الوضع في ظل التحكيم الحر
إذا كانت هيئات التحكيم العاملة في إطار مراكز أو مؤسسات التحكيم الدائمة، سلطة تقديرية تامة في تحديد القواعد الإجرائية التي تقدر مناسبتها لظروف النزاع، فمن باب أولى أن يتمتع بتلك السلطة المحكمون في حالات التحكيم الحر ، حيث لاتوجد لائحة أو نظام إجرائي يلتزمونه وبالتبعية يكون لهم هامش كبير من حرية المناورة، هذا وقد أقر بتلك السلطة والحرية العديد من تشريعات التحكيم، والتي نذكر منها القانون المصري للتحكيم في مادته 25 والتي منحت الطرفين سلطة في الاتفاق على إجراءات التحكيم، وأضافت أنه “إذا لم يوجد مثل هدا الاتفاق كان لهيئة التحكيم، مع مراعاة أحكام هدا القانون ، أن تختار إجراءات التحكيم التي تراها مناسبة “.
هذا ونجده مقررا في القانون السويسري لعام 1987، وقانون التحكيم الانجليزي لعام 1996، وقانون التحكيم الألماني لعام 1997، حيت نصت المادة 1042 /4 من قانون الإجراءات المدنية على أنه “عند تخلف اتفاق الأطراف أو نصوص هذا القانون تسير المحكمة في التحكيم بالنحو الذي تراه ملائما ” .
هذا وقد عزز السلطة التقديرية لهيئة التحكيم في اختيار القواعد الإجرائية المناسبة القانون النموذجي أو النمطي للتحكيم التجاري الدولي لعام 1985، حيت نصت المادة 19/2 منه على أنه ” فإن لم يكن ثمة مثل هذا الاتفاق بين الأطراف كان لهيئة التحكيم مع مراعاة أحكام هدا القانون، أن تسير في التحكيم بالكيفية التي تراها مناسبة “.
الأمر الذي أقره من قبل ذلك قواعد اليونسترال لعام 1976 وذلك من خلال المادة 15/1من هذا القانون.
ليبقى الباب مفتوحا أمامنا للتساؤل حول ما إذا كانت هيئة التحكيم الحر تتمتع بهكذا سلطة تقديرية كبيرة في تحديد القانون الإجرائي الذي تتبعه في تسيير عملية التحكيم، فإن التساؤل الذي يثور في هذا الخصوص هل تختار الهيئة ذلك القانون مباشرة كأن تختار القانون المغربي أو الفرنسي أو الألماني أو المصري… أم ترجع إلى قواعد إسناد إجرائية معينة تختار عن طريقها دلك القانون، كأن ترجع مثلا لقواعد الإسناد في قانون دولة مقر التحكيم، أو في قانون الدولة التي يحكم قانونها موضوع النزاع أو أية قواعد إسناد تقدر الهيئة ملاءمتها ؟
في الحقيقة قد يقال أنه من غير المتصور لجوء هيئة التحكيم مباشرة إلى اختيار القواعد الإجرائية للتحكيم، إذ هي وبالضرورة لابد ستسترشد بقواعد إسناد تساعدها في تحريك تلك القواعد، باعتبار أن قواعد الإسناد وضيفتها اختيار القانون المناسب عند تزاحم عدة قوانين على حكم مسألة معينة، سواء أكانت موضوعية أو إجرائية، غير أننا نذهب في الاتجاه الذي ذهب فيه الاستاد أحمد عبد الكريم سلامة باعتبار أن التزام هيئة التحكيم بالرجوع إلى قاعدة إسناد معينة يتم عن طريقها اختيار القانون الإجرائي وحرمانها بالتالي من الاختيار المباشر لذلك القانون أمر يخرج عن التحكيم وحكمته.
ذلك أن الأطراف باتفاقهم على التحكيم يكونون قد استبعدوا محاكم الدولة أو القضاء النظامي، واستبعدوا كذلك القواعد التي تطبقها تلك المحاكم ليس فقط القواعد التي تحكم النزاع من ناحية موضوعه بل كذلك قواعد التنازع عموما، إذ أن تحديد قانون إجراءات التحكيم لايعتمد على أية قاعدة إسناد بل لايصح القول أن القاعدة التي تقرر حق الأطراف أنفسهم في اختيار القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم هي قاعدة إسناد، بل هي قاعدة موضوعية من قواعد القانون الخاص الدولي على الأقل في مجال التحكيم في المنازعات الخاصة الدولية.
وعلى ذلك فإن سلطة هيئة التحكيم في اختيار القانون الواجب التطبيق على الإجراءات تخول لهم الحق في الاختيار المباشر لذلك القانون طالما قدرت ملاءمته لظروف القضية المعروضة على أنظارهم، كل ذلك دون المرور بمنهج قاعدة التنازع ودروبه الوعرة والتي قد تؤدي إلى اختيار يعقد أو يقيد السير السلس لعملية التحكيم الأمر الذي يؤدي إلى بروز قانون إجراءات مادي أو موضوعي خاص بالعلاقات الخاصة الدولية.
عموما وانطلاقا مما سبق سرده خلال هذا المطلب يتضح أن المحكم يتمتع بسلطة تقديرية كبيرة في تحديد القانون الواجب التطبيق بشقيه الموضوعي والإجرائي، رغم أن السلطة التقديرية تأتي في مرتبة ثانية بعد عدم وجود الإرادة الصريحة أو الضمنية أو حتى قواعد اللوائح للهيئات التحكيمية الدائمة.
لأن الأمر الذي لايمكن أن نتجاهله وبشكل كلي أن المحكم له ثقافته التي تحكمه وكذلك له تكوينه القانوني أو المدرسة القانونية التي نهل منها، بالإضافة إلى المرجعية التي هو متبع إياها وباعتبارنا دولا نامية فإن المجال الوحيد الذي يجب أن يعنى به، حتى يتسنى لنا توفير جو ملائم للتحكيم التجاري الدولي هو تكوين الأطر الفعالة صاحبة التجربة وكذا تنمية اقتصادياتنا، وكذلك ترسانتنا القانونية حتى يتسنى لنا في يوم من الأيام جلب الأجنبي إلى تحكيمنا وان صح التعبير تحكيم هيئة عربية بين أجانب أو بين عربي وأجانب.
وإذ كان هذا هو الوضع بخصوص السلطة التقديرية للمحكم في تحديد القانون الواجب التطبيق على الموضوع والإجراءات فإنه يحق لنا أن نتساءل عن أهم قيد يرد على التحكيم في مجال العلاقات الخاصة الدولية ألا وهو النظام العام في إطار التجارة الدولية.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً