الشرعية الإجرائية و حماية حقوق المتهم
إن الدولة القانونية كما أوردت في مقال سابق هي تلك الدولة التي تخضع جميع السلطات فيها لحكم القانون ، وهو ما يعرف اصطلاحاً بمبدأ الشرعية Legality. والشرعية بهذا المفهوم تعني القانونية أو النصية أي وجود نص قانوني يلزم إتباعه. وقد عرف المؤتمر الدولي لرجال القانون الذي انعقد في نيودلهي عام 1959 م مبدأ الشرعية بأنه هو الذي يعبر عن القواعد والنظم والإجراءات الأساسية لحماية الفرد في مواجهة السلطة لتمكينه من التمتع بكرامته الإنسانية . ففي مجال حماية حقوق المتهم وحرياته الأساسية يقف المشرع بين قرينتين متناقضتين : بين قرينة براءة المتهم وهي الأصل ، وقرينة ارتكابه للجريمة وهي قرينة عارضة ، وكلا القرينتين تحمي مصلحة أساسية في المجتمع . فالقرينة الأولى تحمي مصلحة المتهم في حماية حرياته ، بينما تحمي القرينة الثانية مصلحة المجتمـع في حماية أمنه . ولذا يجب على المشرع أن يسعى إلى إقامة التوازن بين المصلحتين بوضع الإطار القانوني الذي يقي في داخله حرية المتهم الشخصية ، والتي يجب ألا يضرب بها عرض الحائط مهما كانت المبررات باعتبار أنها تمثل الحد الأدنى الذي لا يتعارض مع مصـالح المجتمع لأن المتهم هو الطرف الأضعف في مواجهة الدولة ممثلة المجتمع . إذن فالقانون الجنائي بشقيه الموضوعي والشكلي يجب أن يخضع لمبدأ الشرعية سواء في وضعه للجرائم والعقوبات المحددة لها ( الشرعية الموضوعية ) ، أو الإجراءات اللازمة بصدد الاستيفاء من مرتكب هذه الجرائم ( الشرعية الإجرائية ) . ويمكن القول أن الشرعية الإجرائية في مجال حماية حقوق المتهم تقوم على ثلاث أركان :
يتمثل الركن الأول في افتراض براءة المتهم حتى إثبات إدانته ويشكل هذا الركن جوهر مبدأ الشرعية الإجرائية . ويراد بذلك ملازمة هذه القرينة للمتهم من لحظة القبض عليه وحتى صدور حكم نهائي ضده يدحض هذه القرينة ، ويكشف عن ارتكابه للجريمة أو تثبت براءته ، فترقى تلك القرينة إلى مستوى اليقين . وتبدوا أهمية هذا المبدأ في أن الآثار المترتبة عليه تأتي لصالح المتهم ولضمان حقوقه . وأول هذه الآثار هو تقرير أن عبء الإثبـات يقع على عاتق الاتهام . أما الأثر الثاني فهو تفسير الشك لصالح المتهم . وثالث هذه الآثار هو معاملته معاملة تحترم آدميته ، وإحاطته بالضمانات الكافية التي تكفل له براءته إن كان بريئا حقا . وعلة ذلك أن إدانة المتهم بالجريمة إنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه في الحياة ، وهي مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا تحت ظل مبدأ الشرعية الإجرائية ، وتوفير ضمانات فعلية توازن بين حق الفرد في الحرية من ناحية وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية من ناحية أخرى.وتتحقق تلك الضمانات كلما كان الاتهام الجنـائي معرفا بالتهمة ، مبينا لطبيعتها ، مفصلا لأدلتها وكافة العناصر المرتبطة بها مع مراعاة أن يكون الفصل في هذا الاتهام عن طريق محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون ، وأن تجري المحاكمة علانية وخلال مدة معقولة ، وأن تستند المحكمة في قرارها بالإدانة إلى موضوعية التحري الذي تجريه ، وتلك جميعها تشكل الضمانات الأساسية التي لا تقوم المحاكمة العادلة بدونها . كما تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظاما متكامل الملامح يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ، ويحول بضماناتها دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها وذلك انطلاقا من الإيمان بحرمة الحياة الخاصة ، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية ، ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونا للنظام الجماعي بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفا مقصودا لذاته ، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها مخالفة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد بمجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها .
أما الركن الثاني فهو مبدأ قانونية الإجراءات فالمشرع ملزم بوضع النظم والأسس التي تباشرها السلطة أثناء قيامها بواجباتها من أجل تقصى الحقائق وملاحقة مرتكب الفعل المخالف للقانون وإيقاع العقاب اللازم عليه متى توافرت أسبابه ، وهو في وضعه لهذه القواعد يحدد متطلبات عدم المساس بالحرية الفردية للمتهم ، فالقانون وحده هو المصدر الوحيد الذي يرسم ويحدد تلك القواعد الإجرائية منذ تحريك الدعوى الجنائية حتى انتهائها بحكم بات ، ويعرف هذا الانفراد في تنظيم الإجراءات الجنائية بمبدأ قانونية الإجراءات الجنائية .
أما الركن الثالث والأخير فيتمثل في مبدأ الشرعية الدستورية ويقتضي هذا المبدأ احترام الحرية الفردية المقررة بالقانون أثناء الخصومة الجنائية ، وتكفل دساتير الدول تحديد ما يتمتع به الفرد قبل الدولة من حقوق يتعين عدم التفريط فيها أثناء الخصومة الجنائية ، كما تحرص بعض الدساتير على تحديد أهم الضمانات التي يجب احترامها وخاصة ما يتعلق بالحريات العامة وحق الدفاع ، حيث تقوم هذه برسم الخطوط العريضة للمشرع وتحدد له الإطار الذي يستطيع بداخله تنظيم إجراءات سير الدعوى الجنائية . وهكذا يختلف مضمون الشرعية الإجرائية باختلاف مصادرها فإن كان مصدرها الدستور فهي شرعية دستورية ويقابلها التزام سلطات الدولة بمراعاتها ، وإن كان مصدرها هو القانون فهي شرعية قانونية ويقابلها التزام من جانب المخاطبين بهذا القانون بمراعاة العمل وفق أحكامه ، وبذلك يكمن أساس الشرعية في الدستور والتشـريعات الداخلية . وتم التعرض لهذا الموضوع من خلال المطلب الأول الذي تناول دور الدستور في حماية حقوق المتهم بينما تناول المطلب الثاني دور قانون الإجراءات الجنائية في هذا الشأن .
اترك تعليقاً