هل القضاء والعدالة صنوان ؟ / فتحي الجواري
حتى لو كنت كناسا اكنس القمامة من الشوارع والازقة ، فإن لي الحق في الكتابة عن القضاء ، لإن القضاء هو وسيلة حمايتي ، وغيري من بني جلدتي ، من الظلم . فأنا وغيري من الناس اصحاب مصلحة عظمى في القضاء .
فالقضاء وسيلته في عمله ، القانون ، والقانون من فروع علم الاجتماع ، وعلم الاجتماع ، علم انساني . فهو اذا مجال مشترك لكل الناس ، حتى ان ردد البعض انه متميز .
لذلك على العاملين في القضاء ان لايتحجروا ، وأن لايجعلوا مهمتهم المقدسة حرفة للحصول على لقمة العيش ، او دكانا لايقربه الا اصحابه . ففوق كل ذي علم عليم ، وان آفاق المعرفة لاتنتهي ، بل انها تزداد وتثرى . وان الرمية الصائبة قد تأتي من غير رام . فلا تغتروا وتأخذكم العزة بما وصلتم اليه وتمثلوا قول المتنبي الذي قاله منذ الف عام :
يموت راعي الضأن في جهله ميتة جالينوس في طبه
وربما زاد على عمره وزاد في الأمن على سربه
شاع في الاسرة القضائية ان حكم المحكمة هو :(عنوان الحقيقة) ، وان التعليق على الاحكام لايجوز الا بعد ان تصبح نهائية ، وغير قابلة لأي طريق من طرق الطعن . بل ان البعض منهم يقول ان التطرق لتلك القرارات لايمكن ان يتم الا من قبل المتخصصين في العلم القانوني وعلى وفق الاساليب التي اتقنها اهل الاختصاص . واتذكر بهذه المناسبة اني نشرت قرارا لمحكمة التمييز كان قد صدر بالاكثرية ، ونشرت الى جانب القرار الراي المخالف . اخبرني احد القضاة بعد نشر ذلك ، ان هيئة المحكمة اعترضت على ذلك وكانت ترغب ان تعلمني بذلك . الا انها صرفت النظر عن الموضوع . استغربت ذلك ، فلم الاعتراض وقد اكتسب القرار درجة البتات ؟ الأني نشرت الرأي المخالف ؟ اليست المجلة مجلة علمية وعلى صفحاتها يدور صدى حوار علمي رصين ؟ هل كان ذلك خشية من ان يقرأ الناس ذلك الرأي المخالف فيقارنوا بينه وبين رأي الكثرية ، فيجدوا ان رأي الاكثرية لم يكن معبرا عن (الحقيقة) ، ولا عن (عنوانها) ؟
ان القول بان حكم المحكمة هو (عنوان الحقيقة) ، بل الحقيقة ذاتها ، وتحريم التعليق عليها . امور تخالف حرية التعبير . فمن اين جئتم ايها السادة بهذه القدسية لقراراتكم ؟ اذا كان المفسرون ومنذ الف عام تناولوا كتاب الله بالتفسير والتأويل ، وابدعوا فنونا في ذلك ، فهل تصدى لهم احد ليمنعهم من التفسير والتاويل؟
وهل نسيتم ان رسولنا العظيم حذر المؤمنين من ان يكون أحدهم ألحن بحجته فيقضى له ، وما يقضى له الا بقطعة من النار ؟
فلماذا تحرمون على الناس ان يعالجوا احكاما اريد بها تحقيق العدل ، رغم ان ذلك العدل لايدرك . فلا يمكن لاي انسان ان يدعي ان ما نطقت به المحاكم هو العدل الحقيقي او الحقيقة . فمن المؤكد ان ما نطقت به المحكمة هو من الامور النسبية التي مثلما تحتمل الصواب تحتمل الخطأ .
فمنذ ان حكم على (سقراط) بان يتجرع السم ، والمحاكم تصدر احكامها بإسم القانون على المخالفين ، والمعارضين ، والمجددين ، وكل من نادى بالحرية والعدالة ، وتزج بهم في السجون ، او تقضي عليهم بالاعدام .
حقا ان القاضي يحكم على وفق القانون ! لكن هل هناك من يجهل ان القانون يسنه بشر معرضون للخطأ ؟ ولهذا يتم تعديلها او الغاءها بعد ان تثبت التجربة قصورها .
بل هل هناك من يجهل أن القانون انما يسن في الكثير من الحالات طبقا لحاجات طبقية او لتلبية مصالح القابضين على السلطة (على رأي الدكتور منذر الشاوي) ، وان الغرض من تشريعها لم يكن الا لتعزيز مصالحها ، وليس لتحقيق العدالة ؟
حتى لو استندت المحكمة في قرارها للشرع الالهي ، فما اكثر مجالات التفسير التي يمكن ان يناقض بعضها البعض الاخر .
اذا فلا يمكن لاحد ان يدعي ان حكم المحكمة هو عين الحقيقة ! الا انه يمكننا ان نقول ان المحكمة طبقت القانون تطبيقا سليما ، او لم تطبقه وتلتزم به . فالمحكمة تؤدي واجبها حين تطبق القانون الذي تجده ينطبق على القضية المعروضة عليها . الا ان المحكمة لن تقترب من الحقيقة، حتى ان قالت ذلك ، ومع ذلك نقول عما قضت به محاكمنا انه (الحقيقة) .
ان اصحاب المصلحة في العدالة هم عامة الناس ، والمفكرون الذين هم لسان الشعب ، وهم الذين يبلورون ارادة الناس ، وهم الذين يحركون الرأي العام ، الذي لابد ان تحترم السلطات ارادته ، وان طال المدى .
ان النواب الحقيقين عن الشعب هم الصحفيون والمفكرون والكتاب الاحرار ، الذي لاينساقون بتأثير التيارات الحزبية ، ولا بالعلاقات الوثيقة التي تربط بين السلطات ( رغم انف مبدأ الفصل بين السلطات) ، والذي غيره احد الزملاء القضاة في احدى المناسبات التي حضرها مسؤولون كبار في الدولة ، الى ( مبدأ التعاون بين السلطات) .
ان حرية التعبير يجب ان تكون مطلقة ، ما لم تتضمن قذفا او ابتزازا ، وان يكون الناس في منأى عن المساءلة ، ان انتقدوا قانونا ، او قرارا قضائيا ، او دستورا ، او سلطة .
يردد المختصون (قداسة القضاء) ، وما يجب ان يحاط به من احترام ، وما يجب ان يظفر به من هيبة ، بغض النظر عن دوافع القاضي ، واسلوب عمله القضائي ، وعقيدته الدينية ، والمذهبية ، والفكرية ، وبواعثه واتجاهاته الشخصية . فكل تلك المؤثرات التي قد تؤثر في قرار القاضي ، يعدها البعض مناطق محرمة ، ليس لأحد ان يقترب منها ، او يحوم حولها ، والا كان كالراعي (يحوم حول الحمى) .
صحيح جدا احترام هيبة القضاء (كسلطة) ، والقضاة (كأفراد) ، فتلك من الامور التي لابد منها ، لكي يتم احترام سيادة القانون ، ويبقى ميزان العدالة مستويا، قويما ،يمسك به قضاة مطمئنون الى حفظ كرامتهم بين مواطنيهم ( رضوا بالاحكام التي اصدروها ام لم يرضوا) .
فقد قيل ان القضاة هم (سدنة العدالة) ، الا ان هذا لاينفي ان السدنة شيء ، والعدالة شيئ آخر ، اما الذين يعملون باسم العدالة ، فما يجب عليهم هو الحرص على التثبت من مقتضياتها . فكلما وفقوا في ذلك استحقوا تقديرنا ، وقد يخطئون ، وهم بشر ، وجل من لايخطيء . لذلك يخطأ من يقرن القضاء بالعدالة ، وبالتالي اذا طالبنا ان تكون للقضاء هيبة ، فهل للعدالة نفس تلك الهيبة ؟
ارى ان العدالة تتنافى ومنطق (الهيبة) ، فالعدالة تعني ان لصاحب الحق (قولا) يجب ان نسمح له ان يجهر به . العدالة لاتعني الا (الحق) . اما سلطات الدولة (ومن بينها القضاء) ، فهي تبحث عن الهيبة ، وبث القبول في قلوب الناس . اما منطق العدالة فان هذا يتعارض ومفاهيمها . اني في الوقت الذي لااقر اي هجوم او مساس بأشخاص القضاة ، او أسرار مداولاتهم ، وخلفيات اصدارهم لقراراتهم ، مقدرا الجهد الذي يبذلونه . الا اني في الوقت نفسه لااقر منع الناس والصحف من مناقشة ما اصدره القضاء من قرارات ، فالامر لايتعلق بشخص القاضي ، ولكن بالحكم الذي اصدره ، الذي لم يكن ، ولن يكون ، ملكا للقاضي . فما اصدره القاضي من قرارات واحكام ، تقوم حتما على اسس وحيثيات ، وهو قد يخطيء في تقديره لتلك الاسس ، بل وفي فهمها وادراكها احيانا ، فتتصدى له محكمة اعلى درجة منه ، لتصحح مساره ، ولكن هل بلغنا الحقيقة حتى في هذا التصحيح ؟
التحية الحقيقية للقضاء هي عندما يهتف المتقاضون (يحيا العدل) .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً