التحكيم التجاري و العمليات المصرفية الإسلامية
يلعب التحكيم التجاري في الوقت الحاضر، كما هو معلوم للجميع، دورا كبيرا في تسوية المنازعات التجارية بين الأطراف التي ينشا بينها نزاع تجاري ولأي سبب من الأسباب أثناء تعاملاتهم التجارية. و لقد بدا واضحا للعيان ازدياد و تنامي الدور الذي يلعبه التحكيم التجاري في الآونة الأخيرة خاصة و أن أطراف النزاع أصبحوا يفضلون اللجوء للتحكيم لعدة أسباب و مبررات نذكر منها، وعلي سبيل المثال، البطء في إصدار الأحكام أمام المحاكم القضائية نظرا لطول و ربما تعقيد بعض الإجراءات التي تنص عليها قوانين الإجراءات و الإثبات، و إضافة لهذا فان أطراف النزاع قد يفضلون اللجوء للتحكيم لان كافة إجراءات التحكيم تتم في سرية تامة مما يحفظ للأطراف السرية التامة لمعاملاتهم التجارية و منازعاتهم التي قد لا يرغبون في أن يعلمها غيرهم، و أيضا فان أطراف النزاع قد يفضلون اللجوء للتحكيم التجاري لان هيئة التحكيم في الغالب تتكون من أشخاص متخصصون و لديهم الخبرة و المؤهلات الكافية للفصل في النزاع فمثلا إذا كان النزاع يتعلق بالاعتمادات المستندية أو العمليات المصرفية الدولية أو بعض العمليات المصرفية الإسلامية المستحدثة……… فان هيئة التحكيم غالبا تضم محكمون متخصصون و مؤهلون من القطاع المصرفي، أي من أصحاب الخبرة و الدراية المباشرة، وهذا قد لا يتوفر في معظم المحاكم القضائية، …….. و لغير ذلك من الأسباب التي لا يسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
إن اللجوء للتحكيم التجاري، من دون شك، أصبح من الأمور المرغوبة في كل العمليات سواء كانت تجارية أو مصرفية أو هندسية أو الكترونية أو محاسبية أو خلافه. و كخلفية تاريخية فان مبدأ التحكيم معروف في الحضارات القديمة وعند العرب خاصة فانه معروف منذ أيام الجاهلية و أيضا بعد ظهور الإسلام فأن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تدعو إلي الحكمة و إلي اللجوء للتحكيم، ومع انتشار المصارف والمؤسسات الإسلامية واتساع دائرة العمليات المصرفية الإسلامية فإننا ننوه إلي ضرورة الاستفادة من التحكيم التجاري في حسم المنازعات التي قد تنجم بين أطراف العمليات المصرفية الإسلامية وذلك لخصوصيتها و لكن لا بد من القول أن تقنين و تنظيم هذا الأمر يجب أن يتم أولا، و هذا يقودنا إلي القول بضرورة إصدار الأنظمة و اللوائح و التشريعات الضرورية لتنظيم أحكام التحكيم التجاري الخاص بحسم المنازعات المتعلقة بالعمليات المصرفية الإسلامية. و لا يفوتنا الإشادة بإنشاء المركز الإسلامي الدولي للمصالحة و التحكيم و مقره في دبي و نعتقد أن هذه الخطوة ستعمل علي دعم و تطوير التحكيم في المنازعات المتعلقة بالعمليات و المعاملات الإسلامية، و أول الغيث قطرة.
و في هذا الخصوص لا بد من الإشادة ببعض التجارب العملية التي تمت بشان التحكيم في المنازعات المتعلقة بالنشاطات و المعاملات الإسلامية و بصفة خاصة فإننا نثمن و نشيد بالتجربة الماليزية حيث قام مركز كولالمبورالاقليمي للتحكيم التجاري بإصدار نظام خاص لتسوية المنازعات المتعلقة بالعمليات المصرفية الإسلامية. و سنتناول أدناه و في إيجاز بعض من السمات الرئيسية لهذا النظام بغرض الاستئناس و الاسترشاد بهذه التجربة.
ينص نظام مركز كولالمبور الإقليمي للتحكيم التجاري إلي انه ينطبق عندما يكون النزاع متعلقا بعمليات تتم وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء و عندما يتفق أطراف النزاع علي إحالته للتحكيم وفقا لأحكام النظام، و هذا يحصر عملية التحكيم في كل العمليات المصرفية الإسلامية و غيرها من المعاملات الإسلامية الاخري، كالتكافل و الإجارة مثلا، التي تتم وفق أحكام الشريعة الإسلامية السمحة. وهذا الشرط بالطبع يقود إلي أن هيئة التحكيم يجب أن تتكون من أعضاء لديهم دراية كافية و خبرة تامة بأحكام الشريعة الإسلامية ونعتقد أن هذا أمر حميد يستوجب الإشادة لان النظر في النزاع بين هذه الجهات يتم بواسطة محكمون ممن يتمتعون بالخبرة و الدراية الكافية بمبادئ و أحكام المعاملات وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا الوضع الخاص قد لا يتوفر في المحاكم القضائية العادية التي قد تنظر في النزاع إذا لم يحال لهئية التحكيم المكونة و التي تم اختيارها بموجب النظام.
وفق أحكام نظام مركز كولالمبور الإقليمي للتحكيم التجاري فانه يجوز لأطراف النزاع اختيار المحكم (في حالة العضو الواحد) أو أعضاء هيئة التحكيم، كما يجوز لهم إحالة موضوع الاختيار للمركز ليقوم باختيار المحكم أو أعضاء هيئة التحكيم نيابة عنهم، وهذا يجعل التحكيم في مركز كولالمبور تحكيما مؤسسيا لان اختيار الهيئة يتم عبر مؤسسة المركز و من دون شك فان المؤسسية أمر مرغوب فيه في التحكيم التجاري، و الأمثلة عندنا للتحكيم المؤسسي كثيرة كمركز تحكيم غرفة التجارة الدولية في باريس و مركز دبي الدولي للتحكيم التجاري و مركز دول الخليج للتحكيم التجاري بالبحرين و مركز القاهرة و مركز لندن………………………………………… و غيره و القائمة تطول، نظرا لان مؤسسات و مراكز التحكيم دائما تكون في وضع أحسن من الأطراف في الاختيار لان لديها قوائم شاملة بالمحكمين من كل الاختصاصات ولديها أيضا الخبرة الطويلة والتراكمية في التعامل معهم و التأكد من نزاهتهم ومن حيادهم واستقلاليتهم ……. وهذا في حد ذاته يعتبر من ايجابيات وجود نظام خاص بالتحكيم للنظر في المنازعات التي قد تطرأ بين أطراف العمليات و المعاملات الإسلامية لان النظام بالضرورة يستوجب وجود مركز أو مؤسسة متخصصة تقوم بالإشراف علي تطبيق أحكام النظام. ولقد كان لنا شرف المشاركة في التحكيم في بعض القضايا أمام بعض مراكز التحكيم الدولية و الإقليمية و لقد تبين لنا أن العمل في هذه المراكز يتم بتناغم تام ووفق إجراءات محددة وواضحة و حديثة وتحت إشراف و متابعة مهنية عالية لا تتوفر إلا لمن لديه المثابرة و الخبرة التراكمية المتواصلة.
أيضا من ايجابيات التحكيم المؤسسي أن نظام مركز كولالمبور الإقليمي للتحكيم التجاري، وهذا أيضا ينطبق علي غيره من المراكز، يمنح مدير المركز الحق في تحديد كل تكاليف التحكيم شاملة أتعاب هيئة التحكيم و مصاريفهم و غير ذلك من التكاليف المادية، و هذا الأمر قد يصعب علي أطراف النزاع و لكنه في المقابل يكون سهلا لمرا كز التحكيم التي تتمتع بوجود لوائح و تشريعات تنظم كل المسائل المتعلقة بالتحكيم من مالية أو إدارية أو خلافه، وفي العادة فان نظام أو لائحة تحكيم المركز يرفق معها جدول يتضمن الحد الاعلي و الحد الادني لأتعاب أعضاء هيئة التحكيم وكل مصاريفهم من ترحيل و سكرتارية و طباعة و اتصالات وغيره و أيضا يوجد جدول الرسوم التي يتقاضاها مركز التحكيم نظير خدماته المهنية والفنية و اللوجستية.
كما بينا في المقدمة فان من أهم مميزات التحكيم السرعة في الفصل في المنازعات مقارنة مع الوقت الطويل الذي تأخذه المحاكم القضائية في الفصل في المنازعات و بالطبع فان تأخير الفصل في المنازعات قد يضر بالأطراف و يضر بأعمالهم التجارية و الاستثمارية مما يعرضهم لتكبد العديد من الخسائر المادية و المعنوية و غير ذلك، و لهذا يفضل بعض الأطراف اللجوء إلي التحكيم حيث يصدر الحكم في فترة زمنية قصيرة و من الجدير بالذكر أن نظام مركز كولالمبور ينص علي إصدار الحكم في فترة لا تتجاوز ثلاثة اشهر بعد الانتهاء من السماع و هذه الفترة مناسبة، بل قد نقول أنها مثالية، لأنها تتماشي مع مبدأ العدالة الناجزة و هذا أيضا يعتبر من حسنات و ايجابيات وجود نظام خاص للتحكيم في المنازعات المتعلقة بالمعاملات و العمليات المصرفية الإسلامية، لأنه بالطبع يقود إلي السرعة في إصدار الأحكام من هيئة التحكيم.
ومن الأحكام الهامة و المفصلية في نظام مركز كولالمبور الإقليمي للتحكيم التجاري انه يعطي الأحكام الصفة (النهائية) لأنه يجعل الحكم الذي يصدر عن هيئة التحكيم نهائيا و علي الأطراف التنفيذ الفوري للحكم و دون تأخير وبموجب هذا تكون العدالة ناجزة و نافذة. هذا مع ضرورة الإشارة إلي أن هذا النظام يشير صراحة إلي عدم تدخل المحاكم القضائية إلا وفق الأحكام التي ينص عليها النظام وهذا النص يقفل الباب أمام أي طرف يرغب في التلاعب بالوقت أو المماطلة أو التسويف باللجوء إلي المحاكم القضائية.
كما بينا أعلاه أيضا فان السرية تعتبر من أهم مميزات التحكيم مقارنة مع الإجراءات أمام المحاكم القضائية التي يجعلها القانون علنية وعليه فان أحكام هيئة التحكيم تظل و تتم في سرية مطلقة ما لم يتفق الأطراف علي غير ذلك أو يسمحون بنشرها لأي سبب و ميزة السرية التامة أيضا تعتبر من الحسنات التي من دون شك سيستفيد منها كل أطراف النزاع المتعلق بالعمليات و المعاملات الإسلامية.
إن الحكم الصادر من هيئة التحكيم يعتبر حكما نهائيا و نافذا و لكن هناك بعض الحالات التي يجوز فيها لهيئة التحكيم، وفقا لنظام مركز كولالمبور و غيره من المراكز التحكيم الإقليمية و الدولية، إعادة النظر في الحكم إذا تبين وجود بينة أساسية لم يتم الأخذ بها عند إصدار الحكم و هذا الوضع يعطي هيئة التحكيم الحق في إصدار حكم إضافي أو تكميلي – أو تصحيح الأخطاء المادية – وهذه النقطة و نظرا لأهميتها القصوي فان أي نظام أو لائحة تحكيم يجب أن يتناولها بصورة واضحة و محددة و دون لبس.
كل أعضاء هيئة التحكيم، كما ذكرنا أعلاه، يجب أن يتم اختيارهم من ذوي الخبرة و التأهيل و الدراية الكافية بكل المبادئ والأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملات و العمليات المصرفية الإسلامية، و هذا الاختيار يكون بواسطة أطراف النزاع أو مركز التحكيم المختار، ونعتقد جازمين أن موضوع حسن اختياراعضاء هيئة التحكيم سيدعم و بدون شك العمليات المصرفية المرتبطة بالشريعة الإسلامية الغراء و سيعمل علي تطويرها لان جميع الأطراف من المتعاملين ستتوفر لديهم الثقة في حسن سير العمليات المصرفية وأيضا حسن و سرعة الفصل في أي منازعات قد تطرأ، لأي سبب من الأسباب، و هذا هو بيت القصيد.
و في نفس الوقت أيضا لابد من توفير الاطمئنان الكامل و التام لأعضاء هيئة التحكيم و ذلك يتاتي و يتم بمنحهم الحصانة الكافية أثناء تأديتهم لوا جباتهم وهذه الحصانة تمنع الأطراف أو الطرف المتضرر من الحكم من إقامة أية دعوى في مواجهة أعضاء هيئة التحكيم نظرا لتمتعهم بالحصانة الكاملة إذا قاموا بأداء واجبهم وفق المعايير المهنية المطلوبة و دون تجاوز لصلاحياتهم أو ارتكاب الأخطاء عمدا.
إن منح الحصانة يعطي أعضاء هيئة التحكيم الثقة التامة و الاطمئنان الكافيين للقيام بواجبهم دون خوف أو وجل من أي طرف أو كائن من كان و هذا يجعل أعمال هيئة التحكيم من الأعمال المتكاملة نحو الكمال و التي تتم وفق المعايير و المتطلبات المهنية اللازمة و بالطبع فان هذا في نهاية الأمر سيعمل علي دعم مؤسسة التحكيم التجاري و تطويرها بما ينعكس فائدته علي جميع الأطراف و الجهات و خاصة المعاملات و العمليات التي تتم في المصارف و المؤسسات الإسلامية وفق أحكام الشريعة السمحة.
من الايجابيات البارزة التي نجدها أيضا في نظام مركز كولالمبور الإقليمي للتحكيم التجاري النص علي تطبيق أحكام التحكيم الصادرة من اليونسترال عندما لا يكون هناك حكم من أحكام المركز يتناول الأمر، وأهمية هذه النقطة تنبع من سد الفراغ الذي قد يحدث نظير عدم تناول النظام للأمر و هذا بالطبع جائز نظرا لحداثة تجربة المركز مقارنة من تجربة نظام اليونسترال العالمية و المتراكمة لفترة طويلة من الزمن خاصة و أن قواعد اليونسترال قد أثبتت جدارتها ووجدت القبول التام من كل دول العالم. و من الجدير بالذكر أن اليونسترال هي هيئة أو لجنة تم تشكيلها بواسطة الأمم المتحدة لصياغة العديد من القواعد و الأحكام التي تنظم العمليات التجارية الدولية و هذه القواعد تتضمن بعض الأحكام المنظمة للتحكيم التجاري.
ومن دون شك فان الإشارة إلي تطبيق أحكام نظام اليونسترال في حالة عدم وجود نص في نظام مركز كولالمبور يعتبر ربطا للتحكيم الخاص بالمنازعات المتعلقة بالعمليات المصرفية الإسلامية مع تجربة التحكيم الدولية التي تمت و تتم عبر نظام اليونسترال و لهذا الأمر مردود بالغ الأهمية، في نظرنا، لأنه سيربط المعاملات و العمليات المصرفية الإسلامية مع التجارب الدولية وهذا التمازج و التزاوج عندما يتم ومن دون ادني شك سيعمل علي دفع العمليات المصرفية الإسلامية إلي أفق العالمية و رحاب الأممية و سيفتح المجال علي مصراعيه لتلا قح الخبرات و التجارب الإسلامية مع الخبرات و التجارب الدولية.
هذه بعض الملامح الرئيسية لنظام مركز كولالمبور الإقليمي للتحكيم التجاري ونأمل أن تتم الاستفادة من هذه التجربة الماليزية الثرة التي قدمت الكثير من النجاحات وذلك من اجل تطوير العمليات المصرفية الإسلامية و للولوج بهذه الأعمال إلي القمم و المعالي.
اترك تعليقاً