عرض قانوني لاحكام المفقود زوجها
أ* أحمد أبو زنط
المراد بــ (المفقود) – في الإصطلاح الفقهي -:
(من انقطعت أخباره عن أهله، وجُهِل مكان وجوده، سواء عُلمت حياتُه أو جهلت حياته أو موته، وسواءً في ذلك المسافر، ومن كان في معركة، ومن غرقت سفينته في بحر، ومن اعتقلته السلطات الحكومية فانقطعت أخباره ولم يعلم مكان اعتقاله، وغير ذلك من أسباب الفقد).
إذا فقد الزوج بالنحو المذكور في المسألة السابقة، وصبرت زوجته على ما يفوتها من حقوق واجبة لها عليه، كالنفقة، ولم تخش على نفسها الوقوع في الحرام، فرغبت في البقاء على زوجيتها له، كان لها ذلك بدون إشكال، ولم تنفصم بفقده وعدم إنفاقه عرى العلاقة الزوجية بينهما مهما طال الزمان ما لم تعلم وفاته.
وأما إذا أرادت نفقتها وطالبت بها، فإن كان لزوجها مال يمكن الوصول إليه والإنفاق منه، أو أنفق عليها وليُّه أو من هو بحكمه – وهو أبوه أو جده لأبيه أو المفوض من قبله بالإنفاق عليها ورعاية أمورها – ولم تخش على نفسها الوقوع في الحرام، لزمها الإكتفاء بذلك والبقاء على زوجيتها له مهما طال الزمن. ثم إن جرى الأمر على هذا النحو كان خيراً، وإلا فإن لم تصبر على حاجتها الجنسية، فصارت تخشى على نفسها من الوقوع في الزنى ونحوه من المحرمات، رغم الإنفاق عليها، أو صبرت على حاجتها الجنسية ولكن لم يكن للزوج مال يُنْفَق منه ولا أَنفقَ عليها الولي، اختلف حكمها على نحوين:
الأول: أن يكون زوجُها المفقودُ معلومَ الحياة ومجهولَ المكان، بحيث لا يتيسر الوصول إليه والتفاهم معه؛ وهنا: يجوز لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي وتطلب منه الطلاق، وبعد أن يتثبت الحاكم من كونه مفقوداً بهذا النحو، وبعد أن يثبت له عدم الإنفاق عليها، يسوغ له أن يستدعي وليه ويأمره بطلاقها، فإن استجاب كان خيراً، وإلا أجبره على طلاقها، فإن لم يمكن إجباره طلقها الحاكم، وكان طلاقه بائناً، وحيث يجب عليها الاعتداد منه فإن عليها عدة الطلاق، فإذا انقضت عدتها صارت خلية منه وساغ لها التزوج من غيره. وكذا الحال فيمن طلبت الطلاق لخشيتها من الوقوع في الحرام، سوى أنه حيث لا يمكن التثبت من صدق ادعائها خوف الوقوع في الحرام تصدق في دعواها ويعمل بمقتضاها. ثم إن عاد زوجها بعد أن طلقت – ولو أثناء عدتها – لم يكن له عليها سبيل.
الثاني: أن يكون الزوجُ المفقودُ مجهولَ الحياة والموت؛ وحكمه أنَّ لزوجته أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي في حالة خوفها من الوقوع في الحرام ولو مع الإنفاق عليها، وفي حالة عدم الإنفاق عليها، فيمهلها الحاكم أربع سنين، تبدأ من تاريخ رفع دعواها، ثم يباشر بالفحص عن الزوج لاستعلام حياته أو موته، فإذا انقضت السنون الأربع ولم تتبين حياته ولا موته، أمر الحاكم وليَّه بطلاقها، فإن لم يستجب أجبره عليه، فإن لم يمكن إجباره، أو لم يكن له ولي، طلقها الحاكم بنفسه أو بوكيله، ولزمتها عدةٌ كعدة الوفاة، أي: أربعة أشهر هلالية وعشرة أيام، لكنَّها عدة رجعية، تثبت لها فيها النفقة ويرجعها زوجها إذا عاد في أثنائها، ويرث كل واحد منهما صاحبه إذا مات خلال العدة فإذا انقضت بانت منه وجاز لها التزوج بغيره.
لا يعتبر في الفحص قيام الحاكم به بنفسه أو بتكليف غيره بعد رفع الأمر إليه، فلو كانت المرأة قد بادرت إلى الفحص عن زوجها بعد فقده وقبل رفع الأمر إليه، بالنحو المعتبر مدة أربع سنين أو أقل أو أكثر، ثم رفعت أمرها إلى الحاكم، كفى بحثها عن بحثه، واحتسبت لها المدة التي فحصت فيها، فإن كان قد بقي شيء من المدة لم يُفحص فيه أُكمل الفحص بأمر الحاكم واكْتُفي به، وإن تمت السنون الأربع قبل رفع الأمر إليه، كفى – حينئذ – قيام الحاكم بتجديد الفحص عنه مقداراً مَّا، إذا احتُمل تَرَتُّبُ أَثرٍ عليه، وإلاَّ فلا حاجة له، فيُكتفى به ويجري الأمر على النحو السابق.
وكذا لا يعتبر في الفحص حدوثُه عند وجود المسوغ لرفع الأمر إلى الحاكم، من عدم الإنفاق عليها أو عند خشيتها من الوقوع في الحرام، فلو جرى الإنفاق عليها بالنحو المطلوب، وخشيت من توقف النفقة، ورغبت في تفادي الحاجة إلى من ينفق عليها خلال مدة الفحص الطويلة، جاز لها الطلب إلى الحاكم ليفحص عنه رغم الإنفاق عليها، بل جاز لها أن تقوم هي بالفحص ولو دون رفع الأمر إلى الحاكم، فإذا انقضت السنون الأربع أو بعضها، وكان قد تم الفحص فيها مستكملاً لشروطه، أمكن الإكتفاء به إذا طالبت بالطلاق عند وجود المسوغ له.
ليس للفحص عن المفقود كيفية خاصة وطريقة معينة، بل المدار على ما يعدّ طلباً وفحصاً وتفتيشاً، ويختلف ذلك باختلاف أَنواع المفقودين، فالمسافر المفقود يُبعث من يعرفه بإسمه وشخصه – أو بصفاته – إلى مظان وجوده للظفر به، أو يُكتب إلى من يعرفه ليبحث عنه في ما يحتمل وجوده فيه من البلاد، أو يُطلب من المسافرين إليها من الزوار والحجاج والتجار وغيرهم أن يبحثوا عنه في مسيرهم ومنازلهم ومقامهم ويستخبر منهم إذا رجعوا من أسفارهم. وإذا علم أنه كان في بلد معين وفي زمن معين، ثم انقطع أثره، يتفحص عنه أولاً في ذلك البلد على النحو المتعارف، بأن يسأل عنه في جوامعه ومجامعه وفنادقه وأسواقه ومتنزهاته ومستشفياته وسجونه ونحوها، ولا يلزم استقصاء تلك المحال بالتفتيش والسؤال، بل يكتفى بالبعض المعتد به من مشاهيرها، ويلاحظ في ذلك زي المفقود وصنعته وحرفته، فيبحث عنه في المحال المناسبة له ويسأل عنه أبناء صنفه وحرفته، فإذا كان طالب علم – مثلاً – فالمحل المناسب له هو المدارس ومجامع العلم، فيُسأل عنه العلماء وطلبة العلم؛ وهكذا بقية الأصناف من الحرفيين والأطباء ونحوهم.
فإذا تم الفحص في ذلك البلد ولم يظهر منه أَثر، ولم يعلم موته ولا حياته، فإن لم يحتمل انتقاله منه إلى محل آخر بقرائن الأحوال سقط الفحص والسؤال، واكتفي بانقضاء مدة التربص أربع سنين كما تقدّم، وإن احتمل الإنتقال احتمالاً معتداً به، فإن تساوت الجهات في احتمال انتقاله منه إليها بُحث عنه في تلك الجهات، ولا يَلزم الاستقصاء بالتفتيش في كل قرية قرية ولا في كل بلدة بلدة، بل يُكتفى ببعض الأماكن المهمة والمعروفة في كل جهة، مع مراعاة الأقرب فالأقرب إلى البلد الأوّل، وإذا كان احتمال انتقاله إلى بعضها أقوى فاللازم جعل محل الفحص ذلك البعض، ويكتفى بالفحص فيه إذا بَعُد احتمال انتقاله إلى غيره.
هذا فيما إذا علم أن المسافر المفقود كان في بلد معين. وأما إذا علم أنّه كان في بعض الأقطار كإيران والعراق ولبنان والهند ثم انقطع أثره كفى الفحص عنه مدة التربص في بلادها المشهورة التي تشد إليها الرحال مع ملاحظة صنف المفقود وحرفته في ذلك.
وإذا علم أنّه خرج من منزله قاصداً التوجه إلى بلد معين – كالعراقي إذا خرج براً يريد زيارة الإمام الرضا(ع) في مشهده المقدّس بخراسان ثم انقطع خبره – يكفي الفحص عنه في البلاد والمنازل الواقعة على طريقه إلى ذلك البلد، وفي نفس ذلك البلد، ولا يجب الفحص عنه في الأماكن البعيدة عن الطريق فضلاً عن البلاد الواقعة في أَطراف ذلك القطر.
وإذا عُلم أنّه خرج من منزله مريداً للسفر – أو هرب – ولا يُدرى إلى أَين توجّه، وانقطع أثره، لزم الفحص عنه مدة التربص في الأطراف والجوانب التي يحتمل وصوله إليها احتمالاً معتداً به، ولا ينظر إلى ما بَعُد احتمال توجهه إليه.
وأما المفقود في جبهات القتال فتراجع بشأنه الدوائر المعنية بأحوال الجنود المشاركين في المعركة أو يسأل عنه رفاقه العائدون من الجبهات والأسرى العائدون من الأسر؛ وأما المعتقل المفقود فتُسأل عنه دوائر الشرطة والجهات الأمنية ذات العلاقة، وهكذا.
يجوز للحاكم الإستنابة في الفحص وإِن كان النائب نفسَ الزوجة، فإذا رفعت أمرها إليه فقال: «تفحصوا عنه إلى أن تمضي أربع سنوات»، ثم تصدت الزوجة أو بعض أقاربها للفحص والطلب حتى مضت المدة كفى.
إذا تحقق الفحص التام قبل انقضاء المدة، فإن بقي احتمال – ولو بعيد – بالوجدان إذا استمر الفحص وجب الإستمرار به في ما بقي من المدة، وإن حصل اليقين بعدم الوجدان سقط وجوب الفحص، ولكن لا يصح طلاقها قبل انقضاء المدة؛ ولو تمت السنون الأربع واحتمل وجدانه بالفحص بعدها لم يجب، وصحَّ طلاقها – رغم ذلك – على رأس المدة المضروبة.
لا تلزم المرأة بعد رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، ولو بعد تحقق الفحص وانقضاء الأجل، بالإستمرار على طلب الطلاق، بل يصح لها التراجع عن ذلك قبل إيقاع الطلاق، واختيار البقاء على الزوجية، بل إن لها – أيضاً – بعد هذا العدول إلى البقاء على الزوجية أن تعدل عنه إلى الطلاق من جديد.
إذا تعذر الفحص عن المفقود لم يسقط، ووجب على زوجته الإنتظار إلى حين تيسره، فإذا زال المانع منه قبل مضي المدة المضروبة وفُحص عنه في ما بقي منها بالنحو المطلوب، ولا سيما إذا حصل اليقين بعدم وجدانه، اكتفي به وجاز طلاقها بعد انقضاء المدة، وأما إذا لم يكن قد اكتمل الفحص في المدة الباقية، أو ظل المانع من الفحص موجوداً إلى أن انقضت المدة، كفى الفحص عنه بعد المدة إلى أن يحصل اليأس بعدم وجدانه، ثم يصح طلاقها.
لا يشترط الإسلام – فضلاً عن العدالة – في من يستناب للبحث عن المفقود، كما لا يشترط ذلك في من يُستخبر منهم عن حال المفقود، بل يكفي الوثوق بصدقهم.
إذا علمت حياة الزوج، أو رجع إلى بيته، بعد الفحص عنه وانقضاء الأجل الذي ضربه لها الحاكم، فإن كان قبل الطلاق فهي زوجته، وإن كان أثناء العدة تخير بين الرجوع إليها وبين إبقائها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وإن كان بعد انقضاء عدتها فقد بانت منه ولم يكن له عليها سبيل إلا بعقد جديد.
وإذا علم موت المفقود، فإن كان أثناء الأجل أو بعده وقبل الطلاق لزمتها عدة الوفاة، وإن كان أثناء العدة لزمها استئناف عدة وفاة جديدة، وإن كان بعد انقضاء العدة أكتفي بها، سواءً كان انكشاف الموت قبل أن تتزوج من غيره أو بعده، وسواء كان موته قد حدث قبل شروعها في العدة أو أثناءها أو بعدها أو بعد التزوج من الغير.
إذا تبين بعد الطلاق وانقضاء العدة وقوع خلل في بعض الإجراءات المتقدمة، كأن تبيَّن حدوث تقصير في الفحص من حيث الكيفية أو من حيث المدة، أو تبيَّن وجود خلل في بعض شروط الطلاق، أو نحو ذلك، جرى على المرأة حكم ذات البعل، فإن لم تكن قد تزوجت لزم تدارك الخلل الذي حصل، وإن كانت قد تزوجت فزواجها باطل، وإذا كان زوجها قد دخل بها جاهلاً بالحال حرمت عليه مؤبداً على الأحوط وجوباً، إلا أن يتبيَّن أن زوجها كان متوفى حين العقد عليها، فالعقد وإن كان باطلاً إلا أنه لا يوجب الحرمة الأبدية ولو مع الدخول بها.
إنما تحتاج زوجة المفقود إلى ما سبق ذكره في المسائل المتقدمة، من رفع الأمر إلى الحاكم والفحص عنه، في حالة عدم علمها بحال زوجها، إذ لا يمكنها الخروج عن عصمته – حينئذ – إلا بهذا النحو الذي ينتهي بالطلاق، إضافة إلى حاجتها إليه من أجل أن يكون وثيقة بيدها تبرزها عند الحاجة لإثبات كونها خلية فيمكنها التزوج، حتى في صورة علمها ويقينها – دون غيرها – بوفاة زوجها. وعليه، فلو فرض علم الزوجة بوفاة زوجها المفقود فإنه يجوز لها – في ما بينها وبين الله تعالى – ترتيب الأثر على ذلك، فتعتد عدة الوفاة مقرونة بالحداد، فإذا انقضت جاز لها أن تتزوج من غيره، وذلك دون حاجة إلى مراجعة الحاكم ولا إلى التربص ولا الطلاق، فإن فعلت ذلك لم يكن لأحد معارضتها إلا أن يَعلم كِذْبَها في دعوى الوفاة، كما أنه يجوز الاكتفاء بقولها لمن يريد التزوج بها إذا لم تكن متهمة عنده، وإلا لزمه ترك التزوج بها على الأحوط وجوباً.
اترك تعليقاً