عرض قانوني لمنهج سافيني لحل تنازع القوانين
من المعلوم أن تحديد القانون الذى يحكم العلاقة ذات الطابع الدولى يمكن أن يتم بأحدى طريقتين:
أولا تتمثل فى تحديد نطاق التطبيق المكانى للقاعدة الموضوعية التى تنازع حكم هذه العلاقة لمعرفة ما إذا كانت هذه الأخيرة تدخل فى نطاق تطبيق هذه القاعدة من عدمه وهذا هو نهج فقهاء مدرسة الأحوال عندما قاموا بتقسيم الأحوال الى عينية وشخصية وحددوا لكل نوع منها نطاق تطبيق معين.
أما الطريقة الثانية فهى تتلخص فى ادراج العلاقات القانونية فى طوائف والبحث عن القانون الذى يحكم ايا منها.
ويبدو التعايش بين هذين النهجين المختلفين أمرا منطقيا بحسبان أن الهدف منهما دائما هو التأكد من وجود رابطة بين العلاقة وبين القاعدة القانونية التى تحكمها.
وهذا ما أوضحه سافينى جليا فى بداية دراسته لتنازع القوانين. فالطريقتان أو المنهجان لا يختلفان بالنسبة لهذا الفقيه إلا من حيث نقطة البداية لكل منهما، وفيما عدا ذلك فلهما ذات الموضوع، كما يفيضان لنفس النتيجة.
فتحديد القانون الذى يحكم علاقة ما يفيض بالتبعية لتحديد نطاق التطبيق المكانى للقواعد الموضوعية لهذا القانون، بينما يؤدى تحديد نطاق التطبيق المكانى للقواعد الموضوعية لقانون ما الى معرفة ما إذا كان هذا القانون هو الذى يحكم العلاقة أم لا.
إلا أن سافينى يفضل المنهج الأول والذى تمثل، العلاقة القانونية نقطة البدء منه، لأن محاولة حسم تنازع القوانين عن طريق تحديد نطاق التطبيق المكانى للقواعد المتنازعة يحمل خطر احتمال تصوير هذا التنازع على أنه تنازع بين السيادات فى حين أن مشكلة تنازع القوانين تكمن دائما وفقا لسافينى فى تحديد رابطة بين العلاقة القانونية والقاعدة القانونية التى تخضع لها
ويقوم منهج سافينى لحل تنازع القوانين على مبدأ شكلى principe formel مضمونه أن لكل علاقة قانونية مقر وأن قانون مقر العلاقة هو أنسب القوانين لحكمها، ويتحدد هذا المقر بالنظر لطبيعة العلاقة القانونية.
فالمهم اذن فى تنازع القوانين ليس هو تحديد سلطان القانون مقدما، اى تحديد نطاق تطبيقه المكانى والقول بإقليميته أو امتداده. بل المهم هو رد العلاقة الى مقرها، الذى يتفق وطبيعتها سعيا وراء الحل المثالى لهذا التنازع والوصول الى معرفة القانون الانسب لحكمها وهو قانون مقرها.
ويوجد مقر العلاقة القانونية setz فى الدولة التى ترتبط بها هذه العلاقة ارتباطا وثيقا، فإذا ارتبطت العلاقة بدولة وأحدةكان مقرها فى هذه الدولة وبالتالى فهى تخضع لقانونها، أما إذا ارتبطت العلاقة القانونية بعدة دول فإن منهج سافينى يقوم على البحث عن مقر هذه العلاقة، وذلك بالنظر لطبيعتها وبالأهمية الخاصة بكل عنصر من عناصرها، فإذا أمكن تحديد الدولة التى يوجد بها مقر العلاقة القانونية. يتعين اخضاع هذه الأخيره لقانون هذه الدولة.
ويقرر سافينى أن من شأن تطبيق منهجه القائم على تركيز العلاقات القانونية ذات الطابع الدولى التوصل لحلول تتسم بالعمومية والمنطقية وبالتالى يكون لها طابع عالمي (لانها ستنبثق من المنطق المجرد)، الأمر الذى من شأنه دفع جميع الدول إلى اعتناق تلك الحلول وتطبيقها.
وتطبيقا لفكرة التركيز يرى سافينى خضوع العلاقات الخاصة بحالة الاشخاص واهليتهم (مثل علاقات الزواج والنسب…..الخ) لقانون موطنهم على أساس تركيز هذه العلاقات المتصلة بحالة الاشخاص لا يتسنى إلا فى المكان الذى يتوطن فيه هؤلاء وعلى غرار نفس النهج يخضع سافينى العلاقات المتصلة بالأموال لقانون موقع هذه الاموال. أما العلاقات التى يكون مصدرها العقد ينطبق فى صددها قانون المكان الذى يتم فيه تنفيذ العقد باعتباره المكان الذى تتركز فيه الآثار المترتبة على هذه العلاقات وفقا لسافينى، واخيرا يخضع سافينى الالتزامات المترتبة على الفعل الضار (المسئولية التقصيرية) أو الفعل النافع (الإثراء بلا سبب) لقانون محل وقوع الفعل.
ويسند سافينى منهجه القائم على تركيز العلاقات القانونية إلى فكرة الخضوع الارادى، ذلك أن إقدام الشخص على الدخول فى علاقة قانونية معينة يفترض انصراف ارادته للخضوع لقانون مركزها أى قانون المكان الذى تتركز فيه آثارها.
هذا وينطوى منهج تركيز العلاقات القانونية على المساواة بين قانون القاضى والقانون الأجنبى فيما يتعلق بمجال تطبيق لكل منهما على العلاقات ذات الطابع الدولى، فالعلاقة القانونية قد يكون مقرها فى دولة القاضى أو فى اى دولة اجنبية، ويقتضى تطبيقه استخدام قواعد اسناد مزدوجه الجانب.
وتعكس هذه المساواه تأثر منهج سافينى لحل تنازع القوانين بمفهومه العام للقانون، وعلى وجه التحديد مفهومه لوظيفه القانون والتى تقتصر لديه على تحديد مجال حرية الانسان وتوجيهه اخلاقيا وهو المفهوم الذى يبرز مدى تأثر سافينى بأفكار الفلسفة المثالية كما سبق أن اوضحنا.
ففى مجال القانون الخاص reines rechtsgebite يهدف القانون فى جميع الدول إلى تحقيق نفس هذا الهدف الاخلاقى وفى هذا مبررا للمساواه التى يقيمها منهجه بين قانون القاضى والقانون الأجنبى.
ويبرر سافينى تلك المساواه ايضا بالقول بوجود اشتراك قانونى بين تشريعات الدول التى يتصور حدوث التنازع بينها، ويقصد سافينى بهذه الفكره ـ اى اشتراك القانون ـ وحدة النظرة الشاملة weltanschauung (الفلسفية والاخلاقية والاجتماعية) لتلك التشريعات،تلك الوحدة التى ترجع لوحدة اصلهم التاريخى وهو القانون الرومانى ولتأثرهم بالديانة المسيحية.
وهو يطرحها كفكرة مضادة لفكرة السيادة والتى تستند عليها حلول تنازع القوانين لدى فقهاء مدرسة الأحوال.
فإذا انقطع الاشتراك القانونى بين القانون الأجنبى الواجب التطبيق وفقا لمنهج التركيز وبين قانون القاضى تعين استبعاد القانون الأجنبى بأسم النظام العام فى دولة القاضى.
وبهذا يكون سافينى اول من استعمل فكرة النظام العام بمفهومها الحديث فى القانون الدولى الخاص أى بوصفها اداة يلجأ اليها القاضى لمنع تطبيق القانون الأجنبى إذا تعارض هذا الأخير، مع الاسس الجوهرية التى يقوم عليها النظام القانونى فى دولة القاضى أو بعبارة أخرى إذا انقطع الاشتراك القانونى بين النظام القانونى الأجنبى والنظام القانونى لدولة القاضى.
