كيف نثبت استقلال القضاء / للقاضي سالم روضان الموسوي
تسعى الفئات المتنافسة في عالم السياسة إلى توظيف كل ما يتوفر لها من فرص تسوقها كبضاعة تدعم فيها طروحاتها ، فبعضها يسعى إلى استخدام المواقف السياسية والحوادث الاجتماعية وسلطات الدولة في تعزيز موقفه وتجيير الانجاز كسبا لها، والبعض الآخر يوظف الإخفاق والتأزم السياسي أو الحاجة الاجتماعية لتسقيط الخصوم . وفئات أخرى تعمل على اللعب في كل الممكنات بما فيها الثوابت الاجتماعية والسياسية ذات الصلة بدوام كينونة الدولة ووحدتها . ويعد القضاء من أهم تلك الثوابت وواجب احترامه واحترام استقلاله التزام على الجميع بموجب القواعد الدستورية والأخلاقية ، فضلا عن الالتزام بتوفير كل السبل من اجل دعم هذه ألاستقلاليه، ليس لأنه مفصل من مفاصل تكوين الدولة بوصفه السلطة الثالثة، وإنما لكونه حق يتعلق بالإنسان ، فهو من حقوق الإنسان الأساسية، التي أقرتها الشرائع السماوية والوضعية بما فيها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان . وفي الآونة الأخيرة، عندما احتدم الصراع السياسي بين أطراف العملية السياسية في العراق، اخذ الجميع يتعرض إلى القضاء بين من يوحي إلى أن القضاء متناغم مع تطلعاته ويخلق التصور في ذهن المواطن انه تحت عباءته ويجيير عمله الحيادي إلى جانبه وبين مشكك في استقلاله ويساير خصمه في خلق الصورة عن عدم الاستقلال في ذهن المواطن ، والطرفان يختصمون في المصالح ويتفقون على إقحام القضاء في معاركهم السياسية . ثم تخرج الأصوات وتنادي إلى وجوب إثبات أن القضاء مستقل وهذه الأصوات تكون عادة من ذات الجهات المتصارعة ويضعون اللوم على السلطة القضائية لأنها لا تسهم في استعراضاتهم الإعلامية ولا ترد على المشككين في استقلالها، لذلك اقتضى أن أوضح الأمر المتعلق بهذه النقطة وعلى وفق الآتي :-
اولاً: ان السلطة القضائية يتجلى عملها في الفصل في المنازعات والخصومات بين الأطراف المتخاصمة وعلى وفق مقتضى القانون فضلا عن تطبيق القانون على من يخرق ويرتكب فعلا جرمه القانون و من شروط صحة الأحكام القضائية التي تصدرها تشكيلات السلطة القضائية هو العلانية في جلسات المحاكمات او المرافعات في الدعاوى المدنية، وبذلك أتاح المشرع الفرصة للجميع في الإطلاع على ما يدور في مجمل العمل القضائي وعلى وفق مبدأ الشفافية الذي يفتقده اغلب المشككين في استقلالية السلطة القضائية وحيادية الأحكام الصادرة من المحاكم، وهذه العلانية أفضل وسيلة للإعلان عن صواب الإجراءات القضائية تجاه أي طرف من أطراف الدعوى مما لا يحتاج معه إلى إيجاد مدافع عبر الإعلام عن هذه الأحكام أو الإجراءات .
ثانيا: إن السلطة القضائية لديها مركز إعلامي متخصص في الإعلام القضائي ولديها وسائل مهمتها المساهمة في إعلام الجميع بما يوجب إعلانه وبوسائل متعددة، فضلا عن الموقع الالكتروني على الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنيت) إلا أن مهمة هذا المركز والناطق الإعلامي باسم السلطة القضائية أو الناطق باسم المناطق الاستئنافية و بحكم اتصاله بالعمل القضائي ليس من مهامه الدخول في السجالات الجارية او المخاصمة مع المشكك، لان القضاء لا يكون خصما لأحد ولن ينجر إلى مخاصمة احد بحكم عمله القضائي، لأنه لو خاصم لفقد حياديته تجاه الجميع وإنما تنحصر مهمة المركز الإعلامي او الناطق باسم السلطة القضائية أو الناطق باسم المناطق الاستئنافية على توضيح الحقائق التي فيها لبس أو غموض فهو يعرض الحقيقة كما هي، واقصد بذلك الحقيقة القضائية ولا يستطيع أن يعطي رأي في قضية ما زالت قيد التحقيق أو المحاكمة، مثلما لا يستطيع التعليق على صحة الحكم الصادر من عدمه لان الأحكام عند صيرورتها باته تكون عنوان الحقيقة ولربما ليس الحقيقة بذاتها .
ثالثا : إن العمل القضائي له خصوصية تختلف عن كل أعمال السلطات الأخرى، إذ من الممكن للموظف أو المسؤول في أي مفصل من مفاصل الدولة أن يصدر أمراً أو يتخذ قراراً ثم يعدل عنه، كذلك في الجانب التشريعي للمشرع أن ينجز تشريعا ثم يعدل عنه بتعديل أو إلغاء . أما القرار أو الحكم القضائي الذي يصدره القاضي لا يمكن له أن يرجع عنه أو يعدله إلا وفق مقتضى القانون بالطعن فيه من المتضرر أو المحكوم عليه .
رابعا : إن من أهم عوامل استقلالية القضاء ما يتوفر عليه من ضمانات للمواطن سواء المحكوم عليه او المحكوم له، إذ وفر القانون سبعة طرق للطعن في القرار القضائي من مرحلة الاعتراض على الحكم الغيابي إلى طريق الطعن لمصلحة القانون وإعادة المحاكمة والتمييز وتصحيح القرار التمييزي والاستئناف واعتراض الغير والطعن في قرار محكمة الجنح لدى محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية وكل طريق من هذه الطرق يتوفر على عناصر الاطمئنان للجميع، لان القاضي المنفرد سينظر قراره المطعون فيه ثلاث قضاة من ذوي الأصناف المتقدمة وهؤلاء لربما قرارهم يخضع للطعن فيه أمام هيئة خماسية أو موسعة او عامة من جميع أعضاء محكمة التمييز الاتحادية . وبذلك فان القرار القضائي قد تحصن تجاه كل الشكوك في عدم حيادته، لان تعدد مراحل الطعن وعدد القضاة الذين ينظرون فيه لا يدعوا مجالا للظن بأنهم على لون واحد في التفكير والاستقراء للنصوص القانونية أو إنهم يعملون باليات تفكير في تكييف الوقائع تجاه النصوص بنمط واحد .
ودليل ذلك حالات النقض والفسخ للأحكام التي تصدرها المحاكم الأدنى درجة من جهات الطعن وهذا التنوع في درجات الطعن وعدد القضاة سبيل المواطن في بناء قناعته تجاه استقلالية القضاء ، ولم يرد في هذه الطرق ما يشير إلى أن الجهاز الإداري المشرف على عمل المؤسسة القضائية له حق النظر في الأحكام القضائية التي يصدرها القاضي أو المحاكم على مختلف درجاتها، أي أن المسؤولون على إدارة الجهاز الإداري سواء كانوا رئيس مجلس القضاء الأعلى ورؤساء الاستئناف أو رؤساء المجمعات القضائية، لا يقوى على ان يتدخل في عمل القاضي المتعلق بالجانب القضائي والتصدي للأحكام . وهو على خلاف ما موجود في بقية السلطات التي يهيمن فيها المسؤول الأول او الذي يليه على قرارات الجهة التي يتولى إدارتها .
خامسا : لكل شخص يظن إن القرار القضائي قد مس حقوقه كفل له القانون والدستور حق الطعن في ذلك القرار أمام جهة قضائية اعلي وستفصل فيه على وفق مقتضى القانون واجتهادها القضائي . لكن ما يحدث إن البعض يتجه نحو مطالبة المسؤول الإداري المشرف على عمل السلطة القضائية إلى التدخل في تلك الأحكام ويعد ذلك جهلا من هؤلاء البعض في طبيعة العمل القضائي، وهو ما يسعى لتوضيحه المركز الإعلامي للسلطة القضائية وكذلك الجهد الإداري في توضيح الحقائق وبيان طرق الطعن القانونية من خلال النشرات القضائية والأبحاث والمقالات والدراسات والمساهمة في الندوات والمؤتمرات والحوارات التلفزيونية وسواها . والبعض الأخر يعلم تلك الحقائق إلا انه يسعى للتزييف والتظليل وتوظيفه تجاه قصد في ذهنه متعمدا نحو التشكيك غير المبرر عندما لا يتوفر على الحجة القانونية تجاه مركزه القانوني في قضية تحقيقه أو دعوى مدنية .
ومن خلال ما تقدم نجد ان القضاء بسكوته عن مجاراة هؤلاء في وسائل الإعلام هو الدليل على استقلاله لأنه لا يعتمد على الكلام المنمق بزخرف القول، وإنما على الحقائق التي تقيد حريات البعض أو حتى تنال من حقهم في الحياة وعلى وفق مقتضى القانون وأحكامه القضائية التي هي الفيصل في قول الكلمة تجاه هؤلاء .
وكان القضاء، منذ أن عرف الناس وجهه الابيض الناصع ، محلا للطعن والتعريض ولم يسلم من النقد والتجريح مثلما لم يسلم أهل الحكمة منهم ايضاً ، لان القضاء وظيفة الأنبياء وهاجس الحكماء، ولا أرى أن يقف هؤلاء عن ديدنهم في ذلك ما دام القضاء محافظا على استقلاله الحقيقي ، لأنه لا يرى فيهم تميزا لأحد على الأخر فالجميع أمام محراب العدالة سواء وميزان التفريق بينهم حجتهم في دعم مطلبهم سواء كان جاني او مجنى عليه ، مدعي او مدعى عليه لكن أرى في الفعاليات الاجتماعية والشعبية هي من تنتصر لحق المواطن في وجود القضاء المستقل وحمايته من الخرق والاعتداء عليه وتدافع عنه وترد على المشككين فيه .
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً