مقالة قانونية هامة لنظرية الاحلاف الدولية
يعرف قاموس العلوم السياسية الحلف alliance «بأنه علاقة تعاقدية بين دولتين أو أكثر يتعهد بموجبها الفرقاء المعنيون بالمساعدة المتبادلة في حالة الحرب. وسياسة الأحلاف هي بديل لسياسة العزلة التي ترفض أية مسؤولية عن أمن الدول الأخرى، وهي تتميز كذلك عن سياسة الأمن الجماعي [ر] التي من حيث المبدأ، تعمم مبدأ التحالف، حتى تجعله عالمياً بحيث يردع العدوان ويتصدى له عند الضرورة». إن التحالفات وظيفة ضرورية لتوازن القوى تعمل ضمن نظم الدول المتعددة لذلك فهي قديمة قدم انشطار العالم إلى كيانات سياسية تصطرع على القوة والنفوذ.
يقول مورغنثاو Morgenthau إن الدولتين (أ) و(ب) المتنافستين تجدان أمامهما ثلاثة خيارات لتدعيم مراكز قواهما وتطويرها: فبإمكانهما أن تزيدا من قوتهما، وبإمكانهما أن تضيفا إلى قوتهما قوة دول أخرى، وبإمكانهما أن تسحب كل منهما من قوة الخصم قوى الدول الأخرى، فإن هما اختارتا السبيل الأولى فإن عليهما الدخول في سباق التسلح. أما إذا اختارتا السبيل الثانية أو الثالثة فقد اختارتا سبيل الأحلاف.
وإذن فاختيار دولة ما لطريق الأحلاف ليس مسألة مبدأ بل مسألة ملاءمة. فالدولة تستغني عن أحلافها إذا ما هي اقتنعت بأنها من القوة بحيث يمكنها الصمود أمام أعدائها من دون دعم أحد، أو أن أعباء الارتباطات الناتجة عن الأحلاف تفوق حسناتها المرتقبة. فلأحد هذين السببين أو لكليهما معاً، مثلاً،رفضت بريطانية وأمريكة الارتباط فيما بينهما بأحلاف زمن السلم في الماضي. لكن اتساع رقعة اللعبة الدولية بين الكبار المتصارعين على النفوذ في العالم جعلت الأحلاف ضرورة لهما في الخمسينات وخاصة مع هبوب رياح الحرب الباردة.
وليست كل مجموعات المصالح المشتركة التي تستدعي سياسات وتصرفات متناسقة أو متطابقة تستدعي الدخول في تحالفات صريحة. ولكن التحالف، من جهة أخرى، يتطلب وجود مصالح مشتركة وثيقة لقيامه. وفي هذا يقول أحد المفكرين «وحدة المصلحة هي الرباط الأكثر قوة سواء بين الدول أو الأفراد» وهذا ما يعبر عنه في اللغة السياسية الدارجة بالقول: «ليس في العلاقات الدولية صداقة دائمة أو عداوة دائمة بل مصلحة دائمة». فلا عجب والحالة هذه أن يضم ألمانية وفرنسة اليوم حلف شمال الأطلسي (الناتو)[ر] في حين استمر عداؤهما عقوداً طويلة من الزمن. وبالعكس فما كان يعرف بالتحالف الصيني السوفييتي الذي أبرم في 11/4/1950 بدأ يضعف منذ 1956 لينقلب إلى خصومة مكشوفة منذ مطلع الستينات أججتها الثورة الثقافية في الصين في منتصف عام 1966 إذ تحولت العلاقات بين البلدين إلى توتر مستمر لم يخل أحياناً من صدامات مسلحة أو تحالفات متضادة دخلتها الواحدة ضد الأخرى، مثال ذلك موقف البلدين في الحرب الهندية الباكستانية عام 1971.
كل هذا يحمل على التساؤل عن الشروط التي تتطلب في ظلها مجموعة المصالح المشتركة إنشاء الأحلاف بينها إنشاء صريحاً وعما يضيفه الحلف إلى هذه المجموعة من المصالح المشتركة.
التحالف يضيف الدقة وخاصة بمعنى التحديد لمجموعة المصالح المشتركة القائمة وللسياسات العامة والتدابير الدقيقة المتخذة ولخدمتها. وإذا طالع المرء معاهدات التحالف التي شهدها القرنان السابع عشر والثامن عشر لفوجئ بالتفصيل الدقيق الذي صيغت به الالتزامات القاضية بتقديم الجيوش والمعدات والتموين والمساعدات المالية وسواها مما هو ضروري لفعالية الحلف. والمصالح المشتركة هذه ليست بالضرورة محددة بإقليم جغرافي أو هدف محدد مثلما كانت مصلحة أمريكة وبريطانية في حفظ توازن القوى الأوربي.
وكذلك فهذه المصالح لا تكون متعذرة على الدقة والتحديد عندما تتصل بعدو مرتقب. ففي حين يمكن أن يوجه التحالف النموذجي ضد دولة أو دول بعينها فقد يكون ذلك غير ممكن كما كانت الحال مع أعداء المصالح البريطانية الأمريكية إذ لم يكن تحديدهم ممكناً بصورة مسبقة ذلك أن كل من يهدد التوازن الأوربي للقوى كان عدواً لهما. وعلى هذا فالمصالح النموذجية التي توحد دولتين أو أكثر ضد الغير هي في الوقت نفسه أكثر جزماً في تحديد العدو ولكنها أقل دقة في تحديد الأهداف المراد تحقيقها ضده والسياسات الواجبة الاتباع حياله.
أنواع الأحلاف:
يميز بعضهم مع مورغنثاو التحالفات التي تخدم مصالح أو سياسات متطابقة من التحالفات المتممة complementary أو العقائدية بل يمكن تمييز التحالفات المتبادلة من الوحيدة الطرف، والتحالفات العامة من المحدودة، والتحالفات الدائمة من المؤقتة، والتحالفات الفعالة من غير الفعالة.
فالتحالف الأمريكي البريطاني ضمن حلف شمال الأطلسي يقدم مثالاً نموذجياً لتحالف يخدم مصالح متطابقة. فهدف أحد الشريكين فيه وهو الحفاظ على توازن القوى في أوربة، هو عينه هدف الشريك الآخر. وعلى عكس ذلك فالتحالف بين الولايات المتحدة الأمريكية والباكستان هو أحد الأمثلة المعاصرة لتحالف يخدم مصالح متممة. فأما للأولى فهو يخدم الهدف الأمريكي الرئيس، بتوسيع نطاق سياسة الاحتواء [ر] للشيوعية. وأما للباكستان فهو يفترض أن يخدم بالدرجة الأولى هدف زيادة إمكاناتها السياسية والعسكرية والاقتصادية تجاه جيرانها. وقد قلنا «يفترض أن يخدم»، لأن التجارب المريرة التي مرت بها الباكستان أثبتت انتفاء مصلحتها من هذا التحالف يوم تعرضت هذه المصلحة لخطر حقيقي وخاصة في حرب 1971 مع الهند حول بنغلادش.
وتقدم معاهدة الحلف المقدس لعام 1815 وتصريح الأطلسي لعام 1941 وربما حلف وارسو لعام 1955 أمثلة جيدة لتحالف أيديولوجي. فكل هذه الوثائق تضع مبادئ عقائدية عامة التزم المتعاقدون احترامها وصيانتها. ومن الممكن القول إن ميثاق جامعة الدول العربية واتفاقية الدفاع المشترك لعام 1951 الناتجة عن تجربتها المرة الأولى (حرب فلسطين الأولى عام 1948) يعد مثالاً للتضامن العقائدي ضد كيان غريب على الوطن العربي (إسرائيل).
وأحياناً تندمج الالتزامات الأيديولوجية بالالتزامات المادية في معاهدة التحالف ذاتها. مثال ذلك تحالف الأباطرة الثلاثة عام 1873 الذي نص على التعاون العسكري بين النمسة وألمانية وروسية في حالة وقوع عدوان على إحداها. وفي الوقت نفسه أكد الملوك المتعاقدون تضامنهم ضد احتمال التخريب من جانب الجمهوريات المجاورة. والشيء ذاته يقال في الأحلاف التي قامت ضد الشيوعية في أيامنا. وقد يظهر العامل الأيديولوجي أيضاً في التفسير الرسمي لتحالف مبني على عوامل مادية في شكل تضامن عقائدي يتجاوز حدود المصلحة المادية البحتة. مثال ذلك في رأي بعضهم التحالف الواقعي الأمريكي البريطاني قبل العدوان على السويس فهو مبني على الاشتراك في الحضارة والمؤسسات السياسية والأفكار بين المتحالفين.
أما عن الأثر السياسي لهذا العامل الأيديولوجي في الأحلاف فينبغي التفريق بين احتمالات ثلاثة: التحالف الأيديولوجي البحت الذي لا تدعمه مصالح مادية وهذا لا يمكن أن يولد إلا ميتاً. فلا يمكن تحديد سياسات وقيادة تصرفات بمجرد التظاهر بوجود تضامن سياسي حيث لا يوجد هذا التضامن. وإذا كان العامل العقائدي مفروضاً من علٍ على مجموعة المصالح الحقيقية فإنه يمكن أن يدعم الحلف بتسخير المعتقدات الأخلاقية والمسوغات العاطفية لتقويته. غير أنه من الممكن للعامل العقائدي أن يضعف الحلفاء من جهة أخرى، وذلك بعرقلة مدى المصالح المشتركة التي يفترض أن التحالف قام ليحددها، وبإثارة آمال مكتوب عليها الإخفاق. ويقدم التحالف الواقعي الأمريكي الإنكليزي مثالاً لكل من الاحتمالين.
ومن الناحية النظرية يجب أن يكون توزيع المنافع ضمن التحالف متبادلاً. أي أن تكون الخدمات التي يقدمها الأطراف لبعضهم فيها متعادلة مع المنافع المتوخاة، ويتجلى هذا بصورة مثالية في تحالف قائم بين دول متساوية في القوة وتعمل لمصالح متطابقة. فهنا تكون الإمكانات المتساوية للجميع والمتجاوبة مع البواعث المتساوية للجميع في خدمة مصالح الجميع.
أما الشكل المضاد لتوزيع المنافع فهو الانتفاع وحيد الطرف حيث يتلقى طرف واحد في الحلف حصة السبع من المنافع في حين تتحمل الأطراف الأخرى أثقل الأعباء. وما دام هدف مثل هذا التحالف هو صيانة الاستقلال السياسي والسيادة الإقليمية للدول المستفيدة فإن مثل هذا التحالف لا يختلف كثيراً عن معاهدات الحماية.
وهكذا فتوزيع المنافع يمكن أن يعكس توزيع القوة في الحلف وكذلك تحديد سياساته، فدولة كبرى مثلاً يمكن أن تتحكم في حلف ضعيف فيما يتصل بالمنافع والسياسات. ولهذا السبب حذر ميكافيلي الدول الضعيفة من الانخراط في أحلاف مع دول كبرى إلا بدافع الضرورة الملحة. وتمثل العلاقة بين واشنطن وكورية الجنوبية صورة لما ذكر.
على أن هذا التلازم بين المنافع والسياسات والقوة ليس حتمياً بصورة مطلقة. فيمكن لدولة ضعيفة أن تكون قادرة على استغلال علاقتها بحليف قوي وذلك بإلزام الأخير بدعم مصالحها الحيوية التي قد لا تعني الكثير له أو التي يمكن أن تناقض مصالحه. يقابل ذلك أنه يمكن للدولة الضعيفة أن تفرض على الحليف القوي دعمها الذي هو من دون شك، أقل أهمية للأخير من دعمه لها.
ومن الناحية التاريخية كانت العلاقة بين ألمانية والمجر والنمسة قبل الحرب العالمية الأولى من هذا النوع الذي تدخل فيه حالياً العلاقة بين أمريكة من جهة والباكستان وتايوان من جهة ثانية.
لكن من الممكن أن يكون لدى الدول الضعيفة من الإمكانات ما يكون لـه قيمة كبرى للحليف الأقوى بحيث لا يمكن استبدالها أو التعويض عنها. فالفائدة الفذة التي يمكن لهذه الدولة أن تمنحها أو تسحبها يمكن أن تعطيها ضمن التحالف مركزاً لا يمكن قياسه بالمعايير العادية لتبادل المنافع في الحلف مثال ذلك العلاقة بين إيسلندة وأمريكة فيما يتعلق بالقواعد العسكرية وبين البرتغال وحلف الأطلسي بالنظر للموقع الاستراتيجي وبين أمريكة وإسرائيل بالنظر للعاملين معاً، إضافة لقيام إسرائيل بدور المخفر الأمامي الأمريكي في الشرق العربي.
والتحالف المثالي هو ذلك الذي يحاول تحويل جزء صغير من إجمالي المصالح المشتركة للدول المتعاقدة إلى سياسات وتدابير مشتركة،لأن بعض المصالح قد لا تكون مهمة لأهداف الحلف بحيث يؤيدها بعضهم ويتنصل منها آخرون، بل قد تعارضها جماعة ثالثة. وهكذا فالتحالف المثالي محاط في ميدان ديناميكي بالمصالح والمقاصد المختلفة.
والسؤال حول ما إذا كان هذا التحالف سيكون فعالاً وإلى أي حد يعتمد على قوة المصالح المنبني عليها بالقياس إلى قوة المصالح الخاصة بالدول الأعضاء التي يمكن أن تتواءم مع الأولى. على أن فرص نجاح حلف ما مهما كان محدود النطاق يمكن أن تفحص ضمن سياق السياسات الإجمالية التي عليه أن يتصرف بمقتضاها.
والأحلاف العامة عادة مؤقتة، ومعظمها يسود وقت الحرب، لأن المصلحة المشتركة التي تتمثل بالسعي للانتصار وضمان المصالح عن طريق تسويات السلام التالية للحرب من شأنها أن تفسح في المجال، بمجرد انتهاء المعارك، لبروز المصالح الفردية المتعارضة للدول الحليفة سابقاً. ومن جهة أخرى فهناك تلازم بين دوام الحلف والإطار المحدود للمصالح التي قام عليها. فكلما تحددت هذه المصالح وضاق نطاقها كانت فرص استمرار التحالف أكبر. مثال ذلك التحالف بين بريطانية والبرتغال الذي قام عام 1703. فقد استمر قروناً عديدة لأن المصلحة المشتركة التي قام لصيانتها بسيطة ومحدودة. فبريطانية لازمة لحماية شواطئ البرتغال، وشواطئ الأخيرة مهمة لاستمرار سيطرة بريطانية على مداخل الأطلسي.
إن اعتماد الأحلاف على مجموعة المصالح المشتركة للدول الأعضاء يدعو أيضاً للتفريق بين الأحلاف النشطة والفعالة والأحلاف المخفقة أو غير الفعالة. فلكي يكون الحلف فعالاً، أي قادراً على التنسيق بين السياسات العامة والتدابير الدقيقة لأعضائه، لا بد أن يتفق أعضاؤه ليس على الأهداف العامة وحسب، بل على السياسات والتدابير التفصيلية أيضاً.وكثير من الأحلاف بقي مجرد حبر على الورق لعدم توافر هذا الشرط. مثال ذلك الأحلاف الفرنسية الروسية لعام 1935 و1944 والحلف البريطاني الروسي لعام 1942 والحلف العربي المعروف بمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي لعام 1950.
وقد تسهم المشروعية القانونية لمعاهدة التحالف والحملات الدعائية التي ترافق عقده في خداع الباحثين بشأن قيمته العملية الحقيقية التي لا يمكن تقديرها إلا بفحص موضوعي لسلوكية الأعضاء في الحلف في الواقع العملي.
نشوء الأحلاف:
الطريقة المتبعة، عادة، لدراسة كيفية نشوء الأحلاف تكون بدراسة حلف معين لاستخلاص العوامل الأساسية التي نفخت فيه الحياة ومن ثم تطبيقها على الأحلاف الأخرى.
فإذا تقاربت هذه العوامل أو تطابقت أمكن التوصل إلى نظرية معينة يصح إعمالها قاعدة على ما يدرس من أحلاف قائمة أو مستقبلية. وقد درج الكتاب على عد حلف وارسو نموذجاً ممتازاً لمثل هذه الدراسة.
جاءت معاهدة الصداقة والتعاون في المساعدة المتبادلة المبرمة في مدينة وارسو بين الاتحاد السوفييتي وحلفائه الأوربيين السبعة ألبانية وبلغارية والمجر وألمانية الديمقراطية ورومانية وبولونية وتشيكوسلوفاكية في الرابع عشر من أيار 1955، أي بعد تسعة أيام فقط من تدشين اتحاد أوربة الغربية الذي جعل ألمانية الاتحادية دولة ذات سيادة وقبلها عضواً عاملاً في حلف شمال الأطلسي. وكانت معاهدة حلف شمال الأطلسي هذا قد أبرمت قبل ست سنوات بين الولايات المتحدة وكندا وبريطانية وفرنسا وإيطالية وبلجيكة وهولندة واللوكسمبورغ والدنمرك والنروج وإيسلندة والبرتغال وانضمت إليها اليونان وتركية عام 1952.
وتنص المادة الخامسة من هذه المعاهدة على ما يلي: « أي اعتداء مسلح على دولة أو أكثر منها في أوربة أو أمريكة الشمالية يعد اعتداء عليها جميعاً وبالتالي تلتزم كل منها بمساعدة الدولة أو الدول المعتدى عليها باتخاذ ما تراه لازماً من تدابير بما في ذلك استخدام القوة المسلحة فردياً أو بالاتفاق مع الأطراف الأخرى». وقد نصت المعاهدة على سريانها مدة عشرين عاماً. أما معاهدة وارسو التي أبرمت لعشرين عاماً أيضاً فقد نصت في مادتها الرابعة على ما يلي: «في حالة وقوع اعتداء مسلح في أوربة على طرف أو أكثر من أطراف المعاهدة من قبل دولة أو مجموعة دول تبادر كل دولة في المعاهدة فردياً أو بالاتفاق مع الأطراف الأخرى إلى مساعدة الدولة أو الدول التي كانت عرضة للعدوان بكل الوسائل التي تراها ضرورية بما في ذلك استخدام القوة المسلحة».
وهكذا فحلف وارسو – على الأقل في نصوصه الرسمية – يشبه كثيراً حلف شمال الأطلسي غير أن حلف وارسو لم يأت رداً مباشراً على حلف الأطلسي فالآخر سبق بست سنين لكنه بالتأكيد جاء رداً مباشراً لحلف الأطلسي الجديد الذي ضم ألمانية الاتحادية.
فبعد اجتماع الدول الغربية في لندن من 28/9 – 3/10/1954 ثم في باريس من 19-23/10/1954 وموافقتهم على الاعتراف بحق ألمانية الكامل في السيادة وقبولها عضواً في حلف الأطلسي دعا السوفييت لعقد مؤتمر يضم الدول الأوربية والولايات المتحدة يجتمع في موسكو في المدة الواقعة بين 29/11/ و2/12/1954 بقصد حل المسألة الألمانية وتجنب انقسام أوربة إلى ترتيبات دفاعية متضادة. غير أن أحداً من المدعوين الغربيين لم يحضر. وكان أن صدر عن جماعة موسكو تحذير علني بأنه إذا أصرَّت الدول الغربية على إبرام اتفاقات باريس فإن دول شرقي أوربة ستجد نفسها مضطرة لاتخاذ تدابير دفاعية جماعية خاصة بها لمواجهة تهديد العسكرية الألمانية التي أحياها الغرب. وهكذا يبدو حلف وارسو رداً مباشراً على انبعاث ألمانية الغربية دولة عسكرية قوية في قلب أوربة. ثم إن الحلف الاشتراكي كان مهماً من الناحية العسكرية لأنه حل محل معاهدات ثنائية كان الاتحاد السوفييتي يرتبط بها مع كل عضو من أعضائه، فجاء البيان المشترك الصادر مع معاهدة إنشاء حلف وارسو ونص على إنشاء قيادة عسكرية موحدة لقوات الدول الأعضاء فيه.
لكن معاهدة حلف وارسو كانت أيضاً نتيجة مهمة لتطورات أخرى. فقد أبرمت قبل يوم واحد من توقيع معاهدة الدولة النمسوية التي وضعت حداً قانونياً لاحتلال النمسة من السوفييت والدول الأوربية الأخرى. لقد كان الاحتلال السوفييتي للنمسة الأساس القانوني لعسكرة القوات السوفييتية في المجر ورومانية فلما انتهى هذا الاحتلال لم يعد ثمة مسوغ قانوني لهذه العسكرة. كذلك فإن معاهدة وارسو أدخلت ألمانية الديمقراطية في الكومنولث الاشتراكي لاستمرار الوجود السوفييتي في أراضيها.
وهكذا استجابت معاهدة وارسو لهذين الوضعين بإيجاد أساس قانوني للوجود العسكري في كل دول أوربة الشرقية خاصة بعد زوال الستالينية التي مارست هيمنة على هذه الدول خشي بعده من تقهقرها. فجاء حلف وارسو يشد الدول الاشتراكية في أوربة إلى موسكو برباط قانوني متين، فهو إضافة لما تقدم يعطي موسكو ميزة أخرى هي تحريم دخول أي دولة في الحلف: في أي حلف أو ترتيب مضاد له.
على أنه لا ينبغي للمرء أن يعتقد أن حلف وارسو كان نتاج الفكر السوفييتي المحض أو أنه سخر لمصلحة موسكو وحدها. فدول أوربة الشرقية التي عانت الأمرين من الاحتلال النازي لأراضيها وجدت في إحياء العسكرية الألمانية ما يسوغ انخراطها في حلف تقوده الدولة الأعظم الأخرى في العالم.
هذه هي الشروط والعوامل التي يبدو أنها كانت وراء إنشاء حلف وارسو.
فإذا كانت الحال هكذا، وهي كذلك فإنه من الممكن التوصل إلى فرضية تشرح إنشاء أي حلف. بعبارة موجزة يمكن توقع إنشاء حلف ما تتعرض فيه أسس النفوذ السياسي ضمن تكتل ما للضعف بسبب التغيرات السياسية، في وضع لا تكون الدول المُستَغلة فيه من القدرة بحيث تقاوم الخصم الخارجي من دون مساعدة أو تحد من تضاؤل الاستقلال السياسي الناجم عن الانضمام إلى التحالف، وبجمع هذه العوامل في فرضية عامة وعلمية يمكن موافقة إداوردز على الصيغة التالية:
«تكوِّن الدول حلفاً عندما تواجه تغييراً جديداً ومهدداً في الوضع العسكري، وتحاول الدولة المسيطرة فيها إيجاد طرق جديدة لتدعيم مركز قوتها في مواجهة الخصم ومركز نفوذها على حلفائها إذا تعرض أحد المركزين للخطر».
فإذا طبقت هذه الصيغة العامة على الأحلاف الرئيسة التي شهدها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وهي حلف الأطلسي NATO وحلف جنوب شرق آسيا[ر] SEATO والحلف المركزي CENTO لوجد أن عناصرها الثلاثة (وهي (أ) تغيير جديد مهدد في الوضع العسكري، (ب) الدولة المسيطرة تسعى لتدعيم مركزها في مواجهة الخصم، (ج) الدولة المسيطرة تسعى لتدعيم مركزها تجاه حلفائها) تنطبق عليها تماماً مع تركيز أكثر على إحداها أو بعضها في حالة هذا الحلف أو ذاك. بل يذهب بعضهم إلى صلاحية هذه الصيغة العامة حتى للأحلاف الثنائية الرئيسة كالحلف الروسي الصيني والحلف الواقعي والمستمر بين بريطانية والولايات المتحدة والمعرف بالعلاقات المميزة بين البلدين.
تطور الأحلاف وزوالها:
لكل حلف دورة حياة تمثل تطوره وما يتعرض له من تغيرات وآثار حتى ينقضي.
إن أهم مظاهر تطور الحلف حجمه. والافتراض السائد في التحليل النهائي أن الفاعل السياسي، وهو هنا الدولة السائدة في الحلف، سيسعى لزيادة الدعم السياسي الممنوح إلى حده الأعلى ولذا سيزيد قدر المستطاع من عدد الدول الداخلة في حلفه أو أحلافه. ويؤكد هذا المنحى سياسة الأحلاف الأمريكية أيام الرئيس أيزنهاور التي تميزت بانتشار الأحلاف الأمريكية الثنائية والجماعية إلى حد سميت معه تلك المرحلة بمرحلة هوس الأحلاف. لكن نظرة ذرائعية لبناء التكتلات قد تحمل على الاعتقاد بأن الدولة تسعى لحد أدنى من هذه التكتلات أو الأحلاف النشطة بقدر ما تعتقد أنها ستضمن لها ربح نزاع قائم أو تحقيق أي غرض آخر قصد من الحلف تحقيقه، لا أكثر ولا أقل، وذلك حتى تتلافى وقوع الحلف في المصاعب الناجمة عن تصادم المصلحة المشتركة لأعضائه مع مصالحهم الفردية المتعارضة. كذلك لابد من الاهتمام بعوامل المد والجزر في تطور الحلف أو تدهوره.
فإذا تأملنا تطورات أحلاف كالأطلسي ووارسو والحلف المركزي في السنين المتتالية لوجدنا تغييرات مهمة فيها، إذا لم يكن في الشكل الرسمي للعضوية ففي درجة التزام الأعضاء دعمها لبعضها على الأقل. من ذلك مثلاً موقف فرنسة من حلف الأطلسي منذ أيام الجنرال ديغول وموقف اليونان منه فيما بعد. كذلك موقف الصين من تحالفها مع السوفييت وموقف الباكستان من حلف جنوب شرق آسيا الذي أعلنت انسحابها منه في 8/11/1972 مما آل في النهاية إلى حله.