ولا يتحقق هذا الاشتراك القانونى، وفقا لسافينى بين قواعد القانون الوضعى لمختلف الدول والرامية لتحقيق اهداف تتعلق بالنفع العام بها ومن ثم لا ينبغى معاملة هذا النوع من القواعد فى قانون دولة القاضى على قدم المساواه مع مثيلاتها فى قانون دولة اجنبية بل يجب على القاضى ان يطبق دائما قواعد قانونه.
وتكون هذه القواعد طائفة خاصة تضم القواعد التى ينبغى تطبيقها دائما حتى على العلاقات ذات الطابع الدولى le droit internationalement imperatif والنظم القانونية الأجنبية التى لا يعرفها قانون القاضى.
وهكذا تمثل هذه الطائفة من القواعد استثناء لا تنطبق بصدده فكره الاشتراك القانونى communaute de droit ولا ينطبق عليه المبدأ الشكلى القاضى بالبحث عن مقر العلاقة القانونية.
وهكذا يجعل سافينى من هذه القواعد استثناء هاما على مبدأ ازدواجية جانب قواعد الإسناد bilateralite إذ أن تحديد نطاق هذه القواعد لايتم عن طريق قواعد الإسناد المزدوجة كما هو الحال بالنسبة لسائر قواعد القا نون الخاص والتى تصدق عليها فكره الاشتراك القانونى، وانما يتم بالنظر لمضمونها وهدفها.
وبالرغم من ذلك فان سافينى لا يخرج هذه القواعد، والتى تضمن تحديدا لنطاق تطبيقها المكانى، من اطار منهج التنازع ويرى على العكس من ذلك ان هذه الأخيرة تشبه قواعد الإسناد لحد كبير، أى أن سافينى كما ينوه بذلك جانب من الفقه الحديث ، لم يقم تفرقة حاسمة بين قواعد الإسناد المزدوجة ولقواعد الموضوعية التى تحدد نطاق تطبيقها (والتى تعد قواعد اسناد منفرده الجانب). وهو الأمر الذى يمكن فهمه فى ضوء مساواته بين المنهجين المستعملين فى تحديد القانون المطبق على العلاقات ذات الطابع الدولى.
وقد هدف سافينى من منهجه الى تحقيق التناسق والتعايش المشترك بين مختلف النظم القانونية والتوصل لوحدة الحلول فى مجال تنازع القوانين، يؤدى هذا الهدف بالتبعية لتحقيق مصلحة الافراد نظرا لما تكفله وحده الحلول من حماية توقعاتهم ولما توفره لهم من أمن ويقين قانونيين بالنسبة لعلاقاتهم ذات الطابع الدولى.
خصائص فقه سافينى:
يتميز فقه سافينى بالخصائص الآتية:
1- أنه فقه متخير وتحليلى: لأنه لا يعنى بوضع مبدأ مسبق يحدد مجال تطبيق القوانين بصفة عامة أو يحدد مجال تطبيق كل قانون على حدة بل انه ينطلق لفض تنازع القوانين من ذات العلاقة موضوع التنازع تاركا حكمها لقانون الدولة التى تتركز فيها، اى التى يوجد بها مقرها.
2- أنه فقه عالمى، لأنه يهتم بالبحث عن أكثر القوانين ملائمة لحكم العلاقة القانونية دون التعصب لهذا القانون أو ذاك.الأمر الذى كان من شأنه اتسام حلوله بعموميتها ومنطقيتها وبالتالى بطابعها العالمى، وليس هذا بمستغرب اذ يهدف سافينى من وراء تتطبيق منهجه تحقيق الانسجام بين الحلول المطبقة على منازعات الحياة الخاصة الدولية وهو الأمر الذى يؤدى الى حماية مصلحة الافراد عن طريق حماية توقعاتهم المشروعة وتحقيق الامن القانونى لهم بالنسبة لعلاقاتهم ذات الطابع الدولى
منقول
اترك تعليقاً