علاقة التحكيم بالقضاء للقاضي محمود جاموس
دراسات فلسطينية – وطن – استشارات قانونية
من الملاحظ انه في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن التحكيم لما له من أهميه على طريق بناء أجواء مشجعه للاستثمار وتعزيز مكانة فلسطين على خارطة ألتجاره الدولية.فالسلطة الفلسطينية ومنذ نشأتها كانت حريصة على إصدار قانون التحكيم حيث قامت بتاريخ 5/4/2000 بإصدار قانون التحكيم رقم (3) لسنة (2000) والذي اشتمل على 58 مادة كما أن مجلس الوزراء قد اصدر قراره رقم (39) بتاريخ 12/4/2004 والذي أقر به اللائحة التنفيذية لقانون التحكيم والذي اشتمل على 79 ماده وذلك لما للتحكيم من أهمية في سرعة حل النزاعات.
عند الحديث عن علاقة التحكيم بالقضاء، قد تبدو هذه العلاقة مفهومه للبعض ومثيره للبس لدى البعض الآخر، فهل التحكيم بديل للقضاء؟ وهل هو ند وخصم له؟ وهل للتحكيم غني عن القضاء؟ وهل يبنى التحكيم والقضاء على نفس الأسس والقواعد القانونية؟ وهل النتيجة في نزاعين معروضين على التحكيم والقضاء واحده؟ وهل قرار الاثنين ملزمان. وهل هناك طعن في قرارات التحكيم وعلى أية أسس؟ ما حدود صلاحيات المحكم في مواجهة صلاحيات القاضي؟ وهل يتعامل القضاء مع أحكام التحكيم الأجنبية والمحلية على حد سواء؟ وما هي المحكمة المختصة في الإشراف على التحكيم؟ وهل يمكن أن يتداخل عمل المحكمة وهيئة التحكيم؟
بداية يجب أن نفهم علاقة القاضي والمحكم كعلاقة تعاون لا تخاصم، يساعد القاضي فيها المحكم ويسانده، ويعمل فيها المحكم باستقلال وفقا لقواعد القانون وفي حدود ما خوله الأطراف من صلاحيات دون تعدٍ أو شطط خاضعاً في ذلك لرقابة القضاء اللاحقة على حكمه.كل ذلك في الحدود التي رسمها قانون التحكيم الفلسطيني وسائر القوانين والاتفاقات الدولية والأنظمة المعينة.
بموجب هذه العلاقة ، فالقاضي مسؤول عن احترام وإعمال اتفاق الأطراف الصحيح على التحكيم، وذلك من خلال وقف ومنع أية إجراءات أو دعاوى موازية أمام محكمته (مادة 7 ق.التحكيم) أيضاً، القاضي مسؤول عن تقديم المشورة للمحكم إن طلب الأخير ذلك في أية نقطة قانونية يحتاجها (المادة 17) كذلك، فالمحكمة هي من تعين المحكم في حالات اختلاف الأطراف على شخص المحكم أو تخلف أحدهم عن تسمية محكم (المادة 11).
من جانب آخر، فالمحكم ملزم باحترام القوانين المتفق عليها والقانون الفلسطيني، واحترام النظام العام في فلسطين، واحترام اتفاق التحكيم المنعقد بين أطراف الخصومة دون خروج على الصلاحيات الممنوحة له بموجب هذا الاتفاق، وعليه الالتزام بموضوع النزاع المطروح عليه ، وأن يراعي العدالة في أحكامه كالقاضي، بل وأن يراعي العدالة والمساواة في إجراءات التحكيم بين الأطراف، وأن لا يحابي أو يميز بينهم أو يرتبط بهم بمصالح شخصية ، وعليه ببساطة أن يتصرف بمنطق وعقل وسلوك القاضي.
وفي الباب الأهم، باب رقابة القضاء على أعمال وقرارات المحكمين، فإن القانون الفلسطيني لم يترك التحكيم بكل أنواعه طليقا من رقابة القضاء رغم إقراره باستقلال التحكيم في قراراته ، فحدد القانون من هي المحكمة المختصة بالرقابة بنص المادة (1) مميزاً بذلك بين أحكام المحكمين المحلية والأجنبية والدولية، كما أرشد المحكمة إلى أمرين في رقابتها: إما المصادقة على قرار المحكم وإكسابه الصيغة التنفيذية لينفذ كأي حكم قضائي صادر عن محكمة فلسطينية دون أي تمييز، أو أن ترفض تنفيذ حكم التحكيم لسبب محدد.
ليكون سؤالنا التالي، على أية أسس قد ترفض المحاكم الفلسطينية تنفيذ أحكام المحكمين؟
هناك عدة مدارس قضائية معروفة عالمياً على أحكام المحكمين، فمن المحاكم ما يراجع قرار المحكم من الصفر موضوعياً وإجرائياً كالمدارس البريطانية منذ عقود قليلة، بما يشبه مراجعة محكمة الاستئناف لقرارات محكمة الدرجة الأولى. ومن المدارس ما يراقب فقط حسن سير إجراءات التحكيم وعدالته وعدم مخالفة النظام العام دون تدخل في لب قرار المحكم كالمدرستين الأمريكية والفرنسية.ومن المدارس ما لا ينظر أصلاً إلى إجراءات أو موضوع قرار المحكم ويقر بها تلقائياً كالمدرسة البلجيكية ابتداءً من أواسط الثمانينات.
اتجاه القضاء الفلسطيني جاء محموداً بتحديد أسس واضحة للقاضي الفلسطيني أن يرفض بناء عليها تنفيذ قرار التحكيم الأجنبي / الدولي ، أو يفسخ قرار التحكيم المحلي نهائياً أو يعيده إلى المحكم لتصحيحه وهي أسس مذكورة في المواد 43،48،49 على سبيل الحصر.هذه الأسباب جاءت مشابهة للأسس المتعارف عليها عالمياً وفي إطار مدارس القضاء الوسطية في العالم دون تشدد في الرقابة على قرار المحكم أو إقرار به دون رقابة.
أهم هذه الأسباب هي : بطلان الإجراءات المؤثرة على المحكم أو بطلان اتفاق التحكيم، مخالفة النظام العام الفلسطيني أو التزامات فلسطين الدولية، تجاوز المحكم صلاحياته أو بته في مسألة لا يجوز التحكيم فيها قانوناً كالمسائل الجنائية ومسائل الأحوال الشخصية وما لا يقبل الصلح، الغش والخديعة، أو إساءة السلوك من هيئة التحكيم أو بطلان تشكيلها. كل هذه الأسباب تتشابه بين بعضها من حيث منطقيتها ووسطيتها، بحيث يمكن للمحكم أن يعمل في فلسطين باستقلال وحرية ودون تدخل من القضاء، وباطمئنان إلى مساندة القضاء له، وبرقابة محدودة ووسطية على حكمه النهائي. الأمر سواء نسبياً للتحكيم بأنواعه: المحلي والأجنبي والدولي مع بعض الاختلافات في المواد 43/48/49 المذكورة.
إن انطلاق مسيرة التحكيم في فلسطين لأمر مبشر بالخير، والتحكيم في الحقيقة يقدم للأطراف من أفراد عاديين وتجار وشركات وحتى دول أن تستفيد من خصائص التحكيم المميزة، كالسرعة والمرونة والسرية وإلزامية ونهائية أحكامه والتخصص القانوني والفني الكبير فيه.
لكننا وكجزء من السلطة القضائية ، نتمنى أن يكون التحكيم والقائمون عليه على قدر المسؤولية المناطة بهم ، وكلنا ثقة بهم، وأن يراعوا في أعمال التحكيم الحياد والنزاهة والأمانة والمساواة بين الأطراف اجرائياً بإتاحة الفرصة لهم في التمثيل والادعاء والرد على حد سواء، والبعد عن التحيز أو الارتباط بمصالح شخصية ومراعاة النظام العام والقوانين الفلسطينية والاستفادة من خبرات المختصين في مجال التحكيم والعمل على تحقيق الانسجام بين أحكام المحكمين وأحكام القضاء ليكون التحكيم رديفاً للقضاء ومسانداً له في حل النزاعات.
اترك تعليقاً