عن فيتو الفقهاء في العراق! / عبدالحسين شعبان
في العديد من البلدان هناك مايطلق عليه القضاة الجالسون والقضاة الواقفون … الأولون هم من لهم الولاية الحصرية في اصدار الاحكام
لم ينجح البرلمان العراقي للمرّة السادسة خلال الأشهر التسعة الماضية من التصويت على مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا، وذلك على خلفية الجدل المحتدم والاستقطاب المتّصل بشأن منح أربعة فقهاء إسلاميين حق النقض “الفيتو” ضد أي قرار يعتبرونه لا يتطابق مع الشريعة الإسلامية.
اتجاهان أساسيان تبلورا منذ عرض فكرة المشروع على البرلمان، الأول يريد إضفاء مسحة دينية على الدولة ومؤسساتها كجزء من صراعه على مراكز النفوذ، ولا يهمّه إن تحوّلت المحكمة، هذه المؤسسة الدستورية والقانونية والقضائية الرفيعة المستوى إلى مؤسسة أقرب للإفتاء الديني، أو للإفتاء الطائفي، وخصوصاً حين تكون خاضعة لتوجيهات رجال الدين ومن ورائهم الأحزاب الدينية التي ستقوم باختيارهم، حيث ستكون سلطاتهم فوق السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبإمكانهم إبطال وتعطيل أي قرار للمحكمة ذات الاختصاصات الواسعة والمتشعّبة.
يسعى أصحاب هذا الاتجاه المتنفّذ والذي يهادنه كثيرون عبر سياسة القضم التدريجي إلى تديين الدولة المدنية، لا سيما وقد شهدت خلال السنوات المنصرمة عدداً من الخطوات على هذا الصعيد الديني، ذي البعد المذهبي، حيث يتم تسخير الأجهزة الأمنية والخدمية في عدد من المناسبات الدينية لحماية مسيرات وطقوس خاصة، كما يتم تعطيل الدوام الرسمي لعدّة مرّات ولعدّة أيام في السنة وارهاق مرافق الدولة المختلفة، الأمر الذي عاظم من هدر المال العام وخفّض الانتاجية المنخفضة أصلاً، ناهيكم عمّا يثيره من حساسيات بين الطائفتين الاسلاميتين.
ويبرر أصحاب هذا الاتجاه موقفهم بالاستناد إلى الدستور، الذي كرّس في ديباجته إعلاء شأن “القيادات الدينية” و”المراجع العظام” فضلاً عن اعتبار الإسلام “مصدر أساس للتشريع” وعدم جواز سنّ قانون يتعارض مع ثوابت أحكامه. (المادة الثانية). وإنْ كانت الشريعة وأحكامها غير قابلة للتحديد، وهي عرضة للتأويل والتفسير، على أيدي الفقهاء ومدارسهم.
أما الاتجاه الثاني فهو الذي أخذ يتخوّف من اتساع نفوذ الاتجاه الأول، ويعتقد أن خط الدفاع الأخير عن الدولة المدنية، هو القضاء والمحكمة الاتحادية، وإذا ما جرى تديينها أو تطييفها صوب اتجاه معين، فإن الهيمنة المذهبية ستكون شبه كاملة. وهذا الاتجاه داخل البرلمان يمثل الأقلية قياساً بتوازن القوى السائد، لكن بعض الأصوات أخذت ترتفع خارجه، مثيرة مخاوف فئات اجتماعية مختلفة ومتنوعة بما فيها لبعض “الأقليات” أو ما نطلق عليه التنوّع الثقافي. كما شارك في نقد مشروع القانون حقوقيون وأكاديميون وبعض نشطاء المجتمع المدني، فضلاً عن يساريين وعلمانيين من توجهات مختلفة.
لعلّ القلق مشروع وواقعي بسبب ما وصلت إليه حالة العراق في ظل الممارسات الطائفية والقسمة المذهبية والمحاصصة الوظيفية حيث يستمر الشحن المذهبي، واللهاث وراء المكاسب والامتيازات ويستمر الارهاب والعنف والشعور بالتمييز، وكلّها عناصر غير مشجعة على استعادة الثقة المتزعزعة بين الفرقاء.
إن خطوة من قبيل منح الفقهاء الإسلاميين حق النقض “الفيتو” ستكون إشارة مهمة على الإصرار في المضي في طريق الدولة الدينية، بل ستكون القوى الدينية بنجاحها في فرض هذا التوجّه قد قطعت شوطاً بعيداً بذلك، يصعب العدول عنه أو تغييره.
مثل هذا الأمر سيجعل المحكمة الاتحادية العليا باختصاصاتها الواسعة عرضة لتحكّم فئة رجال الدين والقوى الدينية، وخطورة المسألة ناجمة عن الدور الذي مناط بالمحكمة الاتحادية، فهي المختصة بالرقابة على دستورية القوانين وتفسير نصوص الدستور والبت في التنازع بين القوانين الاتحادية، وكذلك البت في التنازع بين الحكومة الاتحادية والحكومات الاقليمية، كما أن مهمتها هي البت في نزاع حكومات الاقاليم والمحافظات، ناهيكم عن البت في الاتهامات التي توجّه إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء. ومن جهة أخرى تصادق على نتائج الانتخابات وتفصل في النزاع بين القضاء الاتحادي وقضاء الأقاليم والمحافظات، وذلك حسب المادة 93 من الدستور العراقي الدائم (النافذ) المُستفتى عليه يوم 15 تشرين الأول (اكتوبر) 2005.
