المعاملة بالمثل
تعني المعاملة بالمثل reciprocity لغةً استرجاع الشيء، أي استرداد صاحبه له بعد سبق انتزاعه منه.
وفي فقه القانون الدولي، فإنها تدل بصورة عامة على الإجراءات القسرية المخالفة للقواعد العادية للقانون الدولي، والتي تتخذها دولة في أعقاب أعمال مخالفة للقانون ترتكبها دولة أخرى إضراراً بها، وتهدف إلى إجبار هذه الدولة على احترام القانون، فهي بهذا المعنى تشير إلى رد مثل الأذى على فاعله، وهي تمثل نوعاً من الانتقام الفردي الذي يلجأ إليه المعتدى عليه، لرد عدوان سابق لحق به.
وللمعاملة بالمثل جذور تاريخية بعيدة، فقد عرفها البابليون ونص عليها تشريع حمورابي (المواد 196 ـ 200)، كما عرفها الإغريق والقبائل العربية.
وقد سبق لمعهد القانون الدولي أن حدد مفهوم المعاملة بالمثل، في قرار أصدره في تشرين الأول/أكتوبر 1934 وجاء فيه أنها تمثل (تدابير قهرية تنطوي على مخالفة للقواعد العادية لقانون الشعوب، تتخذها دولة في أعقاب وقوع عدوان عليها يصيبها بالضرر من جانب دولة أخرى، مستهدفةً بذلك إجبار الدولة المعتدية على الكفّ عن عدوانها والتزام محارم القانون).
ومن المتفق عليه أن هناك شروطاً محددة لممارسة المعاملة بالمثل، سبق لمحكمة التحكيم الدولية الدائمة أن حددتها، في حكم صدر عنها بتاريخ 31 / 7 / 1928 في دعوى البرتغال ضد ألمانيا، وتتلخص هذه الشروط في:
1 ـ أن تكون رداً على فعل غير مشروع، أي على فعل يعد جريمة دولية، أو فعلاً يعد مخالفاً لقواعد الأخلاق الدولية.
2 ـ أن يكون هناك تناسب بين الإجراءات أو التدابير المتخذة من جانب الدولة المُعتدى عليها وبين العدوان الذي لحق بها.
3 ـ أن تكون هذه التدابير لازمة لتعويضها عما أصابها من ضرر، بمعنى أن يكون اقتضاؤها لمثل هذا التعويض مستحيلاً عن طريق التحكيم أو المفاوضات الدبلوماسية.
تمييز المعاملة بالمثل من رد الفعل العكسي والدفاع الشرعي
تقترب المعاملة بالمثل من حيث طبيعة الفعل من بعض الأعمال المعروفة والمألوفة في التعامل الدولي، كما هي الحال بالنسبة إلى أفعال رد الفعل العكسي وأعمال الدفاع الشرعي، إلا أن هذا لا ينفي وجود اختلافات جوهرية بينهما على النحو الآتي:
أ ـ المعاملة بالمثل ورد الفعل العكسي: تختلف المعاملة بالمثل عن رد الفعل العكسي، من حيث إن المعاملة بالمثل تتضمن أعمالاً تعد مخالفة لقواعد القانون الدولي في حين أن رد الفعل العكسي لا يقوم على أفعال مخالفة للقانون، فهو عمل مشروع وإن كان غير ودي فحسب، تتخذه الدولة رداً على إجراءات سابقة اتُخذت ضدها، كما لو قامت دولة برفع تعريفتها الجمركية على بضائع دولة رداً على سلوك مماثل وسابق من جانب هذه الأخيرة، ومن دون أن ينطوي الأمر على إخلال بمعاهدة دولية بينهما.
ب ـ المعاملة بالمثل والدفاع الشرعي: تتشابه المعاملة بالمثل مع الدفاع الشرعي self defence، من حيث إن أساسها الاعتماد على النفس وحماية الحق باليد، كما هي الحال في الدفاع الشرعي، كما أنهما يفترضان وقوع فعل سابق عليهما يعدّ جريمة في ذاته، ذلك أن وقوع هذا الفعل هو أساس تبريرهما.
