رواتب القضاة الفلسطينيين
بقلم : الأستاذ داود درعاوي
حقائق وتناقضات
مثل قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002، نقطة تحول في مواقف السلطتين التنفيذية والتشريعية تجاه إنصاف القضاة الفلسطينيين، والذي تبنى في ذيله جدولا لرواتب وحقوق القضاة المالية مثلت حدا مقبولا لهذه الرواتب بالمقارنة بقيمتها الشرائية آن ذاك والوضع العام للرواتب في السلطة الوطنية الفلسطينية، وينسجم واعتبار الطبيعة الخاصة لعمل القاضي وضرورة شعوره بالإنصاف وعدم الإجحاف بما ينعكس على أدائه وطبيعة عمله سلبا أو إيجابا، بما يجنبه مواطن الشبهات وضغط الحاجة والعوز، وعلى الرغم أن قانون السلطة القضائية المذكور لم يتضمن أية امتيازات مالية للقضاة غير ما تعلق بالرواتب إلا أنه قوبل بالرضا العام من مجموع القضاة حينها مقارنة برواتب القضاة قبل ذلك.
فعلى سبيل المثال أصبح إجمالي راتب قاضي الصلح مبلغ 1708 دولار يضاف عليها بدل المواصلات بمعدل 700 شيكل بحيث لا يتجاوز صافي الراتب معادلا بالشيكل مبلغ 7000 آلاف شيكل شهريا بعد إجراء الإقتطاعات من الراتب، وصافي راتب قاضي البداية أصبح في حدود 8200 شيكل، والإستئناف في حدود 9500 شيكل، أما صافي رواتب قضاة المحكمة العليا فأصبح في حدود 11500 شيكل، ومنذ تاريخ دخول قانون السلطة القضائية حيز النفاذ بتاريخ 18/6/2002 بعد شهر من نشره في الوقائع الفلسطينية لم تجري أية تعديلات على رواتب القضاة الأمر الذي يثير السؤال حول القيمة الشرائية لرواتب القضاة عند إقرارها مقارنة مع القيمة الشرائية لها الآن، وكيف تأثرت رواتب القضاة بتغيير جدول غلاء المعيشة؟
للإجابة على هذا السؤال وبالرجوع لمعادلة إحتساب معدل غلاء المعيشة المنشورة على موقع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني www.pcbs.gov.ps فإن نسبة التغير في جدول غلاء المعيشة في الفترة الممتدة بين دخول قانون السلطة القضائية حيز النفاذ بتاريخ 18/6/2002 وحتى تاريخ 1/4/2010 هي نسبة 37.012% في الأراضي الفلسطينية ويبين الجدول التالي أثر نسبة التغيير في جدول غلاء المعيشة على رواتب القضاة كما يلي:
الراتب المفترض بالشيكل مبلغ الزيادة في غلاء المعيشة بالشيكل الراتب الأصلي بالشيكل درجة القاضي
9590.869 2590.869 7000 صلح
11235.018 3035.018 8200 بداية
13016.179 3516.179 9500 استئناف
15756.428 4256.428 11500 عليا
وبقراءة سريعة للأرقام الصماء التي بينها الجدول فإن قيمة الراتب المفترض ان يتقاضاه قاضي الصلح اليوم بما يساوي القيمة الشرائية لراتبه وفقا لقانون السلطة القضائية عند دخوله حيز النفاذ هو مبلغ 9590 شيكل بدلا من 7000 شيكل، وقاضي البداية مبلغ 11235 شيكل بدلا من 8200 شيكل والإستئناف مبلغ 13016 شيكل بدلا من 9500 شيكل، وأخيرا راتب قاضي العليا 15756 شيكل بدلا من 11500 شيكل، وذلك مع الأخذ بالإعتبار أن معدل غلاء المعيشة يحتسب على أساس السلع والخدمات الأساسية دون الكمالية أو الترفيهية والتي تضاعفت عدة مرات منذ العام 2002 نتيجة للتغيرات الإقتصادية العالمية، إذن وفقا للحقائق السابقة والتي لا تكذب أو تتجمل ما هو أثر هذا التآكل في رواتب القضاة على حياتهم اليومية وكيفية تدبر الإحتياجات الأساسية، ما هو أثر شعور القاضي بالعجز الإقتصادي على دافعيته للعمل؟ خاصة إذا ما أضفنا على هذه الحقائق حقائق اخرى تعمل مفاعيلها بذات الإتجاه كعدم وجود اية إمتيازات للقضاة مقارنة بكبار موظفي السلطة ومدراءها العامين كالسيارة، كوبونات الوقود، بدل خلوي، بدل علاوات إدارية، بدل درجة علمية (ماجستير ودكتوراة) وهي لا تحتسب للقضاة اسوة بموظفي السلطة، بدل المواصلات والذي يقل عن متوسط بدل المواصلات لباقي موظفي السلطة، عدم الإحتفاظ بأقدمية الدرجة عند الترقية، غياب أية محفزات ترفيهية للقضاة اسوة بأقرانهم في العالم، عدم تمتع القاضي بأي خدمة مجانية لمرافق السلطة.
طبيعة العمل القضائي التي لا تستوعب عمل القاضي في أي مجال آخر لتحسين دخله، طبيعة الرواتب المتدنية مقارنة برواتب القضاة في الدول العربية المجاورة كالأردن؟! ضغط العمل والإختناق القضائي؟؟؟؟؟
على الرغم من التآكل الكبير في رواتب القضاة الفلسطينيين وتغييب إمتيازاتهم إلا أن معدل القضايا المفصولة لحجم القضايا المنظورة أمام القضاء الفلسطيني في تصاعد كبير منذ العام 2000 والتي لم تكن تتجاوز 15000 قضية مفصولة سنويا في الضفة والقطاع في حين بلغ عدد القضايا المفصولة في العام 2009 ما مقداره 126847 قضية مفصولة في الضفة الغربية وحدها حسب إحصائيات مجلس القضاء الأعلى، أي تضاعفت نسبة المفصول من القضايا ثماني مرات بالرغم أن نسبة الزيادة في عدد القضاة لا تذكر مقارنة بزيادة المفصول من القضايا، كما أن استطلاعات الرأي تؤكد تنامي ثقة الجمهور بالقضاء الفلسطيني من حيث الأداء والنزاهة والشفافية والحياد(دراسة مركز أوراد نيسان 2009).
إذا كيف ينسجم هذا التنامي في أداء القضاة المهني مع التآكل في رواتبهم وكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟؟ وهل يعني ذلك أن أوضاعهم الاقتصادية لم تتأثر من هذا التآكل؟ أليس من باب اللزوم العقلي أن ينعكس ذلك على الأداء؟ ألم يقل علي بن أبي طالب كرم الله وجه يوما أن “من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق” ألم يقل “الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل داعية للمقت”؟؟
في سياق الإجابة على هذه الأسئلة فلا بد للكاتب أن يسقط تفكيره على الإجابة ويغلب التفاؤل على خيبة الأمل والنجاح على الفشل ومن هذا المنطلق فإن صمام الأمان لدى القضاة الفلسطينيين من الردة أو الهروب هو دافع الإنتماء للمهنة وفهم العمل القضائي بكونه تكليف وواجب وطني لترسيخ العدل واستجابة ضرورية لحاجة المجتمع الفلسطيني للأمن والأمان الداخلي كمتطلب من متطلبات الصمود على الأرض، وهذا يفسر التنامي في الأداء مؤقتا، لكن على المستوى الذاتي الدائم فإن شعور القضاة بالإجحاف الإقتصادي يعمل مفاعيله في حالة الضغط والحرج والضيق التي تختلج نفوس القضاة اليومية في مواجهة المتطلبات المتصاعدة للأسرة والأطفال والتعاطي مع أساسيات العيش والتواصل مع المحيط الإجتماعي، فيدفع القاضي ثمنا لها إحتراقا لمشاعره واغترابا عن آلامه التي تبقى حبيسة كبرياءه إلى أن تعبر عن نفسها بصورة أو بأخرى في وقت ما إرتدادا للخلف (تراجع في الأداء المهني أو الأخلاقي) أو هروبا إلى الأمام (رفض للواقع وتصادم معه) وكلاهما سيان من حيث النتيجة، ذلك أن ” بقاء الحال من المحال” وأن ” الناس من صعوبة البكاء غالبا ما يضحكون”.
اترك تعليقاً