ما بعد القانون ..
قياساً على المذاهب النقدية الأدبية الحديثة استعرت عنوان مقالي هذا من المذهب النقدي الأدبي المسمى ما بعد الحداثة ، والذي ينتهي إلى سلب النص سلطته التقليدية أي قدرته على إنجاب وتوليد المعاني ، ورفض ما يسمى بميتافيزيقا الحضور إلى الإحالة إلى مركز ثابت وموثوق به ، ومعنى القانون لغة قد يستشف منه الإحالة إلى مركز ثابت وموثوق ، كما يقول بن منظور في معجمه لسان العرب أثناء استعراضه لمادة قنن يقول ، والقوانين الأصول ، الواحد قانون ، وليس بعربي .
فقوله أن القوانين هي الأصول ، والأصل هو المرجع والأساس في أي فلسفة أو قاعدة قانونية أمرة أو مكملة ، والقانون اصطلاحاً بالمعنى العام ، هو مجموعة القواعد العامة والملزمة والتي تنظم شئون الأفراد في المجتمع وتقوم على احترامها سلطة عامة توقع الجزاء على من يخالفها ، فالقانون من ناحية هو الذي يقرر الحقوق ويرسم حدودها ويفرض ضماناتها ، ومن ناحية أخرى لا يقدر للقانون وجود ولا يترتب عليه أثر إلا بفضل ما يخول الأفراد من حقوق ويفرض عليهم من واجبات تنتظم بها علاقاتهم ، أما القانون بالمعنى الخاص فيراد به قاعدة معينة أو مجموعة معينة من القواعد تضعها السلطة التشريعية لتنظيم أمر معين ،
والأغراض التي يرمي إليها القانون ترتد إلى غرضين أساسيين : أولهما صون حريات الأفراد وتحقيق مصالحهم .
والثاني حفظ كيان المجتمع وكفالة تقدمه وارتقائه ، ووسيلة القانون إلى تحقيق هذين الغرضين هي التوفيق بين حريات الأفراد ومصالحهم المتعارضة على نحو يكفل المحافظة على كيان المجتمع ويضمن له التقدم ، ولا يقدر لتلك الوسيلة أن تؤتى ثمرتها على هذا النحو ، إلا إذا قام التوفيق بين حريات الأفراد ومصالحهم على أساس من الحرية والمساواة ، وكان رائد الشارع أو المشّرع فيما يورده من قيود في هذا الشأن هو المصلحة العليا للمجتمع ، على أن يراعى في ذلك كله ظروف المجتمع وعاداته وتقاليده ومعتقداته ، وما يرنو إليه من مثل عليا ، وما يحرص عليه من مبادئ ، وما يهفو إليه من أمال ، فالقانون مرآة للبيئة من ناحية ، ووسيلة إلى تقدمها وارتقائها من ناحية أخرى .
فإذا لم يستجب القانون لظروف المجتمع وحاجاته ولد ميتاً فلا يصادف نجاحاً في التطبيق ، وإذا انحرف القانون عن مبادئ الجماعة وتعارض مع آمالها قاومته وثارت عليه .وبالتالي لزم أن تكون السياقات القانونية المفعّلة داخل دولة ما سياقات تداولية مجتمعية .
أي يلزم من القانون أن يكون تجسيداً لموقف الجماعة داخل الدولة من كافة القضايا الحياتية في أسفل السلم وفي أعلاه . والنظر إلى المصالح المشتركة داخل الدولة . ودرء التعارض فيما بينها . وتأمين وصولها إلى كافة طبقات المجتمع المختلفة . هي مهمة رئيسية من مهام القانون .
ولزم أيضاً من القانون أن يدافع عن معنى فلسفي وراء المصالح المادية التي يراعاها ويوليها حمايته ، وأن يكون المعنى هو جزء من الحقيقة التي تتخلل القانون . فإذا ما نُزع المعنى من القانون وسياقاته ، أصبح آلة لضرب القواعد المجتمعية التي من أجلها وجد القانون ، فما من مجتمع إنساني منذ أن خلق الله الإنسان كائناً عاقلاً إلا وتنازل بموجب إرادته الحرة عن جزء من هذه الإرادة الحرة ، لا لصالح طبقة مؤسساتية بعينها ، ولا ملك ، ولا لأية حكومة ما ، إلا وهو يهدف من هذا التنازل الجزئي مراعاة مصالحه في مجموعها العام شرط أن تتناسق هذه المصالح وفق الأطر الثقافية والعقائدية لهذا المجتمع وإلا لما كان الإلتزام بموجب قواعد القانون من معنى ، ولما أصبح للجزاء الذي يوقع على الذين يخالفون إمرة القاعدة القانونية من مغزى .
فالمجتمع الذي لا يحترم إمرة القاعدة القانونية ، إما هو مجتمع يفتقد لأحد شروط الدولة المعروفة منذ الأزل وهو السلطة . وهذه حالة قلما نجدها إلا في بعض البلدان التي لا تكون فيها للسلطة من هم بالقوانين إلا بقدر ما تستطيع هذه القوانين خدمة رؤاها ومصالحها الأمنية والاستراتيجية وبقائها في الحكم ، والذي تعتبره السلطة في هذه الحالة بقاءاً مؤقتا ليقينها أنها في طريقها للانحسار . أو أن المجتمع الذي لا يحترم القوانين هو مجتمع يفتقد الثقة العامة في هذه القوانين ويشعر أنها لا تعبر عن فلسفته العليا ولا مصالحه المادية القريبة .
وعند إطلاق العنان والخيال والتفكر في شأن القانون الليبي سعياً لمعرفة أطره المعرفية والفلسفية والتاريخية ، خاصة وأن الدولة في ليبيا اعتنقت المذهب الاشتراكي والاجتماعي ، على أساس أن المجتمع هو الهدف من وجود القانون ، فهو ينظر إلى الشخص باعتباره كائناً اجتماعياً يرتبط بغيره من الناس ويتضامن معهم في سبيل تحقيق الصالح العام للجماعة . ومن ثم تكون وظيفة القانون في نظره هي المحافظة على كيان المجتمع وتسخير الفرد لخدمته ، فالمجتمع ليس مجموعة من شخصيات محتفظة بذاتيتها ، كما يريد المذهب الفردي ، والذي يعتبر أن القانون ما وجد إلا لحماية حقوق الأفراد ، بل هو وحدة متضافرة تتجه جهود أفراده نحو غاية مشتركة هي خير المجموع ، وبذلك يكون للقانون دور إيحابي ، فلا يقتصر على حفظ النظام في المجتمع كما ينادي المذهب الفردي بل يتجه إلى تحقيق الخير العام فيوجه النشاط الفردي نحو هذه الغاية .
قلنا أن الدولة في ليبيا اتجهت ودون تحفظ للأخذ بأدبيات المذهب الاشتراكي الاجتماعي كأساس لسن القوانين والتشريعات في ليبيا . فكانت النتيجة وعذراً للقارئ أننا نستبق النتيجة قبل طرح المقدمات ، أن ولدت القوانين في ليبيا ميتة لا روح لها ، ولا حتى جسد مادي منظوم ومعقود بأصول التشريع المتداولة عالمياً .
وذلك أن المشرع في ليبيا سن التشريعات والقوانين انطلاقاً من مقدمات افتراضية لم يكن لها من الواقع دليل ، فاعتبر أن المجتمع هو الجدير بالحماية ومصالحه تعلو على مصالح الأفراد الضيقة ، إلا أنه أهدر وأضاع مصلحة المجتمع عبر سلسلة من التشريعات الفاقدة للنمو الطبيعي على أرض طبيعية ، ثم أهدر وأضاع حقوقه الأفراد وحرياتهم مستنداً في ذلك إلى حجية اعتبرها قاطعة ولا سبيل للطعن فيها بأي طريقة ، إلا وهي مصلحة المجتمع ، فالقانون مهما صعبت فلسفته الوضعية وتعالت على الأفهام والأذهان ، إلا أن الهدف النهائي منها واضح وجلي وهو حماية حقوق الأفراد وحرياتهم ودرء التعارض فيما بينها ورفعه ، وحماية قيم المجتمع وحرماته العليا من الهدر والاعتداء عليها بأية ادعاءات كانت. ثم إن المشرع الليبي افترض وجود طبقات اجتماعية رأسمالية متسلطة ، لها القدرة على التلاعب بمصالح المجتمع الليبي وفق أبجديات مصالحها المادية والسلطوية . وهذا الافتراض كان في معظم تراكيبه المعرفية والفلسفية محض توهم .
فطبيعة المجتمع الليبي حال كونه مجتمعاً حديثاً لم يمضي عليه زمن طويل حتى ينتقل من الحالة الاجتماعية والاقتصادية قبل عام 1964م عام اكتشاف النفط في ليبيا ، إلى حالة أو منظومة اقتصادية ضخمة تتحكم فيها رؤوس أموال كبيرة للسيطرة وإضعاف قوة الطبقات الأقل ، فالمجتمع كان في طور الولادة والنمو ، والخطر لم يكن داهماً أو حتى حالاً أو متصورا، حتى يتسرع المشرع الليبي المدعوم بنظريات وأيديولوجيات سياسية ، في الانقضاض المبكر على مجريات حياة الأفراد الاقتصادية وتوجيهها ، ثم القضاء عليها تماماً ، واعتبار الدولة هي الوكيل الرسمي عن الأفراد في ممارسة أية نشاطات ربحية اقتصادية .
إلا أن الدولة ولتدهور الآليات والإجراءات المتبعة أ ولاً ، ومحاولة زرع منظومة ثقافية قانونية في مجتمع لا زال تحت الإنشاء ثانيا ، فأصبح ما كان يريد أن يتوخاه المشرع الليبي بالقضاء على طبقة اجتماعية لها نفوذً اقتصادي كبير ظهر وبصورة أخرى مختلفة ، فعندما اختفت التجارة والتجار عبر التشريعات الليبية التي حرّمت ممارسة ومزاولة الأنشطة التجارية ، ظهرت طبقة الموظفين التي كانت مهمتها إدارة المؤسسات الإقتصادية الإشتراكية ، والتي أعلنت عن نفسها عشية الانفتاح الاقتصادي ، والسماح بهذا الانفتاح عملياً ، لا نظرياً وقانونياً ، وتحولت هذه الطبقة أي طبقة الموظفين الذين تولوا إدارة المؤسسات الاقتصادية الاشتراكية إلى طبقة من رجال الأعمال والذين لا يعوزهم النفوذ حتى بعد توجههم صوب النشاط الاقتصادي الحر .
وبالتالي توجه المشرع الليبي توجهّاً عنيفاً نحو القضاء على طبقة رجال الأعمال والتجار ، والتي كان من الممكن أن يستفاد منها في دعم الاقتصاد الوطني لو وجهت نشاطات تلك الطبقة بإجراءات أقل عنفاً وأقل حدة ، فكان من الممكن للمشرع الليبي تفادي الوضع الكارثي والصعب ، لو أنه جعل منظومته التشريعية والقانونية آلة دفع هذه الطبقة إلى الأمام مع حماية المصالح المجتمعية العليا ، وحماية حقوق الأفراد تجاه هذه الأنشطة ، ثم إن الحديث عن مجتمع طوباوي ، يخلو من الاستغلال ، أو الحديث عن مجتمع رأسمالي يخون فيه كل صاحب نشاط اقتصادي مصالح وطنه ، أصبح حديثاً تعوزه العملية ، فكان يفترض على المشرع الليبي أن ينظر نظرة فاحصة إلى حالة المجتمع الليبي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والعقائدية ، ويستخدم مكونات المجتمع عن طريق صهرها في بوتقة قانونية لا تعطل ملكات الأفراد ، ولا تشل حركة التنمية في المجتمع ، وبعد هدر كثير من الطاقات والإمكانات البشرية والمادية ، بدء المشرع الليبي رحلة العودة إلى البداية ، بمحاولة التخفيف من حدة وطبيعة القوانين الاقتصادية والمدنية والتجارية ذات العلاقة بأنشطة الأفراد . فبدء سلسلة من الإجراءات العملية للترجيع والتعويض عن الأملاك العقارية ذات الطابع التجاري والسكني والتي سيطرت عليها الدولة طيلة عقدين وأكثر من الزمن بموجب القانون رقم (4) لسنة 1978م ..
ظناً من المشرع عند إصداره لهذا القانون أنه سيقضي على ظاهرة الإيجار _ وهي ظاهرة إنسانية وعالمية _ وسيمكن كل ليبي من الحصول على مسكن له ولأسرته ولأولاده القصر ، إلا أنه قضى وعن تعمد أيضاً على حركة التطور العمراني الفردية ، والتي كان للأفراد دور في تأسيسها إبان الانتعاش الاقتصادي ، وأنيطت بالدولة مهمة التوسع الأفقي والرأسي العمراني والتي عجزت عن مواكبة حركة المجتمع الليبي .
الذي أصبح يواجه مأزقاً حقيقاً فيما يتعلق بتوفير السكن المناسب للأسرة الليبية , كان هذا التراجع العملي لا القانوني _ فالقانون رقم (4) لسنة 1978م لا زال على قيد الحياة القانونية ويهدد النشاط العمراني الفردي _ قلنا إن هذا التراجع لم يكن عن أن المشرع الليبي أراد مواكبة التطورات والتي يُفترض في القانون العادي أنه يواكبها ويسرع إليها تلبية لحاجات اجتماعية وفردية واقتصادية تتعلق بنشاطات وحياة الأفراد .
لا ، بل كان هذا التراجع عن يقين أن المنظومة القانونية التي توالت وسيطرت على مجريات نشاطات الأفراد ، تصادمت مع فطرة الإنسان في حب التملك ، تصادمت مع الواقع الحياتي اليومي المعاش ، وأهدرت وعطلت كثير من الطاقات والأموال. فالمنظومة القانونية الليبية سواء الاقتصادية التجارية والمدنية والجنائية التي لا مجال لبسط العيوب والعطب الضخم الذي انتابها أثناء رحلة التطبيق العملي ، جديرة بوصفها مرحلة ما بعد القانون . أي غياب مرجعية أساسية علمية وعملية وأخلاقية تستند إليها هذه المنظومة في تلبية حاجات المجتمع والأفراد على السواء ، فمرحلة ما بعد القانون هي عينها مرحلة غياب القانون ، فقد آثرنا تسميته المرحلة القانونية الليبية والتي بعدت فيها الرؤيا الفلسفية عن الواقع الحياتي المجتمعي باسم ما بعد القانون أي غياب القانون ، فالقانون هو المنطقة الوسطى فيما بين قبل القانون ، وفيما بعد القانون .
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً