التدابير الوقائية في التشريع المقارن
التدابير الوقائية في التشريع المقارن
إن هذه التدابير قبل أن تصل إلى مرحلة الاستقرار التي هي عليها الآن وقبل أن تفرض وجودها في جميع التشريعات، خاضت بدورها معركة الحياة ومرت بأطوار ومراحل برهنت فيها على مقدارها، وجعلت جميع القوانين تفتح لها صدرها، ولذلك كانت معرفة هذه الأطوار تكتسي نوعا من الأهمية ولا تخلو من فائدة.
وهكذا سنعرض لهذا التطور باختصار لنكون فكرة صحيحة في الموضوع ولنعرف كيف وصل هذا النظام إلى ما هو عليه الآن، ففي نطاق القانون المقارن مرت تدابير الوقاية بمراحل ثلاث : مرحلة تجربة ومرحلة تنظيم ومرحلة ثبات واستقرار.
ـ ففي مرحلة التجربة، أو المرحلة البدائية كما تسمى (phase primitive) كانت هذه التدابير لا زالت في طور التكوين ودخلت في عدد من التشريعات بشكل فوضوي لتطبق على عديمي المسؤولية وناقصيها وعلى القاصرين بصفة جزئية( ).
وقد بدأت هذه المرحلة بقانون الإقصاء Relégation الفرنسي لسنة 1885( )، ثم تلته قوانين أخرى في دول مختلفة، في القانون البرتغالي 1892 والأرجنتيني 1903 والأنجليزي 1908، وعدد من المشروعات مثل المشروع السويسري والنمسوي والألماني( ).
إلا أن هذه التدابير كانت قليلة وغير منظمة، الأمر الذي لم يسمح لها بأن تعمل عملها وتؤدي مهمتها على الوجه الأكمل.
ـ وفي مرحلة التنظيم phase organique : عرفت تدابير الوقاية كثيرا من التنظيم والتنسيق وأصبحت تتجمع حول فكرة واحدة هي إيجاد أنواع من التدابير تتنوع بتنوع أصناف المجرمين وتستجيب لغايات وأهداف مختلفة. وهكذا وجدت تدابير اجتثائيةéliminatoire لاجتثات المجرمين الذين لا يرجى صلاحهم، وإصلاحية لمختلي الإدراك والشواذ من المجرمين، كما تطورت تدابير القاصرين ودخل عليها كثيرا من التنظيم والتنسيق.
وقد بدأت هذه المرحلة بالمشروع السويسري ـ مشروع سطوس Stoos لسنة 1893، الذي أدخل لأول مرة نظام التدابير في المجموعة الجنائية بشكل واسع ومنسق حاز إعجاب الكثير من الفقهاء وإن لم يسلم من توجيه بعض الانتقادات إليه.
وبعده أتت المجموعة النرويجية 1902 ونصت بدورها على تدابير خاصة بالشواذ وأخرى بمجرمي الاعتياد. وانتهى تطور هذه الحالة بقانون الدفاع الاجتماعي البلجيكي 1930 الذي اشتمل أيضا على تدابير خاصة بمجرمي الاعتياد وأخرى بالمجرمين الشواذ. وأهم شيء في هذا القانون هو أنه حاول إيجاد نظام للتدابير قائم بذاته ومستقل تماما عن نظام العقوبات.
ـ أما مرحلة الثبات والاستقرار أو مرحلة التوفيق consilitrice فإن تدابير الوقاية فيها لم تعد مجرد إجراءات ثانوية ومكملة للعقوبة وإنما أصبحت ضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها لسير العدالة الجنائية بشكل صحيح وفعال.
وقد ظهرت هذه المرحلة في القوانين الجنائية لما بين الحربين العالميتين، وعلى الأخص القانون الإسباني 1928 والإيطالي 1930 كما تجلت في مشروع روكو Rocco الذي عبر تعبيرا صادقا عما وصلت إليه تدابير الوقاية من تطور في هذه الفترة.
وكانت فكرة التوفيق في هذه المرحلة ترمي إلى إيجاد نظام جزائي مزدوج يشتمل على نوعين من الإجراءات، هما العقوبة كجزاء للمسؤولية المعنوية والتدابير كعلاج للحالة الخطيرة.
هذه باختصار هي المراحل التي مر بها هذا النظام، وتلك هي خطوطها العريضة. ومنها يظهر بأن الأصول المباشرة لهذه الحركة ـ حركة التدابير ـ لا ترجع إلا للسنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وأن التحدث عن نظرية للدفاع الاجتماعي لم يكن ممكنا قبل ثورة الوضعيين وقبل وجود المدرسة الوضعية، فهذه نقطة في تاريخ الأفكار يجب قبولها والتسليم بها نهائيا( ).
إلا أن هذا لا يعني أن هذه الحركة لم تكن سوى امتداد لحركة الوضعيين، فالأصول البعيدة لفكرة الوقاية والدفاع عن المجتمع كانت موجودة من قبل وعثر عليها في زمن موغل في القدم( ).
ويجب أن نشير، قبل الانتهاء من بحث التطور في القانون المقارن، إلى أن هذه التدابير لم تعرف هذا الثبات والاستقرار إلا بعد أن اصطدمت بصعوبات كبرى وتخطت عقبات خرجت منها منتصرة في الحرب التي كانت تشن عليها من مختلف الجهات( ).
________________________
( ) مارك أنسل : محاضرات في القانون الجنائي المقارن، ص. 20.
( ) على الرغم من كونه يكون عقوبة في نظر القانون، لأنه كان ينظر إليه على أنه تدبير وقائي ما دام هدفه ليس هو العقاب، وإنما محاربة نشاط الفرد الإجرامي عن طريق الحيلولة بينه وبين هذا النشاط.
( ) ليون رابنوفيتش Léon Rabinevitch، ص. 146.
( ) مارك أنسل : القانون الجنائي المقارن، ص. 20 وما بعدها.
( ) فأفلاطون أول من أوجد التفرقة بين المجرم القابل للإصلاح وغير القابل له، وفي الوقت الذي كانت تسود فيه القوة البدنية ويسلم فيه المجرم إلى الضحية، نادى هو فيه باستعمال تدابير سالبة للحرية، ورأى في نفس الحبس تدبيرا وقائيا علاجيا، وهكذا عرف أفلاطون خصائص التدابير منذ ذلك التاريخ السحيق.
وقد عثر حوالي سنة 1050 قبل الميلاد على مؤلف حول العقوبات مكون من تسعة أبواب وفيه عرض هام لسياسة جنائية قائمة على فكرة العلاج والإصلاح (ق. ج. لجمهورية الصين، ترجمة جان أسكار 1928). كما أن التشريع الجنائي الإسلامي للقرن الرابع عشر عرف منذ ذلك التاريخ مبدأ عدم مسؤولية الطفل الذي لا يزيد عمره عن سبع سنوات، وقرر تدابير لإعادة التهذيب خالية من كل صبغة إيلامية بالنسبة للقاصر الذي تجاوز السبع ولم يصل بعد إلى سن البلوغ.
( ) أول بادرة من بوادر ومقاومة هذه التدابير أتت من جانب القضاء، لأن القاضي كثيرا ما كان يفضل تطبيق عقوبة من العقوبات على الحكم بتدبير حتى تدابير الوقاية، وقد ظهر هذا الاتجاه في كل من إسكندنافيا وأنكلترا وعلى الأخص في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا. وثاني بادرة لهذه المقاومة كانت تصدر من طرف إدارة السجون المكلفة بالسهر على تنفيذ هذه التدابير، لأنها كانت تعترض باستمرار عليها وتمتنع عن التفريق بينها وبين العقوبات في مجال التنفيذ، مخضعة جميع المحكومين إلى نظام واحد.
اترك تعليقاً