ولا بد أيضاً من الاهتمام بدرجة التكامل التي حققها الحلف. فالتكامل السياسي وما يستبقه من تكامل عسكري أمران يهمان فعلاً السياسات الوطنية والدولية لأنهما أديا إلى تغيرات كبيرة في حجم الكثير من الفاعلين السياسيين واستقلالهم في سنوات ما بعد الحرب، ولا يمكن هنا أن ينفصل التحليل عن الأحداث السياسية ضمن الحدود الوطنية. ولعل التكامل، سواء في السوق الأوربية المشتركة أو الكوميكون أو الناتو أو الحركات الرامية إلى تدعيم التعاون بين الدول في إفريقية وأمريكة اللاتينية وآسيا، أوضح مذكر للمحلل بهذا. ويبقى أمر التكامل مجالاً خصباً لدراسات مشتركة أجراها ويجريها المختصون في السياسات الوطنية والمقارنة والعلاقات الدولية. ومن مثل هذه الدراسات يمكن التعمق موضوعياً في فهم دورة حياة أي حلف.
كذلك ينبغي دراسة آثار الأحلاف، واهتمام القارئ هنا ذو وجهين، فالمعروف أن للأحلاف أثراً مهماً في ممارسة السياسة الدولية لأنها من إنشاء الأطراف الفاعلة في هذه السياسة كما أنها ميدان التحركات الكبرى لها. ولو تمعن المرء في الأحداث التي تطرأ للأحلاف والتي تراوح بين التفاعل اليومي للدبلوماسية العادية والأحداث الأكثر تعقيداً كسباق التسلح لوجد أن فهم فلسفة الأحلاف يساعد على التبحر في كل ذلك. فالعلاقات الدبلوماسية بين الحلفاء في شمال الأطلسي تأثرت، وتتأثر بوضوح، بوجود حلف الناتو وكذلك العلاقات بين هؤلاء من جهة وأعضاء حلف وارسو من جهة ثانية وبين هؤلاء جميعاً والتكتلات الأخرى التي تنظر إليهما بعين الريبة. ثم إن الحلف يفترض أن يؤمّن، بطرق ما، بديلاً لسباق التسلح. لأن أحد البواعث على إقامته هو زيادة قدرات الدول المعنية من دون زيادة سلاحها. لكن الواقع أثبت أنه حيثما واجهت الأحلاف بعضها فإن زيادة قدرة أحدها عن طريق العدوان من شأنه أن يحرضها على شعور مقابل من الحلف الآخر أو على زيادة تسلح الخصم. وهكذا فتسابق التسلح بين الدول في غياب الأحلاف قد ينقلب إلى تسابق للتسلح بين الأحلاف نفسها. وهذا النوع الأخير من تسابق التسلح عملية معقدة ومتقلبة لأن الأحلاف بحد ذاتها معقدة ومتقلبة وخاضعة للتبديل والتغيير العسكري والدبلوماسي وذلك أمر يدعو للتفكير حقاً خاصة إذا أخذ دليلاً على هذه المقولة سباق التسلح بين حلفي الأطلسي ووارسو في سنوات الحرب الباردة خلال الخمسينات وقسم من الستينات.
وكما تنشأ الأحلاف وتتطور فإنها تنقضي، والانقضاء يأخذ أشكالاً شتى، بعضها رسمي وبعضها الآخر واقعي. وأهم أسباب انقضاء الأحلاف الرسمية انتهاء مدتها المحددة في معاهدة إنشائها وذلك بصورة اتفاقية أو بصورة منفردة.
كذلك تنتهي الأحلاف بهزيمة أو تحطم أحدها أو كل أطرافها أو برفض الالتزام بها أو بشذوذ أحد الأطراف أو بعضهم عنها بطريقة أو بأخرى. كما قد تنتهي الأحلاف بسبب تغير السياسة الداخلية لأحد أطرافها أو بعضهم كحلف بغداد أو الحلف المركزي الذي انتهى عملياً بانسحاب العراق منه عقيب ثورة 1958 وكنتيجة لتبدل العلاقات الدولية. وهكذا وكنتيجة لسياسة البيروسترويكا (إعادة البناء) في الاتحاد السوفييتي وما طرأ على سياسته الخارجية انفلتت الدول الأعضاء في حلف وارسو من تحالفها مع السوفييت ومع بعضها وأدى ذلك إلى وضع حد رسمي للحلف في صيف عام 1991 مما كان له أثره الكبير في وضع نهاية للحرب الباردة بين الدول الأعضاء في حلف الناتو ودول أوربة الشرقية، بل لقد حلت سياسة «الوفاق» بين دول المعسكرين محل سياسة المواجهة السابقة. والإشكال هنا هو تحديد السبب المباشر والحاسم لانقضاء الحلف أو تزعزعه وكيف ومتى تم ذلك.
ثمة أمر آخر تحسن الإشارة إليه في مجال آثار الأحلاف هو أثر الأحلاف في ا لعلاقات الدولية. إذا انطلقنا من أن الأحلاف تسهم في استتباب الأمن لأطرافها فإن هذا يعد مهماً بحد ذاته. لكن هذا الادعاء الذي يراه بعضهم غنياً عن الشرح هو لدى آخرين موضع شك كبير، ومن هؤلاء المشككين بجدارة الأحلاف كلوز كنور الذي يقول:
«باعتبار أن القوة المسلحة أقل فائدة إما بسبب مشروعيتها المحددة وإما بسبب الخوف من التصاعد في استخدامها فإن الأحلاف ينبغي أن تكون أقل قيمة مما كانت عليه». ويذهب بورتن Burton إلى أبعد من هذا إذ يقول: «إن التنافس العسكري بين مجموعتين متصارعتين وشيوع القطبية الثنائية في البنيان السياسي الدولي لا يفشل في تحقيق مزيد من الأمن فحسب بل يسهم باطراد في زيادة التوتر وجعل الخلاف أكثر حدوثاً. إن الأحلاف لا تفشل فقط في تحرير أعضائها من الإنفاق الزائد على التسلح بل إنها تخلق تنافساً بين كل من الدول مما يحتم مزيداً من الإنفاق». ويضيف بورتن «ما أن يقوم تحالف مع دولة حتى تزداد أهمية استمرار حكومة تلك الدولة ويصبح التركيز على الحيلولة دون حصول أي تغيير سياسي داخلي يكون من شأنه تهديد التحالف، وهكذا انساقت الولايات المتحدة إلى دعم حكومات طاغية أو غير شرعية ولا شعبية لكي تضمن عدم حدوث مثل هذا التغيير. وكذلك وبصورة حتمية فإن المساعدات الاقتصادية والتكتيكية قد أعطيت على أساس تمييزي مناطه اعتبارات الاستراتيجية قصيرة المدى أكثر من أهداف الرفاهية البعيدة».
وينتهي بورتن إلى الاستنتاج بأن عدم الانحياز سيكون الطابع الغالب للسياسات الدولية في المستقبل. ذلك حلم عزيز وأمنية طوباوية لا يؤيدها ما يدور في العالم من معطيات.
في العالم اليوم حلفان غربيان مهمان هما حلف شمال الأطلسي وحلف الريو أما الأول فيضم الولايات المتحدة وكندا وأربع عشرة دولة أوربية، في حين يضم الثاني الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأعضاء في منظمة الدول الأمريكية O.A.S [عدا كوبة] وهو الساعد العسكري لهذه المنظمة لكن أهميته لا تقارن بحلف شمال الأطلسي (منظمة حلف شمال الأطلسي).
أما في المعسكر الاشتراكي فكان هناك حلف وارسو (منظمة حلف وارسو) الذي ضم الدول الاشتراكية في أوربة عدا ألبانية التي دفعتها سياستها المنعزلة وقربها العقائدي من الماركسية الماوية إلى التقرب من الصين على حساب عضويتها في حلف وارسو غير أن حلف وارسو حل في صيف عام 1991 ولم يبق لدول أوربة الشرقية أي حلف أو ائتلاف نتيجة تغيير الأنظمة الاشتراكية فيها.
وفي الوطن العربي اتفاقية للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي وقعت عام 1950 واستهدفت فيما استهدفت سد الثغرات الواردة في ميثاق جامعة الدول العربية بإيجاد ساعد عسكري لها يضم مجلساً للدفاع ولجنة استشارية وأمانة عسكرية (الدفاع العربي المشترك) بغية تحقق الأمن للأمة العربية وخاصة في مواجهة الأخطار المحدقة بها من كل حدب وصوب.
محمد عزيز شكري
مراجع للاستزادة
ـ محمد عزيز شكري، الأحلاف والتكتلات في السياسة العالمية، سلسلة عالم المعرفة رقم 7 (الكويت، تموز 1978).
– F.A BEER, Alliances: Latent War Communities in the Contemporary World (Holt Rinhart & Winston Inc, NY 1970).
اترك تعليقاً