الجرائم واسعا فضفاضا بحيث يشمل كل من يعارض النظام السياسي القائم .
وهذا الكلام أعلاه ينطبق على إيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر أيضا ، إذ كان ينظر إلى الإجرام السياسي على أنه خطر ضد الدولة يجب استئصاله بأقسى العقوبات .
ففي ألمانيا النازية مثلا : كانت تعتبر إرادة الفوهرر ( إرادة الزعيم ) وكما يقول الأستاذ الألماني ” جورج داهم ” أن إرادة الفوهرر هي أساس النظام الحقوقي ، ولا يجوز التحدث عن تشريع غير صادر عن رغبته .. وسلطته مفروضة على رجل القانون وعلى القاضي )).
وكانت مؤسسة الجستابو تقضي على المجرمين السياسيين حتى قبل وصولهم إلى المحاكم !!
ويمكن تعريف الجريمة السياسية بشكل عام على أنها : (( الفعل الذي يرمي به الجاني بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تغيير الوضع السياسي للدولة أي إلى إقامة هذا الوضع على صورة تختلف عن صورته القائمة بالفعل والتي يفترض في الظاهر أن الكثرة الغالبة من المواطنين تقرها ، بحيث يشكل اعتداءا على النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي للدولة )). وقد عرفه الأستاذ “روديير ” في كتابه ” الجريمة السياسية ” بأنه : الجرم الذي تدفع فاعله إليه أفكاره السياسية .
فالجريمة السياسية تتميز بأن الباعث على ارتكابها والغرض من اقترافها كلاهما سياسي ، وتتميز كذلك بأن الحق المعتدى عليه فيها أيضا سياسي .
وقد اتسع مفهوم الجرائم السياسية ، وانقسم الرأي فيها إلى مذهبين :
المذهب الشخصي ويكتفي بلون الباعث الذي دفع المجرم إلى ارتكاب جريمته فكلما كان الباعث سياسيا اعتبرت الجريمة سياسية ، وذلك بغض النظر عن موضوعها .
أما المذهب الموضوعي فلا يكتفي لاعتبار الجريمة سياسية بأن يكون الباعث على ارتكابها سياسيا ، وإنما يعتد فوق ذلك بطبيعة موضوع الجريمة أو الحق المعتدى عليه. فالجريمة ، برأي هذا المذهب ، تكون سياسية إذا كان موضوع الاعتداء هو أحد الحقوق السياسية أو أحد أوضاع الدولة السياسية بوصفها سلطة عامة ونظام سياسي .ويرى أنصار المذهب الموضوعي بأن الجريمة تبقى عادية حتى لو الباعث عليها سياسيا إذا كان الحق المعتدى عليه ليس له صفة سياسية ، كأن يعتدى على حقوق الأفراد العادية ( الملكية مثلا ) أو الاعتداء على أملاك الدولة الخاصة أو العامة بدون أن يكون لتلك الأملاك أي صفة سياسية أو ارتباط بأي وضع سياسي.
ومن الجرائم السياسية : الاعتداء على أمن الدولة ، كالتآمر لتغيير نظام الحكم ، أو العمل على تغيير الدستور ، وجرائم المطبوعات ( جرائم الرأي ) والصحافة التي تتعرض للحقوق السياسية وكجرائم الغش في الانتخابات مثلا .
والجدير ذكره أن الرأي الغالب في الفقه الجزائي المعاصر يميل إلى إخراج الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي من طائفة الجرائم السياسية كجرائم الخيانة والتجسس والتآمر مع العدو.
إلا أن الاتجاه العالمي يعتبر أن الاعتداء على رئيس الدولة بالاغتيال أو غيره لا يمكن أن يعتبر جريمة سياسية ، لأن حياة رئيس الدولة مصونة كأي إنسان أو فرد في المجتمع ، ولا يمكن القول بأن القتل أو الاغتيال يمكن يكون جرما سياسيا وإنما يندرج ضمن الجرائم العادية.
وقد جاء الاتفاق السوري اللبناني المصدق بتاريخ 17/1/1951 بأنه : لا تعتبر جرائم سياسية ، كل تعد على رئيس الدولتين المتعاقدتين . ونحت هذا المنحى نفسه معاهدة تسليم المجرمين الموقعة بين دولة الجامعة العربية.
وعليه نقول ، إن تصنيف الجرائم إلى سياسية وأخرى عادية ، هو تصنيف يهدف إلى معاملة ( المجرم السياسي ) معاملة خاصة ، باعتبار أنه لم يرتكب جرمه بدافع الكسب أو السرقة أو لدافع إجرامي بحت ، وإنما لهدف سياسي ومن باعث سياسي أيضا .
ولذلك ، فإن الاتجاه العالمي مستقر على استثناء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية أي عدم تطبيقها على المجرمين السياسيين ، وكذلك عدم تعريضهم للعقوبات التي تترافق مع أشغال شاقة أو الحبس مع الشغل في السجون ، فهم يحبسون فقط دون أن يشغلوا ، كما أن المجرمين السياسيين يشملهم العفو أكثر من غيرهم ( في الدول الديمقراطية طبعا )[1] وكذلك فإن أكثر التشريعات تمنع تسليم المجرمين السياسيين .
وكان هذا من نتاج الثورة الفرنسية وتطور النظرة إلى ممارسة الحقوق السياسية والتعامل مع المجرمين ( المعارضة ) السياسيين ، وغيره.
والجدير ذكره ، أن قانون العقوبات السوري أخذ نظريا بكلا المذهبين الشخصي والموضوعي وحاول التوفيق بينهما ، وبالفعل ، فهو استبعد عقوبة الإعدام من التطبيق على المجرمين السياسيين. كما أن الدستور السوري يمنع تسليم اللاجئين إلى سوريا بسبب مبادئهم السياسية أو دفاعهم عن الحرية !!!!
وقد نصت المادة الرابعة من اتفاقية تسليم المجرمين التي أقرها مجلس الجامعة العربية في العام 1952 على : (( لا يجوز التسليم في الجرائم السياسية وتقدير كون الجريمة سياسية متروك للدولة المطلوب إليها التسليم .. وعلى أن يكون التسليم واجبا في جرائم الاعتداء على الملوك والرؤساء أو زوجاتهم أو أصولهم أو فروعهم .. وعلى أولياء العهد أيضا .. والجرائم الإرهابية ..))
أما تعليقي الأخير على ما ورد في هذه المادة من الاتفاقية العربية .. فأقول يا نشامى الحكام العرب .. لا داعي للتسليم .. فكل حكومة عربية ستقوم بالواجب .. وخلي عنكم!!!!!!
اترك تعليقاً