الـــقـــيــــم الأخـــــلاقـــيــــة فـــي الــعـــقــــود
إن موضوع القيم الأخلاقية في العقود هو أهم ما يشغل تفكير العالم الحقوقي الحديث لحل المشاكل التي تعترض تنفيذ الالتزامات بين الأفراد والجماعات ، وهو موضوع لا يمكن بحثه إلا باستعراض المشكلة التي تعانيها المفاهيم الأخلاقية في إنشاء الحق وإظهاره . فقد أخذ الفقهاء والمشرعون في هذا العصر الذي يلتهب فيه العالم بأتون الفتن والحروب ، يدعون إلى بعث الأخلاق وإحيائها ، لترد عادية الطغيان الذي سلط فيه الإنسان القوى المادية العاتية لتحطيم الحضارة البشرية .
ومن الحقائق المؤلمة التي اقرها الفلاسفة الأخلاقيون للعصر الحاضر أن ارتقاء العلم قد مكن للإنسان قوة عجيبة ، جعلته يستخف بجميع القيم الأخلاقية التي حفظت معالم المدنية ونقلتها من جيل إلى جيل ، وأن العلم إذا استمر في ارتقائه دون مراقبة الأخلاق فويل للحضارة الإنسانية من العلم .
ونحن الذين نعيش في هذا العصر ، وقد تتابعت فيه ويلات الحروب ، رأينا بأعيننا المصير المؤلم الذي حل بالقيم الأخلاقية ، والنهايـة المحزنـة التي انتهت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) محاضرة ألقيت بدار الكتب الوطنية بحلب بتاريخ 21/2/1950 بدعوة من نقابة المحامين بحلب .
(**) المحامي الدكتور عبد السلام الترمانيني كان نقيباً للمحامين في عام 1947 . وكان أول من شغل منصب عميد كلية الحقوق في جامعة حلب ، كما كان عضو المجمع العلمي العربي في القاهرة . وقد شغل العديد من المناصب العلمية والإدارية داخل القطر وخارجه وكان أحد أساتذة القانون المرموقين في العالم العربي . وقد توفي إلى رحمته تعالى منذ عدة سنوات .
إليها شعوب وأمم كانت تعيش بأمن وسلام ؛ ذلك أن انحلال الأخلاق قد حوّل العلم من أداة نافعة إلى أداة مدمرة لم تبق وزناً للعهود الدولية التي كان يصونها الشرف وتحميها الفضائل .
ولهذا فإن القلق الذي يسود العالم الحاضر لن يزول ما دامت القوة المتجردة عن المبادئ الأخلاقية هي المرجع في حل المشكلات الدولية ، وإن العلم الذي جمع شتات العالم وقضى على أبعاده ومفاوزه لن يستطيع أن يخلق من مجموعة الشعوب عالماً موحداً إذا لم تجمع الأخلاق ما تشتت من أهوائه وتفرق من مبادئه ؛ فليس من مفهوم الحضارة مهما بلغ ارتقاء العلم أن يقطع الإنسان الكرة الأرضية في يوم أو بعض يوم أو يلتقي الشتيتان في ساعات ، بل إن مفهوم الحضارة أن يقطع الإنسان الأرض ليبذر فيها الخير وينشر فيها السلم ، وأن يلتقي الشتيتان على النفع والإحسان لا على الطعن بالسنان .
إن المبادئ الحديثة التي قسمت شعوب العالم إلى فئات متنافرة متربص بعضها ببعض لا يمكن أن تحقق الخير والسلم لهذا العالم لأنها منبعثة عن التفكير المادي الخالص ولأنها تفرض سلطانها بالقوة التي لا وازع لها ولا رقيب عليها ؛ وستبقى هذه المآسي البشرية قائمة ما دامت القيم الأخلاقية لا وزن لها في الصلات بين الشعوب ، فالوفاء والشرف والصدق والمروءة التي بشر بها الأنبياء ودعا إليها الحكماء ينبغي أن تكون أساساً لجميع المبادىء الإنسانية لتكون دعامة للحق ، وحافزاً للقيام بالواجب ونصيراً للخير على الشر ، وبدونها لا يكون للعقود والاتفاقات الدولية شأن بل تصبح مراسيم شكلية لتحفز القوي وانقضاضه على الضعيف .
هذه هي شكوى الشعوب والجماعات التي يعبر عنها علماء الأخلاق ، وهي ذات الشكوى التي يألم منها الأفراد ، ويعبر عنها علماء القانون ، ذلك أن حياة الجماعات صورة مجسمة تنعكس فيها ما ينبعث في الأفراد من مظاهر العقل والشعور . وفي الحق فإن العالم بأفراده وجماعاته أخذ يشعر بالمكان الذي يجب أن تحتله القيم الأخلاقية في علاقاته ومعاملاته ، لذلك أخذت أكثر الشرائع تتحول من حماية العقد إلى حماية المتعاقدين ، وتدعو إلى الأخذ بمعاني العقود دون التقيد بألفاظها ومبانيها ، فالعقد هو واسطة التبادل ، وغايته أن يتم هذا التبادل بين الأفراد بحيث لا يستوفي أحد المتعاقدين أكثر من حقه الذي يبتغيه ، وأن لا يتحكم الآخر أكثر مما يُلزمه به عبء الموجب ، فإذا انتهى العقد إلى غير هذه الغاية فسد نظام التبادل الذي تقوم عليه علاقات الأفراد في المجتمع ، وآل هذا الفساد إلى فساد المجتمع ذاته .
المذاهب المختلفة في الحق
1 – نظرية الحق الطبيعي :
لقد سعى الرومان إلى حماية العقود بالمراسيم الشكلية ، فكان العقد لا يتم إلا إذا قام المتعاقدان بهذه المراسيم ، فإذا تمت نشأت الصلة الحقوقية بينهما ولا سبيل إلى فصمها إلا بمراسيم شكلية أخرى . فلما انتشرت المسيحية في أوربا عدلت من قسوة هذه المراسيم ثم ما لبثت أن قضت عليها وأقامت الصلات الحقوقية على مبادئ أخلاقية ، وبذلك حولت الشريعة الرومانية من شريعة يابسة صلبة محدودة إلى شريعة إنسانية شاملة عمرت قصوراً طويلة وكانت ينبوعاً لأكثر الشرائع الحديثة .
وفي خلال العصور الوسطى نشأت الإقطاعية المدنية ، ونشأت إلى جانبها إقطاعية رجال الدين ، وأخذت هذه الإقطاعيات تتنافس على بسط القوة والسلطان ، وعاشت الشعوب في بحران هذا التنافس الطاغي ، وفي نفسها ألم ممض وتحفز للثورة ، حتى نشأت في القرن السابع عشر طبقة الفلاسفة الأحرار الذين دعوا إلى عبادة الطبيعة ووجدوا فيها تطميناً للنفوس المضطهدة ، وقرروا أن الإنسان ابن هذه الطبيعة التي أوجدته ليكون حراً طليقاً من كل قيد ، وأن ليس لأحد أن يمنعه من تصرفاته القولية أو الفعلية . وفي الواقع فإن الكلام عن الحقوق الطبيعية هو قديم ، وقد تكلم عنها رجال اللاهوت الأقدمون حين بحثوا عن العقل، فقد قال « سان توما St. Thomas » . حين بحث عن الحق الطبيعي ، إنه لا يمكن أن ينكر على الإنسان قدرته على أن يكتشف بنور عقله القوانين التي تتلاءم أكثر ما يكون مع طبيعته الإنسانية . غير أن هذه الطبيعة وهذا العقل كلاهما من صنع الله ومن خلقه » . فهذه القوانين التي يكتشفها الإنسان بنور عقله هي عند (سان توما) القوانين التي تقرر حق الإنسان الطبيعي ((jus naturalis)) . وهي عنده جزء من الدين ، لأن العقل الذي هدى إليها هو من صنع الله تعالى .
وهكذا بقي الحق الطبيعي جزءاً من قواعد الدين حتى مستهل القرن السابع عشر ، حينما وضع الفقيه كروسيوس ((Grotius)) قواعد المدرسة الطبيعية ، وفصل الحق الطبيعي عن الدين ، وقرر أن فكرة الحق الطبيعي ليست لها بذاتها قيمة إلا إذا اعتمدت على العقل الإنساني وحده ، وأنه لا يمكن وصف فعل من الأفعال بأنه صحيح أو فاسد ، عادل أو جائر ، إلا بمقدار ما ينطبق على العقل وحده ، وأن الله إنما خلق العقل ليأمر الإنسان باتباع ما هو حسن وينهاه عما هو قبيح . ويقول الأستاذ ريبير ((Ripert)) بأن البروتستانتية كان لها تأثير كبير في وضع هذه النظرية التي نشرها (كروسيوس) وتلقاها من بعده فلاسفة العصرين السابع عشر والثامن عشر مثل ديكارت في نظريته عن المذهب العقلي ، ولوك في نظريته عن الحقوق الفردية ، والفيزيوقراطيون في نظريتهم عن الحرية الاقتصادية وروسو في نظريته عن العقد الاجتماعي ومونتسكيو في نظريته عن حرية الشعوب والأنسلكلوبيديون في نظريتهم عن حرية الاعتقاد .
وقد اتخذ هؤلاء الفلاسفة من تلك النظريات المختلفة وسيلة لفصل الحق عن الدين وتجريده من كل سلطان ، ليستمد سلطانه من الطبيعة التي هي وحدها منحت الإنسان الحقوق التي يجب أن يتمتع بها ، وذلك لتخليص الناس من سلطان الدين الذي اتخذه الملوك وسيلة لبسط طغيانهم وإنفاذ حكمهم قائلين بأنه مستمد من عند الله .
فلما انتصف القرن الثامن عشر ، كانت النفوس قد تهيأت للثورة ، فاندلعت يتلو بعضها بعضاً ، واندفعت الشعوب تدك العروش الرفيعة والحصون المنيعة ، وانتهت هذه الثورات الدامية بإقرار مبدأ الحرية والمساواة ، ذلك المبدأ الذي أصبح عنواناً لدساتير الأمم المتحررة باعتباره حقاً طبيعياً للإنسان . ففكرة الحقوق الطبيعية إذن كانت نتيجة محتّمة لما ظهر من ثورات في القرن الثامن عشر الذي يعتبر عصر الإيمان بالحقوق الطبيعية للإنسان والجماعات . وقد كانت الثورة الفرنسية المظهر المعبّر لهذه الحقوق في جميع ما وضع مشرّعوها من قوانين ، ففي المشروع الذي وضعه كامباسيريس ((Cambaceres )) للقانون المدني ، أوضح عن فكرة الحق الطبيعي بقوله « إن الإنسان حينما يتحرر من عبادة الإله يجب أن يحتفل بألوهية العقل مقراً على الرغم منه بأن هذا العقل ليس مجرد هوى من الأهواء ، وإنما هو قوة عليا يجب أن نخضع لها ونجثو أمامها .
وقد نصت المادة الأولى من الباب التمهيدي لمشروع القانون : « يوجد حق شامل ومستقر دائم هو مصدر جميع القوانين الوضعية ، وما هو سوى العقل الطبيعي الذي يخضع له الناس جميعاً » .
2 – النظرية التاريخية :
غير أن واضعي القانون المدني ، وهم من كبار المشرعين والفقهاء الغوا هذه المادة ولم يثبتوها ، ولم يكن ذلك منهم إهمالاً لفكرة الحق الطبيعي وانتقاصاً من شأنه ، فالناس في طيلة القرن التاسع عشر كانوا يؤمنون بهذا الحق ، وما زال منهم من يؤمن به حتى الآن ، وإنما أراد واضعو القانون أن يجعلوا منه تشريعاً وضعياً خالصاً يقوم على مبدأ الحرية والمساواة المطلقة بحيث لا يتحكم مذهب من المذاهب في تحديده وتقييده ، وقد أحسنوا بذلك صنعاً ، فقد ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر المدرسة التاريخية التي أنشأها الفقيه الألماني سافيني ((Savigny)) تلك المدرسة التي تؤمن بأن الإنسان لا يستمد القوانين التي يشرعها والقواعد التي يخضع لها من حق طبيعي ثابت مستقر ، وإنما يستمدها من الحوادث التاريخية والاجتماعية التي مرت في حياته وأثرت في تطوره ولذلك فإن القوانين والقواعد التي تنظم حياة الإنسان في المجتمع تخضع لهذا التطور .
وقد كان لهذه النظرية صدى كبيراً في العالم الحقوقي لأنها قضت على فكرة القانون المستمد من حق طبيعي ثابت .
وقد سعى بعض كبار الفقهاء إلى التوفيق بين المذهبين ، مذهب الحق الطبيعي ، ومذهب التطور ، فذهب سالي ((Saleilles)) إلى القول بأن هناك حقاً طبيعياً متحولاً (droit naturel variable) ، غير أن هذا المسعى في التوفيق كان موضعاً لنقد لاذع مرير.
3 – نظرية المدرسة الاجتماعية :
ثم ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر المدرسة الاجتماعية (Ecole Sociologique) التي أنشأها دوركايم (( Durkheime)) فجعلت من الحق والأخلاق قضايا اجتماعية واقعية تخضع للبحث والتحليل كما تخضع لهما سائر العلوم الطبيعية ، وقد أراد دوغي ((Duguit)) أن يقيم قاعدة الحق على هذا المبدأ الذي يجعل من الحق علماً واقعياً يقوم على المشاهدة والاستنتاج .
ولا ريب في أن جميع هذه المذاهب المختلفة هي مظهر لانطلاق العقل والتفكير في البحث عن الينبوع الذي يصدر منه الحق وتنتظم فيه علاقات الأفراد ، فالتجأ الإنسان إلى الطبيعة ليستمد منها حقاً يحرره من استبداد الملوك والأمراء وطغيانهم ، فلما ظفر بحريته ، ظهرت أمامه آفاق المعرفة والاكتشاف وتأثرت حياته وطرق معاشه باتساع العلم وارتقائه ، فلجأ إلى البحث عن الحق بوسائل العلم ليوفق بينه وبين هذا التحول السريع الذي جعله يعيش من أجل الجماعة بعد أن كان يعيش من أجل نفسه .
ولكن هل استطاع الإنسان بالحق الطبيعي ، أو بأساليب العلم أن يهتدي إلى مصدر الحق ؟ في الواقع ، إن جميع هذه المذاهب والنظريات لم تهتد إلى حل مشكلة الحق ومعرفة مصدره ومقوماته وهي كما قال ريبير ((Ripert)) كالأزياء تنتشر فترة من الزمن يطول أو يقصر بمقدار ما يكون لها من قوة الإغراء وكثرة الأتباع والأنصار ، ولكنها لا تلبث أن تزول .
4 – نظرية القيم الأخلاقية :
وفي الحق ، فإن هذه المذاهب التي ازدحمت في القرن التاسع عشر ، وشغلت علماء القانون والفلسفة والاجتماع في جدال ونقاش صدرت عنه أجلّ وأروع المؤلفات العلمية ، أخذت تتقلص شيئاً فشيئاً حينما انطوت صفحة ذلك القرن عن هذا القرن الذي نعيش فيه ، فبدأت سلسلة هذه الحروب التي ما زال يندلع أوارها ويتصل شرارها ، ووقف الضمير الإنساني ليشاهد انقضاض العلم على الحرية واستبداد القوة بالحق ، ويبحث عن وسيلة لإنقاذ الحق الذي لم تعد تلك المذاهب والنظريات قادرة على إنقاذه .
وهنا ظهرت الفكرة الأخلاقية التي أخذت تدعو إلى جعل الأخلاق رقيباً على إنقاذ الحق وحامياً له ، ففي النظام الدولي (Order International) نجد الدعوة إلى القيم الأخلاقية ظاهرة في جميع النظم التي تحاول الشعوب فيها تحديد سلطان القوة، باستنهاض الوجدان الإنساني واللجوء إليه في رد العدوان ونشر السلام . وفي النظام الداخلي (Order Interne) نجد جميع الشرائع الحديثة قد اتجهت إلى الاعتراف بالقيم الأخلاقية مصدراً للحق ورقيباً عليه ، وتركت للقاضي حقاً مطلقاً في البحث عن هذه القيم في جميع العلاقات الحقوقية بين الأفراد لكي لا يستبد القوي بالضعيف ولا ينال ظالم من مظلوم .
وهكذا ظهرت القواعد الأخلاقية في نطاق الحق متممة للقواعد القانونية ومؤيدة لواجب الخضوع لها ، وعلى ذلك فإنه ينبغي على القاضي حينما يستمع إلى أقوال المتقاضين ويصغي إلى حجج الخصوم أن لا يفصل في حكمه إلا بعد أن يستمع إلى قول الضمير ويصغي إلى حجة الأخلاق ، لأن مهمته هي في تحقيق العدل لا في تأمين المنافع والأهواء ؛ وبذلك يكمل القاضي مهمة المشرع ويقوم مقامه ، فإذا أقر المشرع عن نسيان أو إهمال قاعدة قانونية يفضي تطبيقها إلى الإخلال بقواعد الأخلاق فعلى القاضي أن ينتصر للأخلاق ضد الحق الذي قرره القانون . فالأخلاق عنصر ضروري للحق ، وليس هو قاعدة لبنائه وإنما هو قوة عظيمة ذات حياة ونشاط توجه الحق وتبنيه وتستطيع إذا شاءت أن تهدمه .
كذلك فإن مهمة الشرع أو الفقيه ليست في صياغة القانون وتفسير نصوصه ، وإنما هي في تقرير المثل الأخلاقية العليا وصبّها في الصياغة والتفسير لكي تتحول القيم الأخلاقية إلى قواعد حقوقية ، وفي الواقع فإن كثيراً من القيم الأخلاقية قد انتصرت ودخلت في نطاق الحق توجهه وتحميه . فالقواعد التي فرضت التعاون بين الأفراد ، ونظمت حماية الطفولة ، وأبطلت العقود المخالفة للآداب ، وحرمت الإثراء بلا سبب ، ومنعت إساءة استعمال الحق ، وحمت العامل من رب العمل ، وقررت فرض الضرائب بالتساوي بين الأفراد ، هي في الحقيقة قواعد وقيم أخلاقية انقلبت إلى حق مؤيد بالقانون .
وإذا كانت حياة الأفراد في المجتمع قائمة على التبادل المنشئ للالتزامات ، فإن أكثر ما يجب أن تراعى فيه القيم الأخلاقية هو هذه الالتزامات التي تقرر حقوق الأفراد وواجباتهم ، وقد راعى قانوننا المدني في الالتزامات التي أنشأها ، هذه القيم بمقياس واسع ، ومنح القاضي سلطة واسعة في تقديرها وفرضها ؛ ولا شك في أن أقوى مظاهر التزامات الأفراد هي العقود التي تنشئ الالتزام باتفاق إرادتين على إحداث أثر قانوني معين .
ولكن هل يمكن أن تترك لهذه الإرادة الحرية المطلقة في إحداث ذلك الأثر القانوني ؟ وبمعنى آخر : هل يباح لأحد المتعاقدين أن يفرض سلوكاً معيناً على المتعاقد الآخر في إنشاء الالتزام ؟ أي هل يستطيع المتعاقد أن يتحكم بأثر العقد ؟
إن هذا الموضوع قد مرّ بالأدوار التي مرت بها المذاهب الحقوقية والاجتماعية التي ذكرناها وتأثر بها إلى حد بعيد . فالمشرع الإفرنسي حينما حمى الإرادة وأطلق سلطانها في المادة 1134 من قانونه المدني كان متأثراً بأهداف الثورة التي أنقذت الحرية من استبداد الملوك والأمراء ، وقررت بالاستناد إلى مبادئ الحق الطبيعي بأن حرية الإنسان مطلقة من كل قيد ، وأن للإنسان أن يملي في العقد ما يشاء من شروط ، وعلى الملتزم أن ينفذها ، لأن الشرف يقضي بأن ينفذ الإنسان ما قطع على نفسه من وعد وعهد .
غير أن المشرع الإفرنسي أوجب أن يكون تنفيذ الالتزام مصوناً بالآداب العامة ، ونص على ذلك في المواد (6 ، 1133 ، 1172 ، 1387) من القانون المدني ، إلا أن مدرسة المتون وعلى رأسها دومولومب ((Demolombe )) و أبري ورو ((Aubry et Rau)) و هوك ((Huc)) لم ترتَح إلى هذه النصوص ، وقد مرّ أولئك المؤلفون بشرح تلك المواد في الموسوعات الكبيرة التي وضعوها مروراً سريعاً ، لأنهم يرون بأن الالتزام الذي ينشئه العقد مصدره المباشر الإرادة أي الاتفاق الواجب احترمه ، وهذا من قواعد القانون الطبيعي ، الذي أباح للإنسان حرية التعاقد ، فالالتزامات التي تنشأ من حكم القانون إنما تنشأ في الواقع من قواعد القانون الطبيعي بشكل مباشر ثم تأتي نصوص القانون الوضعي لإقرارها ، فالتزامات الجوار قُررت بالنظر إلى حالة خاصة هي حالة الجوار وما تقتضيه العدالة من وجود التزامات الجار على جاره ، كذلك الأمر بشأن الالتزامات التي تنشأ من مركز الشخص في أسرته ، فيلتزم في بعض الأحيان بالنفقة وفي أحيان أخرى بالقيام بالوصاية ، وبغير ذلك من الالتزامات التي يقرها القانون الوضعي ، ولكن يقضي بها قبل ذلك القانون الطبيعي بالنظر إلى وجوب قيام الأسرة على أساس التعاون والتضامن .
من ذلك نرى أن مدرسة المتون كانت متأثرة بنظرية الحق الطبيعي الذي منح الإنسان حرية التعاقد، وجعل القوة الملزمة في جميع الالتزامات هي العقد .
غير أن القضاء الفرنسي لم يتخلّ عن القيم الأخلاقية ، وقد أحلها المقام الأسمى في مجموعة اجتهاداته الرائعة التي أتمت نصوص القانون وحلت محله في كثير من الأحكام .
اترك تعليقاً