الحــــاجـــــة إلـــى القانــــون
أحد أهم المشاكل التي تواجه العالــــم البشري هو حالة التصادم الذي تعيشه المجتمعات في كيانها نتيجة التباينات في المصالح والأفكار والتي تضعها أمام الأزمات التي تعصف بها وتهزّ أركانها وأسسها وقد تقودها نحو الحرب، وهذا يعني أن تكون هذه المجتمعات هشّة وضعيفة وسهلة الانفراط والوقوع في الطريق المسدود الذي لا ينفتح أمام العدل والسلام والاستقرار التي هي من أهم أماني واحلام البشرية.
ولا شكّ فإن تلك الأنانية المفرطة التي تلازم الإنسان هي التي تجعله متمسّكاً بمصالحه الشخصية والذاتية مهما كانت الظروف والنتائج والسبل التي يختارها لتحقيق أطماعه. ولا ننسى أن معظم الحروب وقعت نتيجة لذلك الشّره البشري الذي لا يعرف حدوداً وقيوداً لإشباع رغباته ونزواته. والتاريخ لازال يئن ويتألّم نتيجة لذلك الظلم المتراكم عبر تجاوزات إخترقها الطغيان البشري ليعتدي على حريات الآخرين ويلتهم حقوقهم.
ولكي يتم فك التشابك والإختلاف الذي قد يحصل بين أفراد المجتمع ووضع حد لأولئك الذين لاتقف أطماعهم عند حد، كان لا بدّ من وجود معايير ومبادئ يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك الاجتماعي وفك التصادمات والحفاظ على الحقوق المشروعة لكلّ فرد. ذلك أن الإنسان «كائن اجتماعي بفطرته وطبيعته لا يستطيع أن يعتزل الناس لأنه عاجز بمفرده عن الوفاء بحاجياته وذلك يستتبع وجود علاقات عديدة بين أفراد المجتمع وهي علاقات لا يمكن أن تترك فوضى ينظمها كل فرد وفق رغبته ومشيئته، لذلك لا بدّ من وجود قواعد موضوعة تهدف إلى إقامة التوازن بين الحريات المتعارضة والمصالح المتضاربة محققة بذلك العدل والإستقرار»(1). فهذه العلاقات الاجتماعية المعقّدة والمتشابكة تفرض وجود ضوابط تستوعب التناقضات المتداخلة والمصالح المتعارضة، فكلّ فرد يرى أن لحريته وحاجياته الأولوية وهذا لا شكّ سوف يؤدي إلى الصدام إن لم توجد هناك مبادئ تبلور مفهوم الحرية كسلوك ونظام اجتماعي رادع لفك التداخل، والإنسان الذي تحرّكه النوازع الفردية والحاجات الاجتماعية لا يخضع تلقائياً للنظام بل لا بدّ من عملية ضبط اجتماعي تحتوي نزعة الإنسان الفردية في النظام الاجتماعي العام. ومن هنا فإن «النظام في المجتمع ليس سلوكاً غريزياً ولا تلقائياً ولكنه ينجم عن الضبط الاجتماعي ويتوقّف عليه»(2).
إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما أطلق عليه اسم (القانون) حسب الإستعمال الاكاديمي الحديث والذي يرادف مصطلحات أخرى أيضاً التي تطابق في معانيها كلمة القانون وتبحث عن غاية واحدة وهي التنظيم الاجتماعي. لذلك يعد «القانون من أهم وسائل الضبط الاجتماعي بل هو الوسيلة الأساسية التي يعتمد عليها المجتمع المنظّم في ضبط سلوك أفراده»(3). ويرى أحد الباحثين وهو روسكو باوند: «إن القانون هو علم الهندسة الاجتماعية الذي يتحقّق من خلاله تنظيم العلاقات الإنسانية في المجتمع المنظم سياسياً أو الضبط الاجتماعي عن طريق الإستخدام المنهجي المطرد لقوّة المجتمع المنظم سياسياً»(4). فالقانون حسب الآراء التي مرّت يقوم بدور أساسي في حفظ لحمة المجتمع والحفاظ على استقراره وتماسكه عن طريق توفير العدالة والأمن والحرية، عبر الإلتزام بالنظام والقواعد التي تأمر بها السلطة العليا.
ولكن يبقى هذا الكلام على المستوى النظري أما على المستوى العملي هل يحقّق القانون تلك الأهداف التي يتوخّاها واضعوه، وهل أنّ التركيبة التي يشتمل عليها القانون من قواعد أسس قادرة على تحقيق تلك الاهداف..؟
الواقع العملي أثبت عدم قدرة الكثير من الدساتير الوضعية على تحقيق تلك المثل العليا بل إنها في بعض الأحيان أدت إلى تصاعد الظلم والفوضى والاستغلال والعبودية خاصة عندما يتعلق الأمر بسلطة مستبدّة؛ وهذا الأمر يرتبط بالجوهر الذاتي للقانون الوضعي ومفهومه المعنوي ولا يتوقف على الكيفية السليمة التي تتم في تنفيذه، باعتبار أن واضع القانون هو نفس الإنسان المتحيز إلى اعتباراته الخاصة ومصالحه الشخصية وخضوعه لظروف الزمان والمكان المحدودة مهما كان هذا الإنسان نزيهاً أو محايداً، ولذا فان مفهوم العدل هنا لا يكون إلا نسبياً وضيقاً يراه واضع القانون من خلال زاويته البشرية الضيقة. والعدل بمفهومه الشمولي والاستيعابي غير المحدّد وغير المتحيّز والقادر على توفير تلك الاهداف العليا لا يتحقّق إلا من واضع يمتلك تلك الخصوصيات، ومن هنا يتميز القانون الإلهي بأنه أقدر على تحقيق العدل والأمن والاستقرار والحرية باعتباره يمتلك الموضوعية المحايدة في التشريع والتقنين.
والمشكلة الأساسية التي تواجه العاملين على تطبيق الشريعة الإسلامية باعتبار أنها تستند على الرسالة السماوية في قوانينها تتجلى في أمور منها:
1) الإعراض عنها والتمسّك بالقوانين الوضعية التي أفرزتها الحضارة الغربية المعاصرة بعد أن نادت بفصل الدين عن الدولة.
2) والتطبيق السيء الذي قامت به بعض الدكتاتوريات في استغلال الدين كواجهة لتحكيم سلطاتها الاستبدادية المطلقة.
3) وعدم وجود صياغة حديثة لبعض القوانين الإسلامية التي لازالت بنفس الاسلوب القديم أو في إطار الكليات التي تحتاج إلى تطبيق دقيق على مصاديقها، وهذا الامر يؤدي إلى عدم استيعابها وفهما بشكل واضح.
كلّ هذه الاسباب جعلت المرجع الديني الكبير الإمام السيد محمد الشيرازي يقوم بعمله العظيم في دراسة القانون وصياغته وفق التشريع الإلهي لإعطاء الشريعة الإسلامية وصورتها الأصيلة في كونها شريعة قادرة على تحقيق المثل الإنسانية العليا.
وهذه ليست اول انطلاقة مبدعة للإمام الشيرازي في تجديد الفكر الإسلامي وصياغته بأسلوب حضاري جديد يتناسب مع المستجدات والمتغيرات الكبيرة، فقد كتب سماحته عن السياسة والاقتصاد والحقوق وأبواب كثيرة أخرى، وجاء كتاب [الفقه القانون] لتتويج أعماله الفكرية المبدعة. ولا شكّ فإن قراءة هذا الكتاب سوف تغنينا عن الكثير من الأفكار والرؤى وتفتح الأبواب أمامنا لفهم القوانين الإسلامية بشكلها الصحيح والعصري خاصة عند مقارنتها بالقوانين الوضعية.
يرى الإمام الشيرازي أن الحاجة إلى القانون لا تتوقف على عملية احتياج الإنسان إلى المجتمع ولا للضبط الاجتماعي فقط «فالقانون إنما نشأ من احتياجات الإنسان الجسدية والروحية، وأصول الاحتياجات الجسدية المستدعية لوضع القانون المَسْكن والملبس والمركب والطعام ونحوها.. كما أن أصول الاحتياجات الروحية عشرة أيضاً: الإيمان والفضيلة والعلم والتقوى والتقدّم والأمن والاستقلال والحرية والمساواة والعدالة»(5).
