إنخفاض سعر العمله الوطنية وأثره في عدالة الحكم المدني
بقلم الأستاذ المحـامي/ عبدالمنعم محمد محمود أبو تفة
الدوحـة ، قطر
من المسلم به أن العدل أساس القضاء ومن ثم كان لجوء أصحاب الحقوق المسلوبه أو العهود المنكوصه إلى القضاء إبتغاء الحصول على حكم قضائي عادل لإسترداد تلك الحقوق 0 وما يعنينا هنا هو الحكم المدني أي الحكم في الدعوى المدنية والتي تختلف عن الدعوى الجنائيه أو الإداريه أو دعوى الأحوال الشخصيه أو خلافه 0 والإلتزام في الدعوى المدنية أما أن يكون محله نقل ملكيه أو أي حق آخر ، أو القيام بعمل أو الإمتناع عن القيام بعمل0
وتثور الإشكالية محل البحث في الحالة التي يخل فيها المدين بإلتزامه نحو الدائن ، ويتعذر بعد ذلك تنفيذ الإلتزام عيناً ، حينها لا يبقى أمام الدائن إلا المطالبه بالحكم له بقيمة المال محل الإلتزام ، يستوي في ذلك أن يكون محل الإلتزام عقاراً أو منقولاً.
ويكون الأمر أكثر تعقيداً حينما يكون محل الإلتزام سداد مبلغ من النقود ولا جدال في أن التضخم الإقتصادي المزمن الذي لازم إقتصاد السودان منذ منتصف السبعينات ، وظل يسير على وتيرة متصاعدة حتى الوقت الراهن ، قد أدى إلى تدهور قيمة الجنية السوداني بشكل مريع ومذهل ، فقد بلغ قيمة الدوار الأمريكي ستة جنيهات في منتصف عام 1989م ، بينما كانت قيمة الجنية السوداني تساوى ثلاثة دولار أمريكي في عام 1978م ، ثم تسارع إنحطاط قيمة الجنية السوداني في عقد التسعينات بشكل لم يسبق له مثيل ، ولم يخفف من حدة التدهور تغير إسم الجنية إلى دينار مع زيادة قيمته الإسميه عشرة أضعاف ( الدينار يساوي عشرة جنيهات ) 0 حتى أضحى الدولار الأمريكي يعادل 260 دينار سوداني عند كتابة هذه السطور.
وسنتناول بالبحث أولاً حالة المطالبه بالقيمة النقديه للمال محل النزاع ، ثم نتحدث عن الحالة التي يكون فيها محل النزاع مبلغ من المال ( دين نقدي ) ، وأخيراً نتكلم عن المعالجة القانونية للإشكاليه المطروحه .
أولاً : المطالبه بالقيمة النقديه للمال محل النزاع :
لا يهمنا هنا إنخفاض سعر الدينار في الفترة ما بين حلول ميعاد الوفاء أو ميعاد الإستحقاق وتاريخ رفع الدعوى ، ذلك أن الدائن يستطيع أن يطالب بالفرق ما بين قيمة المال محل النزاع في تاريخ الإستحقاق وقيمته في تاريخ رفع الدعوى على سبيل التعويض ، ولكن تكمن الإشكاليه في إرتفاع القيمة النقديه للمال محل الدعوى عن القيمة المطالب بها وقت رفع الدعوى في الفترة ما بين رفع الدعوى وصدور الحكم النهائي فيها أو حتى تنفيذ الحكم.
ومثال ذلك لو أن (أ) قد أشترى من (ب) سيارة بمبلغ مليون دينار قبل رفع الدعوى ، ثم أخل البائع بإلتزامه بتسليم السيارة للمشترى ، وتعذر المطالبة بالسيارة عيناً لأي سبب يرجع إلى البائع ، كما لو تبين أن البائع لا يملك السيارة المذكورة ، أو أنه قد تصرف فيها بعد ذلك 000إلخ ، فلا يبقى أمام المشترى عندئذ سوى المطالبه بقيمة السيارة وقت رفع الدعوى ، فإذا بلغت قيمة السيارة المذكورة مليوني دينار عند رفع الدعوى ، فإن المشتري سيطلب الحكم له ضد البائع بمبلغ مليون دينار أصل الثمن 0 ومبلغ مليون ريال عبارة عن الفرق بين ثمن السيارة عند التعاقد وثمنها عند رفع الدعوى على سبيل التعويض0
قد يصدر الحكم النهائي في الدعوى بعد مضي فترة طويلة ويكون فيها قيمة السيارة محل الدعوى قد بلغت 20.000 ( عشرين مليون دينار ) مثلاً ، وحتماً يزيد سعر السيارة على ذلك وقت التنفيذ0
لا شك أن المشترى طالب الحمايه القضائيه رغم صدور الحكم لصالحه ووفقاً لطلباته في الدعوى ، إلا أنه يتملكه الشعور بعدم تحقق العدالة المنشوده في الحكم الذي سعى إليه ، وتكبد في سبيله ما تكبد من جهد ومال ووقت ، فإنه لا يستطيع أن يشترى بالمبلغ المحكوم به ربما مجرد إطار أو إطارات سيارة من ذات النوع 0 وهنا يدق ناقوس الخطر بأن قواعد العدالة في المجتمع قد أصيبت بخلل كبير بسبب الإنخفاض المذهل والمستمر في سعر العمله0
ثانياً : في حالة المطالبة بسداد مبلغ من النقود :
أما في حالة المطالبة القضائية بسـداد مبلغ نقدي فإن الأمر يكون أكثرا تعقيداً ، ذلك أن المادة (82) من قانون المعاملات المدنية لعام 1984م قد نصت على أنه (( إذا كان محل الإلتزام دفع مبلغ من النقود إلتزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لإرتفاع قيمة هذه النقود أو لإنخفاضها وقت الوفاء أي أثر ))0 وعلى ذلك فإذا كان (أ) يداين (ب) بمبلغ 100.000 مائه ألف دينار سوداني مثلاً منذ عام 1990م ، وبعد فشل كل المطالبات قرر أن يقيم دعوى ضد (ب) في عام 2000م 0 فهل من العدل أن يطلب الدائن الحكم له بذات المبلغ 100.000 ( مائه ألف دينار سوداني ) دون تعويض ، بعد أن إنخفضت القوة الشرائيه للمبلغ المذكور إنخفاضـاً يفوق الخيال 0 فقـد كان مبلغ أل 100.000 ( مائه ألف دينار سوداني ) في ميعاد الوفاء يعادل 5.000 خمسة آلاف دولار أمريكي تقريباً ، بواقع 20 دينار للدولار الواحد آنئذٍ ، بينما يساوي نفس المبلغ في منتصف عام 2000م وقت المطالبه ، فقط 400 دولار 0
لا نرى أن هناك وجهاً للعدالة في ألا يعوض الدائن بما يوازي إنخفاض قيمة العملة في الفترة ما بين ميعاد الوفاء وتاريخ رفع الدعوى ، دون أن يكون في ذلك أدنى تعارض مع المادة (82) آنفة الذكر ، والتي تتحدث عن الفترة ما بين تاريخ التصرف وحتى ميعاد الوفاء المحدد في العقد 0 أما هنا فيقتصر حديثنا عن الفترة اللآحقه لميعاد الوفاء المحدد في العقد ، أي في حالة الفشل في الوفاء في الموعد المحدد0
والسؤال الأكثر إلحاحاً هو هل يجوز قانوناً تعويض الدائن بمبلغ نقدي عن إنخفاض قيمة العملة في الفترة ما بين رفع الدعوى وصدور الحكم أو تنفيذه ؟ نجيب على ذلك بأن الحق في التعويض عن التأخير في السداد مقرر بموجب المادة (128) (1) من قانون المعاملات المدنية والتي تنص على أنه (( في حالة العقود الملزمة للجانبين إذا لم يوف أحد المتعاقدين بإلتزامه جاز للمتعاقد الأخر بعد إعذاره المدين أن يطالب بتنفيذ العقد أو بفسخه مع التعويض في الحالتين إن كان له مقتضى )) ورغم أن النص لم يشير بوضوح إلى التعويض في حالة التأخير في تنفيذ الإلتزام ، إلا أن ذلك مقرر بموجب القواعد العامة0
أن تقرير الحق في التعويض كما سلف بيانه يبقى أمراً نظرياً غير قابلاً للتطبيق عملياً أمام القضاء ، إذ أن القانون لم يحدد الوسيلة التي يمكن بها حساب التعويض أو تقديره ، وحتى يتسنى للقضاء الحكم بالتعويض المذكور لابد من تدخل المشرع بنصوص تشريعيه واضحه لإنارة الطريق في كيفية إحتساب مقدار التعويض0
ثالثاً : المعالجة القانونية ومقترحات الحل :
من الجدير بالذكر أن التضخم الإقتصادي المقيم كما هو الشأن في معظم دول العالم الثالث في العصر الحديث ، لم يكن معروفاً في السابق ، إلا في أوقات الحروب والأزمات الإقتصاديه ، ولذلك كانت ولازالت أغلب الأنظمة القانونية في العالم تعالج هذا الأمر في حدود نص قانوني بقانون الإجراءات أو المرافعات المدنية يقرر تعويض الدائن بفوائد تأخيريه تختلف نسبته من بلد إلى أخر0
وقد كان قانون المرافعات المدنية لعام 1974م قد قرر في المادة (110) منه أن
(( (1) يجوز للمحكمـة أن تحكم بالفائدة عن أصل مبلغ
الدعوى من تاريخ إقامـة الدعوى وحتى الســداد التام
أو أي تاريــخ أخــر تـراه مناسبــاً0
(2) لا يجـاوز سعر الفائـدة السعـر المحكوم بـه لمبلغ
الدعوى للفترة السابقة لإقامة الدعوى ولا يجاوز بأي حال :-
(أ) 9% في السنـة في حالـة المعامــلات التجـارية0
(ب) 6% في السنـة في حالـة المعاملات غير التجارية0
(3) لا يحكـم بالفـائـدة بـمـوجب هــذه المــادة
ما لــم يطـلب المدعـى ذلـك فـي عـريضتــه0
(4) إذا أغفل الحكــم الأمر بالفائدة فيعتبر ذلك رفضـاً
للحكــم بالفـائـدة ولا يجــوز للمـدعـي إقـامـة دعــوى منفصلــة للمطـالبــة بتـلك الفائــدة ))0
عدلت المادة المذكورة بالمادة (110) من قانون الإجراءات المدنية لعام 1983م والتي نصت على أنه :- (( لا تحكم المحكمة بالفائدة بأي حال من الأحـوال ، على آلا تسرى أحكام هذه المادة على أي إتفاق تم التوقيع عليه قبل اليوم الثامن عشر من أغسطس 1983م ))0
وبذلك تكون المادة (110) من قانون الإجراءات المدنية لعام 1983م ، قد خلفت فراغاً قانونياً واسعاً كان لا بد من ملئه لتمكين القضاء من الحكم بالتعويض عن التأخير في السداد0
ولملأ ذلك الفراغ لابد من تعديل المادة (110) إذ أن إنخفاض سعر العمله الوطنية في ظل وجود المادة المذكورة يلحق ضرراً بليغاً بالعدالة ، بما يخلفه من ظلم بين لدى أصحاب الحقوق المسلوبه أو العهود المنكوصه0
فالقانون يرمي إلى تحقيق غرضين رئيسين الأول صون حريات الأفراد ومصالحهم الخاصه ، والثاني حفظ كيان المجتمع بإقرار النظام فيه وكفالة المصلحة العامة ، ووظيفته الأساسيه تنظيم المجتمع تنظيماً يحقق هذين الغرضين ويوفق بينهما ، أو بعبارة أخرى هي تنظيم المجتمع تنظيماً يحقق الخير العام0
وكل نظام يرمي إلى تحقيق الخير العام يجب أن يكون العدل أساسه ، وكل توفيق بين المصلحة العامه والمصالح الخاصه يجب أن يكون نتيجة موازنه عادلة بين هذه المصالح0
وإذا كان الغرض من المادة (110) هو منع الحكم بالفائدة لما فيه من مخالفة لأحكام الشرع ، فإن ذلك لا ينبغي أن يخل بالحق الخاص في التعويض العادل عن الإخلال بالوفاء أو التأخير فيه 0
والتعديل المقترح ينصب على مسألتين أساسيتين هما :-
(1) تقرير حق الدائن في التعويض0
(2) بيان كيفية إحتساب التعويض عن إنخفاض قيمة العمله الوطنية ، ونرى أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بتحديد قيمة النقود إما على أساس الذهب أو الدولار أو الجمال 0 مع تحديد آليات التطبيق وربما إعطاء قضاء التنفيذ دوراً في التقييم وقت السداد 0
فالذهب لأنه كان يشكل الغطاء الحقيقي للقيمة الرسمية للعمله الورقية ، ولكن بفرض القيمة الإلزاميه وإستفحال التضخم أصبحت العمله النقديه اليوم خلواً من التغطية بالذهب ، بيد أن ذلك لا يمنع من ضمانة وحماية حقوق الأفراد في تعويضهم على أساس القيمة الذهبية الموازيه للسعر الرسمي للعمله في التاريخ المعين 0 ولا نحسب أن ذلك يندرج ضمن شرط الذهب الممنوع قانوناً ، لأن شرط الذهب يرتبط بالجنيهات الذهبية – وليس بالذهب كوزن أو معيار0
أما الدولار فلا مراء في أنه من الوجهة الإقتصاديه الصرفه يشكل معياراً نقدياً عالمياً تقاس عليه قيمة العملات الوطنية المختلفة عند التحويل ، بيد أن الإعتبارات السياسية للسلطة الحاكمة في السودان وتوجهها الإسلامي في الوقت الراهن قد لا يسمح بإتخاذ الدولار الأمريكي معياراً للعمله الوطنية 0
وأما إختيار الجمال كمعيار فربما يتوافق مع سياسة التأصيل القانوني المنتهج في ظل النظام القائم في السودان ،لربط حاضر الأمه بماضيها وإستلمام التراث ، ولا غرابة في إتخاذ الجمال معياراً لقياس الفرق في سعر الدينار ، فقد سبق أن إتخذ قانون الإجراءات الجنائيه لعام 1991م من الجمال معياراً لإحتساب مقدار الديه0
وفي الختام لا نزعم لأنفسنا أننا قد بينا الحلول المطلوبة للإشكاليه المطروحة ، ولكن نرى أننا بذلك نكون قد ساهمنا في تسليط الضوء على مسألة في غاية الأهمية وطرحنا أفكاراً للنقاش والبحث علها تكون لبنه أولى في طريق الحل القانوني السليم للإشكالية المطروحة
اترك تعليقاً