المنازعات التأديبية بالوظيفة العمومية
قلم: صديق عزيز
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
يتحمل الموظف العمومي أثناء تأدية مهامه مسؤوليات عديدة، تحدد جانبا من الإطار العام الذي ينبغي أن يسلكه هذ الأخير في عمله، باعتباره الشخص الوحيد الذي يعبر عن إرادة الإدارة كشخص معنوي(1). فبين المسؤولية الأخلاقية، الجنائية، المدنية و التأديبية يتأرجح أحيانا المركز القانوني للموظف العمومي، الذي لا يحيد عن اعتباره أداة الدولة لتحقيق أهدافها. لهذا أفرد له المشرع وضعا خاصا نابعا من انتمائه لسلك الوظيفة العمومية، التي تضع خدمة المرتفق في قلب اهتماماتها(2).
و لحساسية المسؤولية الملقاة على عاتق الموظف العمومي، أفرد له القانون الجنائي حيزا كبيرا بدءا بتعريفه، إلى تصنيف الجرائم المرتبطة بالوظيفة العمومية و أسباب الإعفاء من الجرائم و ضمانات المحاكمة العادلة لهذا الأخير. كما حدد المشرع المغربي المسؤولية المدنية للموظف المدنية سواء كانت قائمة على خطأ مرفقي أو شخصي. لكن ما يهمنا في هذا الباب، هو إلقاء المزيد من الضوء على مسؤولية الموظف التأديبية التي تختزل علاقة هذا الأخير بإدارته(3).
و تتأسس مسؤولية الموظف التأديبية على خطأ تأديبي -اختلف الفقه و القضاء في تعريفه و كذا تحديده- يقترف في إطار القيام بمهام الوظيفة العمومية، و يدفع الإدارة لإنزال عقوبة توازي أحيانا و تتجاوز أحيانا أخرى مستويات الأخطاء أو الهفوات التأديبية. مما يشكل مسا بالمركز القانوني للموظف و بداية لفصل جديد في علاقة الموظف بالإدارة يصطلح عليه باسم المنازعات التأديبية.
و قد ساهم الحراك الحقوقي و النضال النقابي و المتغيرات الدولية و الوطنية في مجال ترسيخ حقوق الإنسان ثقافة و ممارسة، في تغيير نظرة المشرع و القاضي لعلاقة الموظف بالإدارة خاصة بعد إحداث المحاكم الإدارية التي عملت على التصدي لكل محاولات التعسف و المس بالمركز القانوني للموظف بشكل معيب و خارج عن ضوابط و قواعد المشروعية. فإلى أي حد استطاع القاضي الإداري كبح جماح الإدارة أثناء تأديبها لموظفيها؟ و ما هي حدود الضمانات الممنوحة للموظف في مواجهة الإدارة و ما تتمتع به من سلطة تقديرية في إقرار العقوبات؟.
إن الإجابة عن هذين السؤالين يقتضي منا تخصيص الحديث أولا لعناصر المنازعات التأديبية في الوظيفة العمومية(المبحث الأول)، ثم التطرق لحدود استجابة الإدارة لأحكام و قرارات المحاكم أثناء مواجهتها بالضمانات المكفولة للموظف أثناء التأديب(المبحث الثاني).
أولا: عناصر المنازعات التأديبية بالوظيفة العمومية
تدور في فلك المنازعات التأديبية بالوظيفة العمومية ثلاثة عناصر تتمثل في: الخطأ التأديبي، العقوبة التأدبيبة، و مسطرة التأديب. حيث سنتناول في هذا المحور كل عنصر على حدة.
المخالفة التأديبية(4):
لم يسع المشرع المغربي لتعريف المخالفة التأديبية، و ترك الباب واسعا أمام الفقه و القضاء لإعطاء تعريفات حاولت قدر الإمكان احتواء جل جوانب هذا المفهوم. فقد نصت المادة 17 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية بأن “…. كل هفوة يرتكبها الموظف في تأدية وظيفته أو عند مباشرتها تعرضه لعقوبة تأديبية زيادة- إن اقتضى الحال- عن العقوبات التي ينص عليها القانون الجنائي. و عند متابعة أحد الموظفين من طرف الغير بسبب هفوة ارتكبها في عملهن يتعين على المجتمع العمومي أن يتحمل الغرامات المالية المحكوم بها عليه مدنيا”. فالهفوة أو الخطأ او المخالفة التأديبية حسب الفقه(5) و القضاء، تشمل كل يمكن اعتباره اخلالا ظاهرا من الموظف بواجبات وظيفته، و بما نصت عليه القوانين و الأنظمة سواء كان نشاطا إيجابيا أو سلبيا. و بالشكل الذي يؤثر سلبا في سير خدمات المرفق العام بانتظام و اضطراد.
وإن لم يختلف الفقهاء و القضاة حول تعريف المخالفة التأديبية، فإنهم توقفوا كثيرا عند عدم خضوع هذه الأخيرة لمبدأ شرعية التجريم و العقاب و التأديب، تبعا للمبدأ القائل “لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص”. و بالتالي تمارس الإدارة وظيفة تحديد الهفوات التأديبية و إقرار العقوبات التي تراها مناسبة لردع مثل هذه التصرفات(6).
و قدد حاول الفصل 73 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية قياس الخطأ التأديبي بالهفوة الخطيرة، سواء ما تعلق منها بإخلال الموظف بالتزاماته المهنية أم بجنحة ماسة بالحق العام. فهذه الأعمال المؤاخذ عليها المعنى بالأمر(الفصل 68 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية ) لم يحددها المشرع المغربي، و ترك للإدارية الحرية في تبيانها و تكييفها قانونيا. حيث تضطلع آنذاك بالدور الذي تقوم به النيابة العامة، أثناء إقامة و ممارسة الدعوى العمومية في الميدان الزجري. و من أمثلة المخالفات التأديبية نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
الامتناع عن القيام بالعمل.
عدم الالتزام بمواعيد العمل
اتلاف ممتلكات الإدارة
الإكثار من الإدلاء بالشواهد الطبية بغية التنصل من القيام بالعمل.
التصرفات اللاأخلاقية.
إفشاء السر المهني.
العقوبات التأديبية:
إن العقوبة التأديبية لا تخرج عن إطار اعتبارها بمثابة جزاء قانوني يلحق بالموظف، و يمس مركزه القانوني. ويتخذ عادة شكل حرمان من المزايا المادية و المعنوية المرتبطة بالوظيفة أو إنهاء للمهام مؤقتا أو نهائيا… و تتخذ العقوبة عادة لمنع انحراف سير المرفق العام و السعي نحو تحقيق المصلحة العامة، بالشكل الذي يجعل الموظف في منأى عن الوقوع في الهفوات مرة أخرى.
و قد حدد الفصل 66 من النظام الساسي العام للوظيفة العمومية العقوبات اللاحقة بالموظف، و التي توقعها عليه سلطة التأديب(7)، اعتمادا على مبدأ التدرج حسب درجة خطورة و جسامة الأخطاء المرتكبة من جانبه. و تنقسم إلى ثلاثة أنواع : عقوبات معنوية، عقوبات مادية أو ذات طبيعة مالية ، عقوبات إنهاء الخدمة.
العقوبات المعنوية: تتمثل هذه العقوبات في الإنذار و التوبيخ
الإنذار : هو بمثابة نصح أو توجيه لعدم تكرار خطأ وقع فيه الموظف، حيث أنه بالرغم من بساطة الهفوة التي قوبلت بالإنذار إلا أته قد يكون تمهيدا لعقوبة تأديبية أقسى منه.
التوبيخ: ينظر إليه كلوم توجهه الإدارة للموظف يتضمن تحذيرا بعدم التمادي في ارتكاب الهفوات تحت طائلة تشديد العقاب.
العقوبات المادية أو ذات الطبيعة المالية: تتمثل في
الحذف من لائحة الترقي.
الانحدار من الطبقة: عن طريق إنزال الموظف من درجته الحالية إلى درجة أدنى دون إخراجه من إطاره الأصلي.
القهقرة من الرتبة: أي تخفيض رتبة الموظف الحالية إلى رتبة أدنى.
العقوبات المتعلقة بإنهاء الخدمة: تشمل ما يلي :
العزل دون توقيف حق التقاعد : يترتب عليها حذف الموظف من أسلاك الوظيفة العمومية مع احتفاظه بحق المعاش إذا استوفى الشروط المنصوص عليها في قانون المعاشات المدنية أو استرجاع المبالغ المقتطعة من راتبه لأجل التقاعد، إذا لم تكن تتوفر فيه الشروط التي تخوله الحق في الاستفادة من المعاش .
العزل مع توقيف حق التقاعد: تعتبر أقسى جزاء في هرم العقوبات نظرا لازدواجية أثرها، إذ تضع حدا لمشوار الموظف في الحياة الوظيفية مع حرمانه من حق الاستفادة من المعاش أو من استرجاع المبالغ المقتطعة من الراتب برسم المعاش.
إن العقوبات التأديبية ليس غاية في حد ذاتها، و إنما تمثل وسيلة لتحقيق المصلحة العامة وراء إنشاء المرافق العامة. و تتخذ أولا طابعا وقائيا ثم تتدرج و تتطور لتشكل الية علاجية لردع انحراف الموظف عن الأهداف المسطرة من طرف الإدارة، دون إغفال الدور الإصلاحي الذي يمكن أن تقوم به العقوبة في إطار تقويم سلوكات الموظف و الرفع من كفاءاته المهنية .
مسطرة التأديب:
إن المسافة الفاصلة بين سبب التأديب و محله تخفي العديد من الإجراءات المسطرية التي تشكل في حد ذاتها ضمانات للموظف سواء قبل انعقاد المجلس التأديبي أو أثناءه أو بعده، هذا الأخير الذي تعد قواعد تشكيله من النظام العام ضمانا لحسن سير الجلسة التأديبية (8).
فالبداية تقتضي إعداد ملف تأديبي للموظف مع أحقيته في الاطلاع عليه(9)، مع توجيه الاستدعاءات للمعنيين بالعملية خاصة الموظف الذي يدعى لإعداد دفاعه و دفوعاته. و ينبغي عقد الجلسة التأديبية التي تكون سرية في الزمان و المكان المحددين من طرف الإدارة، شرط توفر النصاب القانوني المحدد في ثلاثة أرباع أعضاء المجلس.
و بعد الانتهاء من الاستماع إلى الموظف أو دفاعه و أعضاء المجلس، و إذا لم تحتج مقتضيات تحقيق الملف للقيام ببحث أو الاستماع إلى الشهود يتم اقتراح الإجراء التأديبي اللازم وفق تراتبية العقوبات المنصوص عليها قانونا(10). و يؤخذ بعين الاعتبار سوابق الموظف التأديبية أثناء اتخاذ قرار إنزال العقوبة المقترحة، و الموافق عليها بالتراضي بين أعضاء المجلس و بعد تعليل قرار اتخاذها تعليلا موضوعيا.
و في هذا الإطار أصدرت المحكمة الإدارية بالرباط حكما بتاريخ 10/1/2007 ملف رقم 417/06غ جاء فيه:” … وحيث لما كان تعيين الطاعن عميدا للشرطة قد تم بموجب ظهير ملكي شريف، فإن عزله لا يمكن أن يتم إلا بموجب نفس الالية القانونية، و اعتبارا لذلك يكون قرار المدير العام للأمن الوطني بالتجسيد الفعلي لعقوبة العزل قبل صدور الظهير من طرف سلطة التأديب التي تنعقد لها سلطة التسمية وفقا لمبدأ توازي الشكليات و الاختصاصات طالما ليس هناك نص يحد من هذا المبدأ أو يضع له استثناءات خاصة بالنسبة للنظام التأديبي الذي يخضع له الطاعن، في حكم القرارات المنعدمة و يتعين التصريح بعدم مشروعيته.”(11).
و لا يمكن توقيع عقوبة أشد من العقوبة المقترحة من طرف المجلس التأديبي إلا بموافقة رئيس الوزراء، حسب مقتضيات الفصل 71 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، حيث قضت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في حكم لها عدد 334 المؤرخ ي 12/12/1996 : ” يكون القرار الصادر عن السيد وزير التربية الوطنية بتاريخ 06/04/1995 مشوبا بعيب مخالفة القانون و هو ما يشكل تجاوزا في استعمال السلطة سيما و أن الفصل 71 من ظهير 24/2/1958 بمثابة النظام الأساسي للوظيفة العمومية ينص صراحة على أنه لا يمكن في أية حال من الأحوال أن تكون العقوبة الصادرة بالفعل أشد من العقوبة التي يقترحها المجلس التأديبي اللهم إذا وافق على ذلك رئيس الوزراء الشيء الذي يستدعي تبعا لذلك التصريح بإلغاء القرار المطعون فيه” . كما أن هناك إمكانية لمحو اثار العقوبة الصادرة في حق الموظف إذا طلب هذا الأخير ألا تبقى مضمنة في ملفه الشخصي(12).
ثانيا: حدود استجابة الإدارة لأحكام و قرارات المحاكم أثناء مواجهتها بالضمانات المكفولة للموظف أثناء التأديب
أمام عدم حصر لائحة المخالفات التأديبية، يكبر هامش الحرية المتروك للإدارة لاتخاذ العقوبة التي تراها مناسبة. ففي ظل غياب رابط أساسي بين سبب و محل القرار الذي سيتخذ من طرف سلطة التأديبية، يتعزز ما يصطلح عليه باسم السلطة التقديرية للإدارة التي منحتها لها النصوص القانونية لتقدير تدخلها تبعا للظروف دون خضوعها لقيود المراقبة.
و تجدر الإشارة إلى أن الإدارة تتدخل بقراراتها إما بشكل يضيق هامش الحرية المتروك لها بسبب دقة ووضوح القواعد القانونية، أو بشكل يوسع من تقديرها في حالة غياب أو غموض النصوص القانونية. إلا أن هامش التصرف الممنوح للإدارة عادة في مجال التأديب كما في غيره من المجالات، ينطوي على سوء تقدير للعقوبة المتخذة قياسا مع الهفوة أو المخالفة التأديبية المرتكبة من طرف الموظف(13). مما جعل القاضي الإداري يتصدى لعدم التناسب بين الخطأ و العقوبة، حيث جاء في حكم للمحكمة الإدارية بالرباط” …و حيث إن للإدارة سلطة تقريرية في اتخاذ العقوبة المناسبة في حق الموظف حسب خطورة الأفعال المنسوبة إليه، و مدى تأثيرها داخل المرفق العام و أن السلطة التقديرية لا رقابة للقضاء عليها ما لم يشبها غلو في التقدير.
و حيث أنه و لئن كان الطاعن قد تجاوز فعلا حدود اختصاصاته باعترافه شخصيا في تصرفه المشار إليه أعلاه مع التلميذ الذي اعتدى على الأستاذة أثناء اجتيازه لامتحان البكالوريا إلا أن معاقبته على هذا التصرف غير اللائق بعقوبة العزل ينم عن غلو في التقدير، إذ لا تتناسب هذه العقوبة بتاتا مع خطورة الفعل المرتكب. مما يكون معه القرار المطعون فيه مشوبا بتجاوز السلطة، و يتعين الحكم بإلغائه.” (14)
لقد ساهم الاجتهاد القضائي في المادة الإدارية في تجاوز رقابة المشروعية الداخلية و الخارجية للقرار التأديبي إلى تطوير أسلوب رقابة جديد، يفحص إلى جانب الشرعية ملاءمة المحل للسبب في القرار الإداري أي الملاءمة بين المخالفة التأديبية و العقوبة التأديبية. بشكل يحد من كل تعسف في توقيع العقوبات مع عدم مراعاة لجسامة الهفوة التأديبية، الشيء الذي أضحى يمثل ضمانة قوية من ضمانات المحاكمة التأديبية العادلة(15). مما يساهم في اقتضاء حقوق الموظف المتابع تأديبيا خاصة في حالات توقيع عقوبات متعلقة بإنهاء الخدمة، و التي تكون عادة بصدور قرارات و أحكام قضائية تقضي بإلغاء القرارات التأديبية نظرا لما يشوبها من عيوب عدم المشروعية. إلا أن أهم عقبة تقف في وجه القاضي الإداري تتمثل في امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به أو التأخر في تنفيذها، مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الجدوى من إقرار قضاء إداري إذا كانت أحكامه و قراراته لن تعرف طريقها نحو التنفيذ أو ستظله، في خضم تعنت الإدارة و غياب وسائل قانونية و قضائية كفيلة بفرض احترام و هيبة القضاء.