وبمعرفة لماذا يحتاج الإنسان القانون يمكن معرفة نوعية القانون الذي يلائم الإنسان وحياته، ذلك أن علم القانون الوضعي حدّد الحاجة للقانون في الحاجات المادية وتنظيم العلاقات الاجتماعية، والحال أن الحاجة إلى القانون هي أعم من ذلك كما يرى ذلك الإمام الشيرازي: «إنما إحتاج الإنسان القانون لأنه إنسان له حوائج فردية واجتماعية في مختلف الجوانب، ولو فرض أن إنساناً عاش وحده في غابة أو كهف لإحتاج أيضاً إلى القانون الذي ينظّم سلوكه مع نفسه مضافاً إلى القانون الذي ينظّم سلوكه مع خالقه ومع الكون بصورةٍ عامة. فالقانون لازم لتنظيم شؤون المجتمع مهما كان المجتمع بدائياً أو متوسطاً أو مثالياً حيث أن اللازم أن يكون هناك مقياس لسير الفرد والاجتماع في مختلف جوانب الحياة»(6). ومن هنا فان الإمام الشيرازي يعتبر أن القانون يتكون مع الإنسان فهو متأصّل معه وذاتي، على خلاف أولئك الذين يرون القانون بأنه عرضي يوضع لكبح جماح الإنسان وضبطه اجتماعياً باعتبار أنه شرير وأناني بطبيعته التكوينية، «فالإنسان مطبوع على الشر ولولا تطبّعه بالخير عن طريق اكتساب صفته الاجتماعية لصار حيواناً لا يتعامل إلا على أساس قانون الغاب، ولما تيسّر للمجتمع التكوّن أو البقاء، فالإنسان بطبيعته كما يقول هبز وحشي أناني والحالة الطبيعية حالة حرب وعدوان حالة ليس فيها عدل ولا قانون ولا ملكية فهذه النظم من صنع الدولة»(7).
معنى القانون
القانون في اللغة كما في [لسان العرب] تعني: الأصل وقانون كل شيء طريقه ومقياسه. وفي [المعجم الوجيز]: القانون في الاصطلاح أمرٌ كلّي ينطبق على جميع جزئياته التي تتعرف أحكامه منه. فالقانون في اللغة يحمل معنى عام يطلق على «كل قاعدة أو قواعد مطردة حمل اطرادها معنى الاستمرار والاستقرار والنظام»(8).
ولا شك فإن معرفة معنى القانون يغنينا كثيراً في فهم أبعاد القانون من ناحية الخصائص والضيق والتوسّع. فقد اختلف الباحثون في معنى هذه الكلمة حيث يرى الأكاديميون أن القانون مصطلح يحمل معنىً ضيقاً، فالقانون عندهم: «هو مجموعة القواعد العامة الجبرية التي تصدر عن إرادة الدولة وتنظم سلوك الاشخاص الخاضعين لهذه الدولة»(9). أي أن «اللغة القانونية رصدته بوجه عام للدلالة على مجموع قواعد السلوك الملزمة للأفراد في المجتمع»(10). ويرى ترمان آرنولد: «إن هناك في كل مجتمع من المجتمعات عدد لا يحصى من القواعد والعادات والإجراءات والتدابير التي لها صفة الإجبار وكل هذا ما يطلق عليه في العادة صفة القانون»(11).
ويُفهم من كلمات المراجع القانونية أن كلمة القانون في المصطلح الحديث تحمل معنى الإجبار والقسر والإلزام بالقوة لأنها «قواعد ملزمة تنظم سلوك الاشخاص في المجتمـــع على أنـــه يُفهم مــن معنى الإلـــزام بأن له جزاءً مادياً توقعه السلطة العليا في الجماعة»(12).
ولكن ماذا نستكشف من قراءة كتاب [الفقه القانون] في تعريف القانون وماذا يرى الإمام الشيرازي في معناه..؟
يرى سماحته أن كلمة القانون ليس بالمعنى الضيق الذي فسّره الأديميون بل القانون كلمة تحمل في طياتها معاني أوسع من المعنى الإصطلاحي حيث أن «القانون قد يطلق بالمعنى العام مثل إطلاق الإنسان على الكلي الشامل للأفراد الخارجية، وقد يطلق على المصاديق الخارجية لهذا الكلي العام مثل القانون التجاري والقانون الدولي والقانون المدني..». وكذلك فإن القانون عند سماحته لا يحمل معنى الإلزام والقسر الذي تفرضه السلطة على الفرد كواجب مكره عليه في الإلتزام بمسؤولياته الاجتماعية، بل إن القانون عند الإمام الشيرازي هو مسؤولية ذاتية يتحمّلها الإنسان باقتناع ووعي وإيمان حيث يقول سماحته: «وربما عُرف القانون بأنه معرفة كل ما يلزم على الإنسان أن يعمله تجاه نفسه وربه وتجاه أسرته وتجاه محيطه وتجاه الطبيعة حيواناً أو نباتاً أو جماداً، فقد قال علي (ع): إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم». لذلك فان القانون يحمل معنى جامعاً كلياً لا يقتصر على معنى (جزاء الرادع) إذ أن «القانون بهذا المعنى يشمل الشريعة بمختلف فروعها الفقهية والأخلاقية والتربوية مما يعمّ قانون الفرد والحكومة في مختلف مجالات الحياة»(13). وهذا الرأي يعبر عن نظرة شمولية لمسألة القانون، لأن القانون ليس مجرّد آلية تحتوي على مجموعة قواعد جامدة تأمر وتنهى بل القانون السليم هو الذي ينبعث من كافة المستويات ويندمج مع مختلف الجوانب الثقافية والأخلاقية والتربوية بحيث يتكامل مع العناصر الأخرى لتحقيق المثل الإنسانية والإلهية العليا.