وبطبيعة الحال فإن إخضاع المحكمة الاتحادية باختصاصاتها المذكورة، لحكم الفقهاء سيعني وضع الدولة العراقية بكيانياتها وسلطاتها الثلاث تحت تصرفهم ومن ورائهم الحركة الدينية. وعلى الرغم من اضطرار التوجه السائد لتخفيض سقف مطالبه باقتراح أربعة فقهاء بدلاً ستة من حيث كان توزيعهم (4 شيعة تختارهم مرجعية النجف و2 سنّة يختارهم الوقف السنّي). لكنه تم الاحتفاظ بدورهم السامي، حيث سيكون قرارهم نافذاً بأغلبية 3 فقهاء لإبطال وتعطيل قرار المحكمة الاتحادية.
وإذا افترضنا حسن النية، وأن الأمر ليس مُبيّتاً من لدن الأطراف السياسية الدينية، فلماذا الإصرار على وجود الفقهاء، في محكمة قضائية عليا؟ علماً بأن غالبية المنازعات التي تعرض على المحكمة الاتحادية العليا، تخص القانون العام ومبادئ القانون الدستوري، وهي غير معنيّة بالقانون المدني أو قانون الأحوال الشخصية، لكي تتذرع هذه القوى التمسك بمقاعد الفقهاء الاسلاميين.
وفي العديد من البلدان هناك ما يطلق عليه القضاة الجالسون والقضاة الواقفون، الأولون هم من لهم الولاية الحصرية في إصدار الأحكام، أي أنهم مجازون وحصلوا على شهادات أكاديمية ولديهم تأهيل (خريجو معاهد قضائية وتمرسوا في هذا المجال) ومارسوا القضاء وعُرفوا بحيادهم ونزاهتهم وغير ذلك، في حين أن مهمة القضاة الواقفين هي تعضيد وتعزيز الحكم القضائي بتقديم المشورة، ولا يحق لهؤلاء الاعتراض على الأحكام أو اتخاذ قرار بالفيتو أو ما شابه ذلك، لأن الولاية هي للقضاة الجالسين وليس لغيرهم.
إن المشكلة الأولى والأساسية هي في الدستور الذي بسبب “التوازن غير المتوازن” فيه، طفت مثل هذه الأمور على السطح، وسبق لنا أن أطلقنا عليه خلال مناقشتنا لحيثياته “الدستور غير الممكن دستورياً”، فمن جهة اعتبر الشريعة مصدراً أساسياً للتشريع وعدم سنّ أي قانون يخالف أحكامها(المادة الثانية). ومن جهة أخرى وفي المادة نفسها، أكدّ على عدم جواز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، وكذلك عدم جواز تعارض أي قانون مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في الدستور (وهو تناقض صارخ لاسيما لو حصل الخلاف بينهما في التأويل أو التفسير).
وبخصوص المحكمة الاتحادية كان الدستور قد أشار في المادة 92 (ثانياً) على أن المحكمة “تتشكل من عدد من القضاة، وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون” وهو الأمر الذي يتعكّز عليه أصحاب الاتجاه الأول في قراءة وتفسير للنص.
وحتى الآن فإن آلية اختيار القضاة الـ 17 الذي تم اقتراح عددهم، قد تخضع إلى المحاصصة أو ما يسمى مجازاً “التوافق”، الأمر الذي سيؤثر على استقلالية القضاء باعتبار المحكمة “هيئة قضائية مستقلة مالياً وإدارياً” حسب المادة 92 (أولاً).
وإذا كانت ثمة خشية لدى بعضهم على الإسلام حيث راح يتشبث بموقع متميز للفقهاء يمنحهم بموجبه حق الفيتو، فمثل هذه الخشية غير واردة بل وغير واقعية، فالدولة المدنية العراقية، وبغض النظر عمن حكمها طيلة الثمانين عاماً ونيّف الماضية قبل الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، لم تشرّع أي قانون يتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي يبدو أن التعكز عليه هو بمثابة شماعة بوجه أي قرار أو قانون لا يتوافق مع بعض المصالح الحزبية أو الطائفية الخاصة. وإذا كان البعض يحاجج بقانون رقم 188 بشأن الأحوال الشخصية وحقوق المرأة في العهد الجمهوري الأول (حكم عبد الكريم قاسم) فإن المسألة خضعت للتفسير والتأويل أيضاً.
من حق المحكمة أن تستشير خبراء بصفة دائمة أو مؤقتة أو في حالات معينة، وعندها سيكون رأي الخبير ليس كرأي القاضي، وهذا الأخير هو صاحب القرار، وهكذا فإن رأي الخبير (في الفقه الإسلامي أو في القانون) سيكون غير ملزم حتى وإذا أخذنا بنص المادة 92 التي اعتبرت المحكمة تتكون من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي وفقهاء القانون…!
إن استقلال القضاء وفصل السلطات وتداولية السلطة سلمياً هو المدماك الأساس الذي لا غنى عنه للدولة العصرية، ولا يمكن تحت أي حجة أو ذريعة إعطاء رجال دين سلطات فوق سلطات القضاء أو تعطيل سير عمله واختصاصه، لتكييفه مع رأي هذا الفقيه أو ذاك، مهما أوتي من علم ومقدرة ودراية وخبرة، سواء كانت باسم “تشخيص مصلحة النظام” أو “ولاية الفقيه” أو “مجلس قيادة الثورة “كما كان سابقاً أو غيرها، فالأمر ليس سوى التغوّل على دور القضاء واستقلاله، فالقضاء هو أحد أهم أعمدة الدولة القانونية وحصنها الأمين، وستكون محاولة مثل تلك التي تريد اعطاء حق الفيتو للفقهاء مجاراة لفرض توجه سياسي أو مذهبي على مفاصل الدولة الأساسية، أقرب إلى اغتصابها من أي شيء آخر.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً