استقلالية القضاء: المعوقات وآليات الدعم المتبادل / دكتور كريم شغيدل
ورشة دعم الإعلام لاستقلالية القضاء
استقلالية القضاء: المعوقات وآليات الدعم المتبادل
مقدمة
يعدٌّ مبدأ فصل السلطات الثلاث واحداً من أسس بناء الدولة الحديثة، وتأتي استقلالية القضاء تحديداً بمثابة الباب الأوسع لتجسيد ذلك المبدأ، لما لمؤسسة القضاء من دور فاعل في بناء أسس العدالة الاجتماعية، وترشيد السلطات، وإرساء الثقة ما بين المواطن والدولة، والحفاظ على منظومة الحقوق العامة التي تكفل التعايش السلمي للمجتمع، فإذا كانت الدساتير العراقية المؤقتة، بما فيها القانون الأساسي للعام 1925 قد نصت على استقلالية القضاء بصورة شكلية، فإنَّ أنظمة الحكم بصورة عامة قد سعت عملياً إلى تقوية السلطة التشريعية على حساب القضاء، إذ عانى القضاء العراقي من هيمنة التسييسوالأدلجة على حساب أسس العدالة والآليات القضائية المعمول بها دولياً، وقد شهد تاريخنا السياسي الحديث أمثلة سيئة على التجاوز على سلطة القضاء واستقلاليته وإلغاء دوره وتسخيره لمصالح الحكام، بدءاً من محكمة المهداوي وانتهاءً بالعفو عن عدي صدام حسين بجريمة القتل العمد التي ارتكبها، مروراً بتنفيذ حكم الإعدام بالزعيم عبد الكريم قاسم، ومهازل محكمة الثورة سيئة الصيت، وجمع السلطات القضائية بيد وزير العدل مع كونه تابعاً للسلطة التنفيذية، والمعروف أنَّ الغالبية العظمى من دساتير العالم قد نصت صراحة على استقلالية القضاء، فقد نص الدستور العراقي الحالي في المادة(19) على أنَّ”القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون”كما نصت معظم الدساتير العربية على هذا المضمون، وكذلك ما نص عليه إعلان(بانغلور) من أنَّ”الاستقلال القضائي شرط مسبق لحكم القانون وضمانة أساسية لمحاكمة عادلة.
لذلك على القاضي أن يدعم ويكون مثلاً أعلى للاستقلال القضائي في كل من وجهتيه الفردية والمؤسساتية على حد سواء” وإلى هذا المعنى ذهب الإعلان العالمي لاستقلال العدالة الذي صدر عن مؤتمر مونتريال العام 1983، وقد نص البند الأول من مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلالية القضاء العام 1985 على”تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية” ونص إعلان القاهرة خلال المؤتمر الثاني للعدالة العربية في شباط 2003 على أنَّ” النظام القضائي المستقل يُشكّل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية، وحقوق الإنسان، وعمليات التطوير الشاملة، والإصلاحات في أنظمة التجارة والاستثمار، والتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي، وبناء المؤسسات الديمقراطية” .
لعل القانون رقم(26) للعام 1963 أقر لأول مرة بوجود سلطة قضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد تم بموجب ذلك القانون تشكيل مجلس أعلى للقضاء برئاسة رئيس محكمة التمييز، وهي أعلى مؤسسة قضائية في البلد، وبصرف النظر عن مدى تطبيق ذلك القانون على أرض الواقع، فإنه قد ألغي بموجب القانون رقم(101) في العام 1977الذي جعل القضاء صراحة تابعاً للسلطة التنفيذية، إذ أعيد تشكيل مجلس العدل برئاسة وزير العدل، واستمرت الحال هكذا حتى 18- 9- 2003حيث أعيد تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وقد أقر قانون الدولة العراقية الانتقالي العام 2003 مبدأ فصل السلطات وإنشاء محكمة اتحادية عليا لمراقبة دستورية القوانين، كما تم إقرار ذلك في الدستور الدائم الذي منح المحكمة الاتحادية اختصاصات أوسع، على الرغم من وجود بعض الثغرات التي قد تحدث تعارضاً دستورياً مع اختصاصات المحكمة وصلاحياتها، لاسيما في قضايا الفصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم، والفصل في القضايا الخاصة برئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء.
إذا كان مبدأ فصل السلطات ركناً من أركان بناء الدولة الحديثة فإنه أيضاً يشكل الصورة الحقيقية للديمقراطية والمدخل الرئيس لممارستها وتكريسها، كما أنه يشكل الضمانة الأولى للحفاظ على استقلالية القضاء، إلى جانب عوامل داعمة أخرى، لعل أهمها الولاية المطلقة للقضاء: فنياً وإدارياً ومالياً، بمعنى آخر لا بدَّ من ضمانات دستورية تحول دون تدخل السلطات الأخرى في عمل القضاء، وأن تكون للقضاء حرية اختيار الأساليب والآليات الخاصة بتطبيق الأحكام والنظر في القضايا، كما له آلياته في تعيين القضاة ونقلهم أو توجيه العقوبات التأديبة عند الضرورة، فضلاً عن توافر ميزانية مستقلة ومقرة في الموازنة العامة، ولتعزيز تلك الاستقلالية لا بدَّ من ترسيخ الفكرة ثقافياً واجتماعياً وإعلامياً
1- ثقافياً: يقع الأمر على عاتق المؤسسات العامة، حكومية وغير حكومية، من خلال ترسيخ الفكرة والتثقيف عليها ونشر الوعي القانوني عبر المناهج التربوية والتعليمية، وعبر الأعمال الفنية والإعلام السمعي والمرئي والمقروء، وقد تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً مهماً، كما أنَّ لمظاهر احترام القضاء من لدن مؤسسات السلطة والمسؤولين أثراً في ترسيخ هيبة القضاء واستقلاليته.
2- اجتماعياً: نشر الثقافة القانونية بين فئات المجتمع الأهلي، لاسيما في المناطق ذات الدخل المحدود، التي تعاني من الأمية الأبجدية والثقافية على حد سواء، والتجمعات العشائرية التي عادة ما تكتفي بـ(السناين المتوارثة) بدلاً عن القانون، وذلك بتوظيف بعض شيوخ العشائر المتنورين وخطباء المساجد والدعاة.
3- إعلامياً: يقع الأمر على عاتق مجلس القضاء نفسه، وذلك بإنشاء مؤسسة إعلامية متكاملة للتنسيق والإنتاج، فإن تعذر عليها إنشاء محطات تلفزيونية وإذاعية، فبإمكانها رعاية بعض البرامج الكفيلة بإشاعة الثقافة القانونية، وجعل المطبوعات القانونية في متناول الجميع.
معوقات استقلالية القضاء:
لعل من أولى معوقات استقلال القضاء التدخل غير القانوني ومن ثم تسييسه وتسخيره، والضغط عليه لتوجيه إجراءاته وأحكامه بحسب المصالح الذاتية أو الجهوية، وعادة ما تأتي التدخلات من:
1- المسؤولين الحكوميين.
2- المسؤولين الأمنيين.
3- القوى الحزبية.
4- القوى العشائرية.
5- الوسطاء العدليين من محامين ومعقبين وغيرهم.
6- الهيئات الحكومية.
7-
المعوق الثاني الرشوة والمحسوبية التي قد يكون فيها المحامي أو الموظف العدلي أو القاضي نفسه طرفاً وسبيلاً لها.
المعوق الثالث تقمص دور القضاء من بعض القوى الأمنية، لاسيما في حالات الطوارئ، وتنفيذ أحكام القتل أحياناً مع توافر فرصة إلقاء القبض على المطلوب، أو الضغط على المتهمين لتوجيه إفاداتهم توجهات معينة، فكثيراً ما يعاني المحققون العدليون والقضاة من التناقض في الإفادات، على سبيل المثال.
المعوق الرابع تقمص دور القضاء من قبل القوى العشائرية بحسب(السناين العرفية) المعمول بها، لاسيما سناين الديات وتسليم الجناة، فتسليم الجاني للعدالة أصبح له ثمن يضاف إلى قيمة(الفصل أو الدية) فإن كان لولي الدم التنازل عن الحق الشخصي أو الدية، فليس له الحق في التنازل عن الحق العام.
أما المعوق الخامس فهو تدخل الإعلام بصورة غير منضبطة ومن دون دراية قانونية بعمل القضاء، ذلك أننا نمتلك إعلاماً اليوم يتمتع بحرية غير مشروطة، لكنه يبتعد أحياناً عن المهنية لعدم استقلاليته، فغالبية وسائل الإعلام موجهة حزبياً وجهوياً وممولة تمويلاً مشروطاً، بالعمل لصالح هذا التوجه أو ذاك.
آليات دعم استقلال القضاء إعلامياً:
تتوفر اليوم العديد من الفرص لعقد الشراكات المهنية بين مؤسسات الدولة والمجتمع، لغرض النهوض المتبادل بواقع تلك المؤسسات ومن ثم الخروج بمنافع مشتركة، ونظراً لما تشكله قضية استقلال القضاء من أهمية شاملة تخص بناء الدولة والمجتمع، فإنَّ من الضرورة تقنين العلاقة بين المؤسستين القضائية والإعلامية، وعلى نحو ما نراه في هذه الورقة:
أولاً: ما يخص مؤسسة القضاء:
1- تسهيل المهام الصحفية بالتوفر على المعلومات، وتيسير عملية تدفقها على نحو مهني بشفافية عالية.
2- تشكيل مؤسسة إعلامية فاعلة للتنسيق مع المؤسسات الإعلامية، وإنتاج الوسائل أو الوسائط الإعلامية الكفيلة بإشاعة الوعي القانوني والثقافة الحقوقية. ومنها مثلاً إعداد برنامج أسبوعي تلفزيوني برعاية المجلس يتناول قضايا القضاء والمحكمات المهمة، أو الاشتراك مع بعض شركات الإنتاج الفني لإدخال بعض الثيمات الخاصة باستقلالية القضاء وكشف عيوب ابتلاع السلطة للقضاء، أو بث بعض السبوتات الدعائية.
3- عقد المؤتمرات الصحفية دورياً من لدن القضاة أو أعضاء مجلس القضاء بشأن القضايا القضائية الساخنة التي تثير الجدل، لتوضيح الالتباسات، والكشف عن الدور المشرف للقضاء في حسم بعض القضايا ذات الحساسيات والإشكاليات.
4- تفعيل الدور الرقابي بشأن دستورية القوانين من جهة، ومراقبة الأداء القضائي من جهة ثانية.
5- تفعيل الدور الرقابي للإعلام ومساندته في قضايا الملكية الفكرية وحمايته من ضغوطات بعض القوى وإرهابها الفكري الذي تقيد به العمل الصحفي.
6- إقامة دورات وورش عمل مشتركة مع المؤسسات الإعلامية لغرض تدارس القوانين ونقدها وإزالة الالتباسات الصياغية أو الحقوقية.
ثانياً: ما يخص الإعلام:
1- توظيف المعلومة بطريقة مهنية وبحيادية تامة، من دون توجيه الخطاب جهوياً.
2- عرض المعلومة على نصوص القانون النافذة والتأكد من مطابقتها، أو تناقضها.
3- التقيد أسلوبياً باحترام الجهات والأشخاص وعدم المساس بالشخصية المعنوية للقضاء، وشخصية العاملين فيه، لاسيما القضاة الذين توفر لهم القوانين نوعاً من الحصانة.
4- تخصيص صفحات حقوقية يحررها إعلاميون بمشاورة قانونيين.
5- إبراز المقالات الحقوقية المتخصصة وتسليط الضوء على القضايا التي تثيرها، والتعقيب عليها ومناقشتها.
6- عدم بث المعلومات الخاصة بالقضايا التي لم تكتسب درجة البتات القطعي، وتجنب التعقيب على الأحكام الأولية التي تصدرها المحاكم المختصة.
7- العمل على ربط قضية استقلال القضاء بحقوق المواطنة وبناء الدولة بناء مؤسساتياً، ومن ثم ربطها بقيم العدالة واستتباب الأمن.
8- التأكيد على الحيلولة دون تقمص القوى الاجتماعية والسياسية لدور القضاء، ومن ثم تفشي الجريمة وبقاء الجناة أحراراً لا يطالهم العقاب الشرعي للقانون.
9- التنسيق مع الجهات القضائية والحقوقية لإدخال منتسبي المؤسسات الإعلامية في دورات حقوقية بسيطة لتطوير المعلومات.
10-بث القيم الحقوقية، وتوعية القارئ(المواطن) بأهمية استقلالية القضاء بوصفها حصناً منيعاً ضد مصادرة حقوقه الدستورية المشروعة، وتحصينه ثقافياً من مصادرة تلك الحقوق من القوى المختلفة التي تحاول فرض هيمنتها على مقدرات المجتمع.
11-النظر إلى استقلالية القضاء بوصفها حصناً من حصون النظام الديمقراطي ودولة القانون وحماية الدستور وضمانة الحريات واستحصال الحقوق.
12-التعامل مع القضية على أنها قضية أساسية تدخل في سيرورة البناء الحضاري، وليست مجرد حق دستوري يمكن التغاضي عنه بحسب المصلحة.
13-التعامل مع القضية على أنها وسيلة دفاعية للحيلولة دون طغيان القوى السياسية والحزبية والعرقية والطائفية على حساب الآخر المختلف.
14-النظر إليها على أنها الضمانة الأكيدة لحماية الخصوصيات الفرعية المكفولة دستورياً، وتحصيل الحقوق من دون تمايز جهوي.
15-إنَّ استقلالية القضاء تدعم بشكل وآخر استقلالية الإعلام التي نرى بأنها ما تزال مفقودة على الرغم من توافر الحريات الصحفية، فإذا ما تم تسييس القضاء أو الهيمنة عليه، سيفقد الإعلام أيما حجة في الاستقلال، وسيفقد الركن الأساس من أركان حمايته.
16-إنَّ الإعلام لا يملك سوى سلطة الكلمات غير النافذة، لذلك نجد القوانين تركز على فصل السلطات الثلاث(التشريعية والتنفيذية والقضائي) بوصف ذلك معلماً من معالم الدولة الحديثة والنظام الديمقفراطي، لكنها- أي القوانين- لا تتطرق إلى استقلالية الإعلام الذي يسمى مجازاً بالسلطة الرابعة، ولا تتطرق إلى استقلالية المجتمع المدني الذي يطلق عليه مجازاً أيضاً السلطة الخامسة، لذلك ندعو المؤسسة القضائية لتأكيد ذلك في قوانينها وتشريعاتها.
17-إقامة ورشة عمل لصياغة وثيقة عهد أو ما يشبه ذلك لترويجها بين المؤسسات الإعلامية، تحدد من خلالها الضوابط القانونية والأخلاقية في تناول قضايا القضاء في وسائل الإعلام، بما يحفظ للقضاء هيبته واستقلاليته، ويوفر للإعلام دوراً مهنياً فاعلاً في بث المعلومة بما يخدم المجتمع وينور المواطن بحقوقه، ومن ثم إشاعة قيم العدالة والسلام.
18-إقامة ورشة عمل لترجمة بعض ما جاء في هذه الورقة أو سواها، إلى أعمال فنية وإعلامية، بالتعاون مع بعض المؤسسات الحكومية وغير الحكومية(أفلام وثائقية، أعمال تمثيلية، سبوتات دعاية، بوسترات، برامج تلفزيونية وإذاعية).
19-وما عدا ذلك، يمكن الإفادة من إصدارات مجلس القضاء الأعلى أو بعض المنظمات غير الحكومية والترويج من خلالها لنمط معتدل من الثقافة القانونية بأساليب تربوية، كما يمكن إصدار جريدة متخصصة بالثقافة الحقوقية إلى جانب الجريدة الرسمية(الوقائع العراقية)ومجلة شهرية متخصصة أيضاً، وإنشاء موقع إلكتروني بصلات مباشرة مع المواطنين، وإنشاء خط ساخن لشكاوى المواطنين وتعيين متخصصين للإجابة ومعالجة بعض القضايا.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً