هيمنة الشريعة وقصور القانون
المتأمل فيما حوله، وفي نفسه وطبيعة مجتمعه، ونسيج علاقاته، والأحداث في محيطه.. سيجد بقليل من الجهد أن كل شيء في هذا الوجود يسير وفق نظام متقن، مترابط مع ما قبله ومع ما بعده من نُظُم، ويقوم على أساس حساب دقيق موزون. وعلى منواله فإن القانون الشرعي الإلهي لبني البشر جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة الكونية، وباختلاله يختل ما حوله، ويحدث الخلل في مسيرة المنظومة الكونية مجتمعة. لقد كان الإنسان عاجزًا عن إدراك وجه المصلحة في جميع أموره، ولما كان الاختلاف قائمًا بين البشر؛ وذلك لاختلاف مداركهم وتباين أفهامهم؛ نظرًا لذلك كله اقتضت حكمة الله إنزال الشرائع؛ لتبصير الناس بمصالحهم، ولتحديد علاقاتهم بخالقهم، ولتكون الحاكمة لأمورهم.
وإذا كانت حاجة البشر إلى الشرائع السماوية ماسَّة، فإن حاجتهم إلى الشريعة الإسلامية أكبر؛ لكونها عالمية تخاطب جميع الناس في زمان ومكان، ولما تمتاز به من سمات الكمال والسمو والشمول، وغيرها التي سنشرحها لاحقًا. فمنذ أن وُجد الإنسان نفسه على هذه الأرض وهو يحاول أن يُشَرِّع لنفسه ما ينظِّم له حياته من القوانين والأنظمة، ويجعل منها منهج حياة بمعزل عن شرع الله، وبمنأى عن العلاقة به. وتواصت السلطات الحاكمة في جميع النظم التي جثمت على صدور البشر، منذ فجر التاريخ حتى صعودهم إلى القمر، على فكرة الخروج على إرادة الحق والخير في هذا الوجود، متخذين من أنفسهم آلهة تُعْبَد، ومن ذواتهم أصنامًا تُقَدَّس في محراب مصطلحات وضعية اتخذت مسميات شتى (رأسمالية، واشتراكية، وشيوعية وديمقراطية).
والمتتبع للقوانين الوضعية التي تحكم حياة المجتمع المتوغلة في جوانب حياته، يجدها تمثل إرادة الحاكم وجماعته فقط، وتعبر عن أغراضه ومشيئته في التغلب على الجماعة التي انبثق منها، والمفترض أن يحمي حقوقها، بعيدة عن التطابق مع المصلحة الحقيقية التي تعبر عن مبادئ الحق والعدل؛ لأن القوانين الوضعية لا تعبر في واقعها إلا عن الرغبة في تسخير المجتمع لإرادة حُكَّامه، وإخضاعه لأهواء المتسلطين، الذين اتخذوا من أنفسهم مُشَرِّعين من دون الله، فصاغوا من إرادتهم قوانين وتشريعات؛ لتكون طوقًا يشددون به قبضتهم على رقاب الناس وحياتهم.
أما أهداف الإسلام وغاياته، التي حدَّدها القرآن، فتتمثل في تحرير الإنسان، وإنقاذه من براثن الظلمات إلى أمواج النور، والأخذ بيده من الخضوع والذلة لإرادة العباد وبغيهم إلى عبادة رب العباد ورحمته، ومن جَوْر قوانينه البشرية الضيّقة إلى سعة تشريع الإله، ولو حاولنا، وبطريقة واعية منصفة، استقراء كل من الشريعة الإسلامية، والقوانين الوضعية على مختلف مذاهبها واتجاهاتها الفلسفية والاجتماعية؛ من القوانين والنظريات الوضعية الجاهلية، لاستطاع حتى الأعمى من بيننا أن يتلمس في ليل مظلم أهم الفوارق التي تميز الشريعة الإسلامية عن القانون الوضعي، وتحدد معالمه وهويته، غير أنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
ذلك لأن دائرة التشريع الإلهي تكون أوسع في تنظيم العلاقات الإنسانية الخارجية في مجالها الاجتماعي؛ لأنها تشمل تنظيم الذات الداخلية وبنائها الأخلاقي، كما تشمل العقيدة والعبادات والنشاطات الفردية التي يؤديها الإنسان مفردًا كالطهارة والأكل والشرب واللباس والتفكير … الخ.
أما القانون بصيغته المجردة فهو عبارة عن القواعد العامة المجرّدة التي تنظّم معاملات الأفراد، وتقترن بجزاء تُوقِّعه السلطة المختصة عند الاقتضاء. فالقانون يشمل مجالات المال والقضاء، والتجارة والسياسة، والحكم والإدارة، والجهاد وعلاقات الأرض والعمل، والأسرة، وهذا جزء مما ينظمه التشريع الإلهي. غير أن هذه القواعد القانونية غير مستقرة.. فدائمًا ما تلفظ السلطة الجديدة ما أقرته السلطة المنقلب عليها من قوانين، وتجعله تحت أقدامها، بل وتحقرها وتقلل من شأنها، وتُنْشِئ منابر لبيان عوار ذاك التشريع وجور ذاك القانون، ومن ثم تضع قواعد جديدة، وتسبغ عليها ذات التعريف القانوني وهلم جرا.
هنا يقف القانون الوضعي ولا يبرح مكانه؛ فليس بمقدوره أن يفعل أكثر مما مر ذكره، عندها يتقدم التشريع الإلهي إذ يأخذ على عاتقه إدخال كل نشاط وعلاقة إنسانية ظاهرة بين الأفراد والجماعات والدول في دائرة التنظيم والضبط الحسابي الموزون؛ لأن الوجود في عرف الإسلام لا يعرف الفوضى ولا العبث والضياع، وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم موضحاً بقوله: {أفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأنكُمْ إلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
وبالنظر إلى خصائص الشريعة الإسلامية، وأسس التشريع الإسلامي المذكورة آنفًا يتجلى لنا البعد القائم بين التشريع الإسلامي والقانون الوضعي، ويمكن إبراز ذلك فيما يأتي:
أولاً: من حيث المصدر: إن التشريع الإسلامي مصدره الأساسي الوحي (القرآن والسنة)، إضافة إلى المصادر الأخرى التي لا تخرج عن إطاره، بينما القانون الوضعي مصدره الإنسان، ومهما كان هذا الإنسان فإنه لا يستطيع أن يتخلص من خصائصه المتمثلة في الضعف والهوى وعدم الكمال وغيرها، تلك التي نجدها في أي قانون وضعي صادر عنه، مهما ارتقى وعلا.
ثانيًا: من حيث ارتباطها بالأخلاق: ارتبط التشريع الإسلامي بالأخلاق بشكل واضح، وذلك يبدو في تقريره لجملة من المبادئ، منها مبدأ ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض، وتقريره لحق الجوار، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ… } [النساء: 36]. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» [رواه البخاري (6014) ، ومسلم (2625)]، وقال أيضا: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم جاره»[ رواه البخاري (6136) ومسلم (48)] . والأمر نفسه في تشريع الزكاة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا…} [التوبة: 103]، وتلك المعاني الأخلاقية لا وجود لها في القانون الوضعي.
ولنأخذ مثالاً واقعيًّا نستدل به على ما مر ذكره، كفيض من غيض، ونقطة في بحر، وليكن قضية حقوق المرأة في القوانين الوضعية؛ مقارنةً بما لها عند تشريع ربها. فبينما مثل القانون الوضعي المحامي الأعور في رحلة التنقيب عن حقوق المرأة، وفقد الاتزان، وتأرجح بين غمط لحقوقها ومعاملتها كإنسان أقل درجة من الرجل في بدايات القرن المنصرم، وتحرر من كل قيد في نهاياته، وقفت الشريعة الإسلامية عبر القرون موقفًا متزنًا في شأن حقوق المرأة.. موافقًا للفطرة.. ومتناسقًا مع دور المرأة ورسالتها في الحياة.
وربما مثلت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)Convention Elimination of All Forms of Discrimination Against Women التي بدأت فكرتها بمعاهدة حقوق المرأة السياسية، التي أعدتها مفوضية مركز المرأة بالأمم المتحدة، وتبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم أعدت إعلانًا خاصًّا بإزالة التمييز ضد المرأة، ثم أجازت ذلك الإعلان عام 1967م.
دعا ذلك الإعلان في نهايات القرن الماضي إلى تغيير المفاهيم، وإلغاء القوانين الظالمة والعادات السائدة التي تفرِّق بين الرجل والمرأة، مع الاعتراف بأنَّ المنظمات النسائية غير الحكومية هي القادرة على إحداث هذا التغيير.
وترتكز الاتفاقية على مبدأ المساواة المطلقة، والتماثل التام بين المرأة والرجل في التشريع، وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي التعليم والعمل، والميراث والأنشطة الترويحية والرياضية، وفي الحريات العامة، وفي قوانين الأسرة وقوانين منح الجنسية، وفي الحق في اختيار محل السكن والإقامة، وفي الأهلية القانونية.
ومن بين سطور تلك الاتفاقية نلمح أنها رسَّخت العداء بين الرجل والمرأة من أول وهلة، فهي تصور العلاقة بين الرجل والأنثى كعلاقة ظلم تاريخي، تريد أن تضع حدًّا له، وترى أنَّ الحياة يجب أن تقسم بالتساوي بين الرجل والمرأة، وأنَّ الرجل إذا أخذ نصيبًا أكبر فإنَّ ذلك على حساب المرأة. ثم إنها مارست التمييز ضد المرأة حين ادعت أنها تحاربه باسمها، فالتشريع الإلهي يؤيد التمييز «الإيجابي» الذي يكون لها وليس ضدها، ويقرر مساواة المرأة للرجل في الأصل وكرامة الخلق وفي المسؤولية وحمل الأمانة، وفي الجزاء الدنيوي والأخروي والمساواة في استحقاق كل زوج لحقه، وإقامة الشعائر والاحتكام للشرائع وسمو الأخلاق.
ثم يقرر التمييز «الإيجابي» لاختلاف بعض الوظائف الفسيولوجية للمرأة عن الرجل، فالمرأة لا تصلي ولا تصوم عند حدوث عارض أنثوي، ولكنها تساوي الرجل في قصر الصلاة في السفر والمرض، وتقرر التمييز الإيجابي عندما تحدد للرجل مسؤولية الإنفاق على الأسرة وجوبًا يعاقب عليه إن أبى أو قصر، ثم لا تساويه في الميراث في حالات محدودة.
وحتى في الميراث فلا ظلم يقع على المرأة في التشريع الإسلامي؛ إذ إنها تأخذ أحيانًا نفس نصيب الذكر إذا كانت أمًّا وتوفي ولدها: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ}[النساء: 11]، وكذلك في حال الأخوة والأخوات من الأم: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12].
ختامًا نؤكد أن منظومة الحياة ليست بضيق الأفق الذي يكتنف صانع القانون الوضعي؛ فالغيب عنصر مفقود في معادلته عند سَنِّه القانون، وله عذر؛ حيث لا يحيط بالغيب إلا الله، أما عظمة التشريع الإلهي فكونه مرتبطًا بما هو مستقبلي وغيبي، مراعيًا في ذات الوقت الظرف الحاضر، علاوة على أنه خصص لكلٍّ دوره ووظيفته داخل المنظومة الكونية الكلية، التي بدأنا الحديث بها؛ ليتم بناء الحياة ويتحقق التعارف، وتشيع المودة والرحمة، ويتم حفظ النوع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13].
وما يتغابى عنه القانون الوضعي أنَّ اختلاف الأدوار الحياتية يقتضي اختلافًا في الحقوق والواجبات بلا ظلم، وربما لم ولن يسعنا المقام لتناول وإيضاح كامل ما يندرج وينبثق من خلال هذا الموضوع، ويكفينا أن قمنا بتطوافة سريعة عبر رءوس أقلام، بَرْهَنَّا فيها على هيمنة الشريعة على القانون الوضعي، وأن المطالبة بتحكيمها في كافة مناحي الحياة هو بمثابة من عاد إلى البحر وعفَّ عن القنوات.
اترك تعليقاً