إن الملاحظ في العقود الأخيرة هو تزايد عدد القضايا التي تمتنع فيها الإدارة عن التنفيذ أو تتماطل في ذلك، بالرغم من صدور أحكام قضائية حائزة لقوة الشيء المقضي به في مواجهة أشخاص القانون العام من دولة و جماعات ترابية و مؤسسات عمومية. مما يضرب في الصميم حرمة و هيبة و قدسية القضاء، و يزرع الشك في نفوس المتقاضين خاصة، و المواطنين عامة حول فعالية و جدوى القضاء الإداري.
إن عدم تنفيذ الإدارة للأحكام القضائية يعارض بشكل قوي مقومات الأمن القضائي، الذي يعتبر مبدأ دستوريا يرسخ تطبيقه تعزبز ثقة المتقاضين في منظومة العدالة ككل. ” وحيث إن تفعيل التعليمات الواردة في الخطاب الملكي يقتضي من الدولة و الإدارات العمومية و ذوي السلطة احترام الأحكام القضائية عامة و أحكام القضاء الإداري بخاصة مساهمة منهم في استكمال دولة القانون وفقا للإرادة الملكية السامية و التي قال جلالته أننا نريدها و لا نريد ألا تكون إلا هي…..و حيث خلال تنفيذ مقتضيات الأمر المذكور، فإن القائد المعني بالأمر امتنع عن تنفيذ هذا الأمر دون الاستناد إلى أي مبرر واقعي أو قانوني، بل إنه ذهب إلى حد القسم باليمين على عدم الامتثال لمقتضيات هذا الحكم القضائي، وهو موقف بغض النظر عما يمكن أن يترتب عليه من متابعات جنائية يشكل استخفافا بالأحكام القضائية و إخلالا بالاحترام الواجب للسلطة القضائية و قراراتها، فضلا على أنه يشكل عائقا أمام استكمال دولة القانون التي كانت الغاية الأساسية من إحداث المحاكم الإدارية بالمملكة المغربية، الأمر الذي يفرض تدخلنا بصفتنا قاضيا للمستعجلات بجميع الإجراءات القانونية لضمان احترام الأهداف الملكية السامية و لإرجاع الهيبة للسلطة القضائية و إقرار قدسية أاحكامها وحيث أنه بمقتضى الفصل 448 من قانون المسطرة المدنية فإنه إذا رفض المنفذ عليه أداء التزام بعمل أو خالف التزاما بالامتناع عن عمل أثبت عون التنفيذ ذلك في محضر وأخبر الرئيس الذي يحكم بغرامة تهديدية ما لم يكن سبق الحكم بها الأمر الذي يكون معه الطلب مبنيا على أساس قانوني وواقعي سليم ….” (16).
لعل المساهمة في النقاش العمومي المثار بمناسبة تزايد حالات امتناع الإدارة عن التنفيذ أو التأخر فيه، لها ما يبررها خاصة مع الشروع في تنزيل مقتضيات الدستور الجديد الذي أرسى معالم سلطة قضائية جديدة بدماء جديدة. و جاء بدسترة مبدأ الأمن القضائي في الفصل 117 الذي أشار إلى أنه” يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص و الجماعات و حرياتهم و أمنهم القضائي، وتطبيق القانون”.
و بالتالي وجب علينا إلقاء المزيد من الضوء على العلاقة القائمة بين الحكامة القضائية و ثبات تنفيذ الأحكام القضائية خاصة ضد أشخاص القانون العام، من خلال تأمين الأمن القضائي من طرف القضاء، و بالتالي يتعين البحث و التنقيب في المنظومة التشريعية و الاجتهاد القضائي و اراء الفقهاء عن اليات جديدة لضمان إلزام الجميع بتنفيذ الأحكام القضائية خاصة الإدارة.
الهوامش
عرف النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية الموظف العمومي في الفصل الثاني بكونه:” يعد موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة” كما يمكن تعريفه كذلك بكونه “ذلك الشخص الذي يشتغل بوظيفة لها من الحقوق، وما عليها من الواجبات في إطار ضوابط وقواعد قانونية محددة”. د.مليكة الصروخ، النظام القانوني للموظف المغربي، الطبعة الأولى 3777 ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء ص 9.
ذ محمد الأعرج القانون الإداري المغربي الجزء الثاني منشورات مجلةremald 74 مكرر ص 94.
ذ. عادل زروالي عامري المسؤوليات و الضمانات في الإدارة العمومية- الموظف العمومي نموذجا-. رسالة لنيل دبلوم السلك العالي في المدرسة الوطنية للإدارة 2006/ 2005 ص 185 و 186.
أثار الأستاذ عبد القادر باينة في كتابه الموظفون العموميون في المغرب نقاشا فقهيا حول تسمية المخالفة بالتأديبية على اعتبار أن التأديب هو نتيجة للخطأ و ليس سببا له عكس ما عليه الأمر بالنسبة للعقوبة. ص 215-216.
عرفت الأستاذة مليكة الصروخ المخالفة المهنية بكونها “كل فعل أو امتناع يرتكبه الموظف إخلالا بواجبات منصبه إيجابا أو سلبا سواء تلك التي نص أو لم ينص عليها القانون مما يستوجب توقيع الجزاء عليها” كما يمكن تعريفها بكل تصرف يصدر عن الموظف أثناء أداء الوظيفة أو خارجها، ويؤثر فيها صورة قد تحول دون قيام المرفق بنشاطه على الوجه الأكمل، وذلك متى ارتكب هذا التصرف عن إرادة آثمة. د مليكة الصروخ، القانون الإداري ” دراسة مقارنة” الطبعة السادسة، الشركة المغربية، الدار البيضاء2006 ص 71
ذ. علي مكاوي النظام التأديبي في الوظيفة العمومية بين الفاعلية و الضمانات. رسالة لنيل دبلوم السلك العالي في المدرسة الوطنية للإدارة 2007/2008 ص 22.
تتخذ سلطة التأديب صورة النظام شبه القضائي، إذ أن السلطة التي تختص بتطبيق الجزاء هي السلطة الرئاسية أي السلطة التي تملك حق التسمية )التعيين(، ونعني بالسلطة الرئاسية الرئيس الإداري، حيث يوجد الوزير في قمة هرم السلم الرئاسي ، ونظرا للاختصاصات الواسعة التي يملكها الوزير فقد صار أمر توقيع الجزاء بيد الرؤساء الإداريين التابعين له. فأصبح يجري العمل على أن يتولى الرئيس المباشر للموظف سلطة تأديبية عن المخالفات العادية )الإنذار والتوبيخ( وذلك بتفويض من الرئيس التسلسلي ، أما المخالفات الجسيمة فيلتزم الرئيس قبل تطبيق الجزاء باستشارة المجلس التأديبي.
للإطلاع أكثر على شكليات مسطرة التأديب المرجو الرجوع لمقال ذ شايب أناس عبد الاه الضمانات الممنوحة للموظف عند تعرضه للتأديب مساهمة تحليلية. منشور بالمجلة المغرية للإدارة المحلية و التنمية عدد 103 مارس أبريل 2012 ص 73 و ما يليها.
ذهبت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في قرار لها عدد 12 صادر بتاريخ 27 أكتوبر 1994 ملف إداري عدد 91/ 10239 إلى أن :” الفصل 67 من ظهير 24 فبراير 1958 المكون للنظام الأساسي للوظيفة العمومية، يوجب على الإدارة بمجرد فتح متابعة تأديبية أن تمكن الموظف الذي تابعته، من الاطلاع الشامل على ملفه التأديبي و على كل الوثائق الملحقة به قبل المثول أمام المجلس التأديبي، التي تشكل ضمانات ضرورية لتمكين الموظف من الدفاع عن حقوقه و إعداد دفاعه…. يكون القرار الصادر دون مراعاة حق الدفاع قرارا مشوا بالشطط في استعمال السلطة و يستوجب الإلغاء.” قرار أورده ذ شايب أناس عبد الاه في مقاله تحت عنوان الضمانات الممنوحة للموظف عند تعرضه للتأديب مساهمة تحليلية المنشور بالمجلة المغرية للإدارة المحلية و التنمية عدد 103 مارس أبريل 2012 ص 81.
قضت المحكمة الإدارية بمكناس في حكم لها عدد 4/2002/7 بتاريخ 28/2/2002 بأن :”… البحث الذي أجراه هذا المجلس استغرق مدة تزيد عن السنة و ذلك خلافا لما ينص عليه الفصل 70 المشار إليه و الذي ينص على أنه يجب على المجلس التأديبي أن يدلي برأيه في أجل شهر واحد ابتداء من يوم رفع النازلة إليه و يمتد هذا الأجل إلى ثلاثة أشهر عند القيام ببحث.” ذ.أحمد بوعشيق الدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الثاني منشورات مجلة remald ص 163/164.
ذ. محمد أوزيان العمل القضائي في المنازعات الإدارية الجزء الأول ماي 2009 ص 23
ينص الفصل 75 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على أنه:” يجوز للموظف الذي صدرت في شأنه عقوبة تأديبية والذي لم يقع إخراجه من أسلاك الإدارة أن يقدم للوزير الذي ينتمي إليه طلبا يلتمس فيه أن لا يبقى في ملفه أي أثر للعقوبة الصادرة عليه، وذلك بعد مرور خمس سنوات إذا كان الأمر يتعلق بإنذار أو بتوبيخ وعشر سنوات في غير هذه العقوبات. وإذا أصبحت سيرة الموظف العامة مرضية بعد العقوبة الصادرة عليه فإنه يستجاب لطلبه ويبث الوزير في ذلك بعد استشارة المجلس التأديبي. ويعاد تكوين الملف في صورته الجديدة.”
“إصدار عقوية تأديبية في حق موظف ثم إردافها بعد مرور زمن قصير بإجراء نقله لأجل مصلحة عامة دون سبب مصلحي حقيقي يدعو لذلك و لم يمض سوى يوم واحد فقط على تاريخ استئنافه لعمله…. الطعن بالإلغاء” حكم إدارية مراكش عدد 136 بتاريخ 17/10/2001 منشور بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية الجزء الأول ذ . أحمد بوعشيق ص 301.
ذ محمد أوزيان العمل القضائي في المنازعات الإدارية الجزء الثاني دلائل الأعمال القضائية منشورات مجلة الحقوق المغربية ماي 2009 ص 18 و 19.
قضت المحكمة الإدارية للرباط في حكم لها عدد 114 بتاريخ 14 مارس 1999 فريدة بن عصمان ضد الصندوق الوطني للقرض الفلاحي :”… ولئن كان القانون الأساسي لمستخدمي الصندوق الوطني للقرض الفلاحي يدرج النقل ضمن سلم العقوبات التأديبية طبقا للفصل 81 منهن فإن هذه العقوبة يجب أن تكون ملائمة لظروف المستخدم و خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بامرأة متزوجة …إذا كانت للإدارة سلطة تقديرية في اتخاذ العقوبة التي تراها مناسبة في حق مستخدميها، فإنه بالنظر إلى وضعية الطاعنة كامرأة متزوجة، فإن عقوبة النقل تعتبر بالنسبة إليها غير مناسبة لأنها قد تؤدي حتما إلى تشتت أسرة بكاملها و ذلك بالنظر إلى المسافة الرابطة بين سلا و مدينة ابن جرير التي تم نقل الطاعنة إليها” منشور بالدليل العملي للاجتهاد القضائي في المادة الإدارية ذ أحمد وعشيق مجلة REMALD ص 209. كما جاء في حكم أخر لها عدد 265 بتاريخ 20 مارس 1997 بوشبيكي عبد الله ضد المدير العام للأمن الوطني:” .. هو خطأ مهني يستحق عنه الطاعن العقوبة التأديبية المناسبة و التي لا يمكن أن تصل حد العزل التي تعتبر عقوبة متسمة بالمغالاة و لا تتلاءم و الفعل المرتكب مما يبرر إلغاء القرار الإداري القاضي به.” المجلة المغرية للإدارة المحلية و التنمية عدد 21-20 1997 ص 111 و ما بعدها.
حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء ملف عدد 84/1/2008 بتاريخ 26/3/2008 منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 115 يوليوز غشت 2008 ص 168-169.
اترك تعليقاً