الغاية من القانون
إن من أهم الإشكاليات التي تواجه القانون وتضعه تحت مرصد النقد هو عدم وضوح الغاية الأساسية لوضعها، عدم الوضوح هذا هو الذي أدى إلى استغلال القانون استغلالاً سيئاً أفقده مصداقيته في كثير من الأحيان. فتارة لا يتوانى أرباب المصالح الخاصة عن إستخدام القانون وصياغته حسب ما تهدف إليه منافعهم، وأخرى تستخدمه السلطات المستبدّة لتبرير شرعيتها المطعون فيها وقمع الحريات. ومن جهة ثالثة يطغى نفس القانون ويخرج عن غايته عندما يصرّ البيروقراطيون على تطبيقه حرفياً ولو خالف روح القانون. لذلك فإن وضوح الغاية من القانون ومعرفة أبعادها يسلب الفرصة من الذين يمتلكون النفوذ والقوّة في ترجمة القانون حسب منافعهم الذاتية. ومن هنا فإن الإمام الشيرازي يرى ضرورة وجود مبادئ أساسية ثابتة تحكم النظام الاجتماعي العام وتشكل الغطاء الذي تتحرك في إطاره كافة الأبعاد الحيوية ومن ضمنها القانون والسياسة والاقتصاد. أحد هذه المبادئ الاساسية التي ترسم غاية القانون وتؤطر حركته هو الحرية التي وهبها الله سبحانه إلى الإنسان وفطره عليها لتكون منهجاً معرفياً وسلوكياً للوصول إلى الطاعة اليقينية والتكامل الإنساني. ومن يقرأ كتب الإمام الشيرازي يرى أن الحرية تمثل ركناً أساسياً في صياغة نظرياته حيث «إن من أساسيات رؤية الإمام الشيرازي هو أولوية الحرية الفكرية ليس من باب الترتيب الإجرائي والحقوقي وإنما من زاوية الاهمية الذاتية لمصاديق الحرية. هنا يتخذ الإمام الشيرازي رأياً يكاد أن يبدع فيه فيرى أن القوانين الاجتماعية هي التي يجب ان تتأطر بالحرية. إن القوانين ليست هي الحاكمة على الحرية بل الحرية هي الحاكمة على القوانين. فالإمام الشيرازي يرى من اللازم: أن تنطلق القوتان التأطيرية التشريعية والتنفيذية من الحرية الإنسانية»(14). وعلى هذا فإن الحرية هي الغاية الأساسية التي يجب أن ينطلق القانون وفقها، فإذا لم يستطع القانون أن يضمن الحريات للمجتمع أو يحافظ عليها أو قام بمصادرتها فانه تنتفي ضرورته وجوهريته التي قام عليها.
إن الإشكالية المعقّدة التي جعلت القانون الوضعي في موضع الشك في قدرته على تحقيق الغاية هو أنه جعل الحرية في المرتبة الثانية وقدّم المصالح والمنافع الآنية التي تخدم واضعيه: «أما الغاية الحقيقية للقانون فهي تحقيق مصالح معينة هذه المصالح هي الغاية التي من أجلها أقام القانون هذا النظام الاجتماعي»(15). فالقانون الوضعي وضع بالدرجة الأولى لتحقيق مصالح وغايات نفعية تخدم قوى النفوذ التي تصوغ القانون، لذلك فإن الحرية عندهم هي حرية نفعية عرضية وليست أصلاً مبدئياً لذلك نرى أن الدول الغربية التي اعتمدت على الاستعمار في تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية تطبّق الحرية نـــسبياً في بلادها لكنها تقمعها في البلاد المستعمرة. ومع أن «نظام الحرية الشخصية في المجتمع الديمقراطي لا يتضمّن الحرية للمواطنين فحسب بل لجميع السكان، فان للدولة السلطة لطرد أي أجنبي مقيم على أراضيها أو أن تعيده إلى وطنه عن طريق التسليم، وليس هناك توضيح للخطر الكامن في جعل الحريات الشخصية الأساسية خاضعة لإعتبارات الصالح العام الغامض»(16).
إن القانون السليم الذي يـــحقــق الغايات من وجوده هو القانون الذي يستطيع عند تطبيقه أن يحافظ على الحريات وينظمها بشكل تتوازن فيه حريات الافراد مع عدم الإضرار بالآخرين أو سلب حرياتهم، وحينئذ وكما يقول الإمام الشيرازي لا بدّ «أن يكون القانون متوسّطاً بين إعطاء الحاجة بقدر وسلب الحرية بقدر، فمن الواضح أن كل قانون يسلب بقدره من حرية الإنسان، ولذلك يجب أن يلاحظ في وضع القانون (الأهم والمهم) وتقدير كل جانب من الجانبين سواء بالنسبة إلى حرية الإنسان ملحوظاً فيها الصالح لنفس الإنسان»(17).
وهنا يمكن القول أن الإمام الشيــــرازي يرى ذلك الرأي الذي يعبّر عن الفكر الإسلامي الأصيل أن وظيفة القانون هو فقط إيجاد التوازن بين الحريات الاجتماعية فيقول سماحته: «لا حقّ للقانون التدخّل في شؤون الناس إلا بالقدر المقرر في الشريعة الإسلامية وإلا كان خلاف قاعدة تسلّط الناس على أموالهم وأنفسهم»(18). وفي قراءتنا لكتاب [الفقه القانون] نرى أن سماحته يعتقد في أولوية الحرية وأصالتها: «إن الإنسان يتطلب الحرية في كل شيء واقرّ الإسلام له بذلك باستثناء ما فيه إضرار نفسه وإضرار الآخرين.. كذلك يتطلب الحرية في عقيدته وشريعته ولذا أقرّ له الإسلام ذلك فقرّر له الانتخابات حيث قال سبحانه (وأمرهم شورى بينهم) وفوض إليه إختيار مرجع التقليد والقاضي وإمام الجماعة. وقد أشار القرآن إلى إمضاء هذه الحرية العقيدية والتشريعية في الإسلام حيث قال سبحانه: (لا إكراه في الدين) ، (كل امرء بما كسب رهين) ، (لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) ، (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) »(19).
خصائص القانون الإلهي
إن أهم ما نستخلصه من قراءة [الفقه القانون] هو مميزات القانون الإسلامي وخصائصه الايجابية التي جعلت من القانون الإسلامي قانوناً متجدّداً وصالحاً لكلّ الأزمان والمجتمعات، وقدرته على حل الكثير من المشكلات. ومن أهم الخصائص التي يذكرها الإمام الشيرازي التي تميز القانون الاسلامي عن الوضعي هي:
1/ الدوام زماناً: لوضوح أن القوانين الوضعية يضعها جماعة على أحسن الظروف لها ملابساتها الموجبة للتباين ومن وجه والمطلق بالنسبة إلى الزمان المتأخر، ان المقنن النزيه من البشر محدود بالزمان والمكان والشرائط والأهواء والنسيان وإن كان مخلصاً فرضاً ولذا لا يكون قانونه إلا وليد تلك الظروف للزوم المناسبة بين الواضع وما وضع. بينما ترى القوانين الشرعية غير ذلك، وإنما المحتاج إليه هو الاستنباط لتطبيق الكبريات على الصغريات مع متجدّدات الزمان.
2/ الكمال كمّاً: والإسلام في شرائعه العامة والخاصة وافٍ بكل حاجيات الإنسان ويدلّ على ذلك الفقه المدوّن حيث لم تكن مسألة من المسائل يوماً من الأيام بلا جواب.
3/ الواسع مكاناً: لوضوح أنه قانون الكل بلا فرق بين اختلاف الشعوب والقبائل، أما القوانين الوضعية حتى الديمقراطية منها فيختلف قانون بلد عن بلد، -وميزة السعة المكانية – لأن وحدة القانون توجب التفاهم والتقارب بين فصائل المجتمع الإنساني بعضه مع البعض حاله حال وحدة اللغة والدين.
4/ التسامي كيفاً: لأنه مطابق للفطرة موجب للعدالة آخذ بالإعتبار ضعف الإنسان فلم يعنت معه وهو مع هذا كله أسمى من مستوى الناس مهما بلغوا في المستوى وتقدّموا إلى أبعد حدّ (20).
5/ ومن الخصائص المهمة التي تجعل من القانون الإسلامي متميزاً هو مرونة القانون وقابليته للاجتهاد حيث يرى سماحته: «كان باب الاجتهاد منفتحاً منذ عهد الرسالة، أما الاجتهاد فهو حق طبيعي لحملة كل دين أو مبدأ يريد استيعاب الحياة وهذا الدين الذي شمل هذه الرقعة الواسعة والذي يريد الله له شمول الأرض كلها لا بدّ وأن يكون لحملته حق الاجتهاد بمعنى استفادة الجزئيات من الكليات»(21). ولأن باب الاجتهاد مفتوح فإن قانون الإسلام في حال تطور وتجدد باستمرار حسب تغير الظروف والموضوعــــات إذ يرى الإمـــــام الشيـــــرازي أن «القانون في حال تطوّر دائم من ناحيتين ناحية اختلاف الاستنباطات وناحية تجدد الفروع والجزئيات»(22).
6/ البساطة في القانون: قال سبحانه (يريد الله بكم اليُسْرَ ولا يريدُ بكم العسْرَ) ، فالقانون الإسلامي وضع على اليسر سواء في الواجبات أم المستحبات وإنما الشدّة أحياناً تأتي من باب الأهم والمهم فهي استثناء لا أصل، فاذا ساد قانون الإسلام بمختلف شعبه وفروعه وجد الناس انهم دخلوا إلى جنة الرفاه والراحة فإن ترك قانون الإسلام هو مصداق لقوله سبحانه (وضاقتْ عليهم الارضُ بما رحبتْ)(23).
ومثل إن الإسلام لا يفرض قانونه إلا على اتباعه: فإنه إذا صار الشيء قانوناً فانه يقسر ذلك على اتباعه فقط دون غيرهم ولا يقسر غير الأتباع بل لغيرهم أن يأتي بما في قانونه الخاص وهذا ما نسميه بقانون الإلزام، فغير المسلم مثلاً لا يقسر على عدم شرب الخمر(24).
ويذكر الإمام الشيرازي الكثير من العناصر التي جعلت من القانون الإسلامي يتقدم في قدرته على تحقيق سعادة الإنسان وسموّه ورقيه مثل: المساواة، التسامح، التساوي بين الرجل والمرأة، كثرة الحريات، العقل والتعقل، الشورى والتشاور، العفو والتجاوز، عدم مؤاخذة الغير فكلّ إنسان يحمل ذنب نفسه ولا يؤاخذ به غيره، والأخلاق التي هي من مقوّمات المجتمع الصالح ومن دعائم رقيه وتقدمه وتركها يوجب شقاء المجتمع ويسبّب تأخره وانحطاطه وكذلك قانون الأخوّة، وقانون الأمة الواحدة، وقانون الحرية..(25).
1 ـ المدخل إلى القانون: ص19.
2 ـ علم الاجتماع القانوني: حسن الساعاتي، ص13.
3 ـ المصدر السابق: ص3.
4 ـ علم الاجتماع القانوني: محمود ابو زيد، ص27.
5 ـ الفقه القانون: الإمام الشيرازي، ص50.
6 ـ المصدر السابق: ص105.
7 ـ علم الاجتماع القانوني: حسن الساعاتي، ص30.
8 ـ المدخل إلى القانون: ص11.
9 ـ النظرية العامة للقانونك سمير عبدالسيد، ص7.
10 ـ المدخل إلى القانون: ص11.
11 ـ علم الاجتماع القانوني: محمود أبو زيد، ص27.
12 ـ مدخل لدراسة القانون: عبد الناصر العطار، ص63
13 ـ الفقه القانون: ص102.
14 ـ ملامح النظرية السياسية: محمد غالب ايوب، ص31.
15 ـ مدخل لدراسة القانون: ص77.
16 ـ فكرة القانون: دنيس لويد، ص192.
17 ـ الصياغة الجديدة: الإمام الشيرازي، ص35.
18 ـ الفقه السياسية، الإمام الشيرازي، ص247.
19 ـ الفقه القانون: ص333.
20 ـ الفقه القانون: الإمام الشيرازي، ص55.
21 ـ المصدر السابق: ص248.
22 ـ المصدر السابق: ص165.
23 ـ المصدر السابق: ص50.
24 ـ المصدر السابق: ص105.
25 ـ المصدر السابق: ص64، 242.
اترك تعليقاً