التدخل الخفي في القضاء
يعد الاستقلال في القضاء أحد أهم المبادئ القضائية المحققة للعدالة, والمكون الأساس لقضاء كفء يتمتع بالنزاهة والكفاءة, وفي حال اختل هذا المبدأ بأي نوع من الاختلال فلابد أن تختل تبعا له العدالة وما يتأثر بها من اقتصاد وأمن ونحوها, ولهذا تسعى الكثير من الدول على تضمين دساتيرها وأنظمتها القضائية للنصوص المؤكدة لهذا المبدأ, وتعمل على تجسيده في أرض الواقع من خلال إسناد الإشراف على القضاء والقضاة إلى جهاز مستقل عن أجهزة الدولة التنفيذية وهو: “مجلس القضاء”, الذي يعنى بتعيين القضاة ومحاكمتهم وإعفائهم في حال تطلب الأمر ذلك, وتأكيدا لاستقلال القضاء والقضاة فإن الأوامر بالتعيين أو الإعفاء تصدر – في الغالب- من أعلى سلطة في البلد – الملك أو الأمير أو رئيس الجمهورية -, كما أن الأحكام المنظمة للإشراف على أعمال القضاة والتفتيش عليهم تختلف عن غيرهم من الموظفين بالنظر إلى الجهة المعنية عن ذلك وآليته, كما أن مخاصمتهم تكون وفق قواعد معينة تحدد في الأنظمة المعنية بذلك, ويتمتعون بحصانة قضائية تمنع التسلط عليهم أو حتى الضغط عليهم من قبل أي جهاز تنفيذي, وكل ذلك لتحقيق هذا المبدأ الكبير ذي الأثر الفاعل في إصلاح العملية القضائية.
وقد أكدت المملكة هذا المبدأ بعدد من النصوص, ومنها ما ورد في النظام الأساسي للحكم, حيث نصت المادة (46) على أن القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية, كما أن نظام القضاء نص في المادة الأولى منه على أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية, وليس لأحد التدخل في القضاء, وقررت المادة الثانية أن القضاة غير قابلين للعزل إلا في الأحوال المبينة في النظام.
وبالنظر للنظام القضائي في المملكة نجد أنه يتمتع بهذه الاستقلالية في جهاته القضائية – المحاكم وديوان المظالم-, إلا أن اللجان ذات الاختصاص القضائي وهي التي تفوق الثلاثين لجنة لا تتمتع بهذا الاستقلال بل هي مرتبطة إداريا بالسلطة التنفيذية بصورة واضحة في تعيين أعضائها وإعفائهم بل والتدقيق على أحكامهم في بعض اللجان, وهذا وضع غير صحيح يتطلب العمل على إصلاحه في فترة بقاء هذه اللجان خارج السلطة القضائية وهو أصل الخلل, والذي صدر في تعديله الأمر الملكي عام 1426هـ القاضي بضم جميع اللجان إلى السلطة القضائية.
عندما يرد الحديث عن الاستقلال ينصرف الذهن إلى الصور التقليدية لذلك من مثل: آلية التعيين والإعفاء, والتفتيش على الأعمال, والتدقيق على الأحكام وغيرها من الصور المعروفة, إلا أن من الصور المهمة للاستقلال وتحقيق أن لا سلطان لأحد على القضاء والقضاة: العمل على منع السلطة الرابعة ” الصحافة” من التدخل في القضاء في قضايا ما زالت منظورة في المحاكم, أو قيام بعض الصحافيين بممارسة الضغط بطريقة غير مهنية على محاكم محددة أو قضاة معينين مهما كانت الأسباب, فجهاز القضاء يختلف عن غيره من الأجهزة الحكومية, ولا شك أنه ليس فوق النقد إلا أن الاستقلال التام المحقق للمصلحة يمنع النص على قضايا أو محاكم أو قضاة معينين, أما الحديث بصورة عامة عن الخلل في القضاء بل وعن القضاة من أشخاص لديهم المعرفة والدراية والوقائع الصحيحة فهو أمر متاح وفق القواعد العامة للنقد, وقد أشرت إلى هذا مفصلا في مقالتين عن الصحافة والقضاء.
ومن صور الاستقلال – كذلك-: استقلال القاضي عن توجهه في القضية, وهذا في الحقيقة أمر دقيق جدا, فلا شك أن حكم القاضي في القضية يستند إلى فهمه للوقائع وتكييفها وفهمه للنصوص وإسقاطها على الوقائع, وبالتأكيد لم أقصد هذا المعنى لأن هذا هو القضاء, وإنما عنيت أن القضية من خلال الترافع فيها قد تتوجه في صالح أحد الخصمين وبالطبع فالقاضي لديه إدراك لذلك, ونظرا لحرص القاضي على إنهاء القضية وسعيه إلى إنجاز العمل, وحرصه على البت فيها ولا سيما إذا كانت من القضايا المعقدة التي قد تكون قد أخذت وقتا طويلا لديه, فقد يسعى القاضي إلى منع أي تشويش على توجه القضية, وقد يضيق من الدفوع التي تقدم من الخصم الخاسر لها, ويظهر الأمر بوضوح في حال حكم القاضي فيها وورد في لائحة الاعتراض أو ملاحظات التمييز ما يستوجب إعادة النظر, فيختلط الأمر كثيرا لدى بعض القضاة بين إصرار القاضي على رأيه والرد على الملاحظات- وهو أمر مطلوب -, وبين توجهه المؤثر في استقلاله المانع من التدقيق الحيادي في الطعون والملاحظات – وهو أمر ممنوع-.
اترك تعليقاً