ومع ذلك فانهما يختلفان من حيث إن المعاملة بالمثل تفترض رداً على فعل قام وانتهى، فهي انتقام بردّ الشر بشر مثله، بهدف ردع المعتدي ،في حين يفترض الدفاع الشرعي مقاومة اعتداء حلّ أو كان وشيك الوقوع، أو وقع ولم ينته بعد، من أجل الحد من استمراره، أما إذا وقع الفعل وانتهى فلن يعود هناك مبرر للدفاع الشرعي.
صور المعاملة بالمثل
تتخذ المعاملة بالمثل إحدى صورتين، تقع إحداهما في وقت السلم، وتحدث الثانية في وقت الحرب:
أ ـ المعاملة بالمثل وقت السلم: من صور المعاملة بالمثل وقت السلم، وضع أموال الدولة الأولى أو أموال رعاياها الموجودة في الدولة الثانية تحت الحراسة، والامتناع عن تنفيذ معاهدة، وقطع العلاقات التجارية والبريدية والبرقية بين الدولتين، أو استبعاد الرعايا وطرد الدبلوماسيين، كما حدث بتاريخ 21 / 6 / 1986، عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية طرد خمسة وخمسين دبلوماسياً سوڤييتياً من أراضيها، رداً على قرار موسكو بطرد خمسة دبلوماسيين أمريكيين من أراضيها. ولا تقتصر المعاملة بالمثل وقت السلم على مثل هذه الصور فقط، بل إنها تتعداها إلى صور أخرى تنطوي على استخدام القوات المسلحة ـ حتى في زمن السلم ـ وتأخذ في الواقع طبيعة أعمال برية أو بحرية أو جوية، مثل احتجاز سفن دولة أخرى في أثناء مرورها بالمياه الإقليمية، والاستيلاء على ما فيها من شحنات، وممارسة الحصار البحري السلمي. ويتجه الفقه المعاصر إلى إلغاء مبدأ المعاملة بالمثل في زمن السلم بوصفه عملاً مشروعاً لأنه من مخلفات العرف التقليدي الذي تجاوزته الأحداث، ولا يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها والاتجاهات الحديثة للقانون الدولي الرامية إلى تسوية الخلافات بالطرق الودية.
ب ـ المعاملة بالمثل وقت الحرب: تعد المعاملة بالمثل وقت الحرب وسيلة لحمل الخصم على احترام القانون الخاص بالحرب في أثناء ممارسة العمليات الحربية، ويتعين أن تتوافر فيها الشروط الآتية:
1 ـ يجب ألا تنطوي على أفعال وحشية وغير إنسانية، كالنهب وقتل الأبرياء وأعمال التخريب واستعمال الأسلحة غير المشروعة.
2 ـ يجب أن يصدر أمر القيام بمثل هذه الأعمال من شخص مختص، كقائد الجيش أو الفرقة العسكرية، وأن تُباشر من أشخاص لهم علاقة بحالة الحرب وظروفها.
3 ـ يجب أن تكون الحالة الراهنة هي التي تتطلب إجراءات المعاملة بالمثل، فلا تعود إلى دوافع قديمة لا علاقة لها بالظروف والملابسات الحالية.
4 ـ يجب ألا تُتخذ إجراءات المعاملة بالمثل ضد الأفراد، كقتل الرهائن واستعمال وسائل قسرية ضد الجرحى والمرضى وأسرى الحرب.
وينبغي الإشارة أخيراً إلى وجود اتجاه حديث في الفقه يدعو إلى عدم الاعتراف بشرعية إجراءات المعاملة بالمثل، لأنها منافية لفكرتي العدالة والأخلاق، لوقوعها في الغالب على أناس أبرياء من ناحية، ولأنها تعود بالقانون إلى زمن الاقتصاص باليد والتطبيق الخاص الذي كان سائداً من قبل في الشرائع القديمة.
اترك تعليقاً