مقالة قانونية عن اهمية القانون في حفظ النّفس في الإسلام
د. عبد الحق حميش*
*كلية الدراسات الإسلامية / قطر
حقّ النّفس حقّ مقدس في نظر الشّريعة الإسلامية، فلقد خلق الله الإنسان وألبسه ثوب الكرامة وفضّله على كثير ممّن خلق بالعقل والعلم والبيان والنّطق والشّكل والصّورة الحسنة والهيئة الشّريفة والقامة المعتدلة، وشمله بالرّعاية والعناية وهو نطفة في داخل الرّحم وفي جميع أطواره إلى أن صار خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
حفظ النّفس هو حفظ الأرواح من التّلف أفرادًا وعمومًا لأنّ العالم مركّب من أفراد الإنسان، وفي كلّ نفس خصائصها الّتي بها بعض قوام العالم، وليس المراد حفظها بالقصاص كما مثَّل بها الفقهاء، بل نجد القصاص هو أضعف أنواع حفظ النفوس، لأنّه تدارك بعد الفوات بل الحفظ أهمية عن التّلَف قبل وقوعه، مثل مقاومة الأمراض السّارية، وقد منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجيش من دخول الشام لأجل طاعون عاموس، والمراد النّفوس المحترمة في نظر الشّريعة وهي المعبر عنها بالمعصومة الدم.
ويشتمل أمر المحافظة على مصلحة النّفس على طريقتين:
الطريق الأوّل: في طرق المحافظة على النّفس من جانب الوجود. ويتضمّن وضع الضمانات لوجود وحياة الإنسان واستمراره، وبيان المصالح والمضار له في تحصيل مطالبه، وبيان حالات الضّيق والسّعة، والانتقال من العسر إلى اليسر بمقتضى ما وضع له من مبادئ وقواعد في الشّريعة الإسلامية.
والطريق الثاني: في المحافظة على مقصد النّفس من جانب العدم، ويتضمّن تحريم الاعتداء على الأنفس، والأطراف، ومشروعية القصاص في الأنفس والأطراف، وأحكام القتل الخطأ وعلاقتها بالمحافظة على الأنفس، وتحريم الانتحار وغيرها.
فقد حرّمَت الشّريعة الإسلامية الاعتداء على الأنفس بغير حقّ واعتبرت هذا الفعل من أعظم المفاسد على ظهر الأرض، ومن أكبر الكبائر وأنكر المنكرات بعد الكفر بالله، وجاء ذلك التّحريم في آيات كثيرة وأحاديث عديدة ومتنوعة نذكر منها: قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النّفسَ الّتي حَرَّم الله إلاّ بالحقِّ} الأنعام:151، الإسراء:33، وقال تعالى: {ولا تَقْتُلوا أولادَكُم} الإسراء:31. وقال تعالى: {ومَن يَقْتُل مؤمنًا مُتَعَمِّدًا فجزاؤُه جهنّم خالِدًا فيها وغَضِبَ اللهُ عليه وأعَدَّ له عذابًا عظيمًا} النّساء:94. وقال تعالى: {إنّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعتدين} المائدة:87.
وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “لا يَحِلّ دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: الثيِّب الزّاني، والنّفس بالنّفس، والتّارك لدينه المُفارق للجماعة”. قال العلامة ابن العربي: [وأهم قواعد الشّرائع حماية الدماء من الاعتداء وحياطته بالقصاص كفًّا ورَدْعًا للظالمين الجائزين].
فبعد أن أوضحت الشّريعة الإسلامية جريمة الاعتداء على النّفس وحرّمتها تحريمًا قاطعًا -صار معلومًا بالضرورة للجميع- رتّبت بعد ذلك العقوبات المناسبة لكلّ فعل مع ملاحظة الدّوافع والآثار. قال تعالى: {وَلَكُم فِي القِصاص حياةٌ يا أولي الألباب} البقرة:179، وقال تعالى: {يا أيُّهَا الّذين آمنوا كُتِبَ عليكُم القِصاص في القَتْلَى} البقرة:178. وقال تعالى: {وكَتَبْنَا عليهِم فيها أنّ النّفْسَ بالنَّفْسِ والعَيْنَ بالْعَيْنِ والأنْفَ بالأنْفِ والأُذْنَ بالأُذْنِ والسِنَّ بالسِّنِّ والجُرُوحَ قِصَاص} المائدة:45.فهذه الآيات بيّنَت حكم القصاص في النّفس والأطراف والجروح، فلولا القِصاص لأهلك النّاس بعضهم بعضًا اعتداء واستيفاء، فكان القصاص دفعًا لمفسدة التّعدي على الدّماء بالجناية.
تحريم الانتحار
لا يَخفى أن حقّ الحياة حقّ خالص لله تعالى، ومن هنا حرّم على الفرد أن يعرض نفسه للتّهلُكة، كما حرّم الانتحار لأنّ حياة الإنسان ليست ملكًا خالصًا له وإنّما هي حقّ لباريها وخالقها.
ولقد جاءت الآيات والأحاديث بتحريم جميع وسائل الانتحار مع التّهديد والوَعيد الشّديد لمَن يلج إليه. قال تعالى: {لا تَقْتُلوا أنْفُسَكم} النّساء:29، وقال تعالى: “ولا تُلْقُوا بأيْدِيكُم إلى التّهْلُكة} البقرة:195، وقال صلّى الله عليه وسلّم: “مَن تردّى من جبل فقَتَل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالِدًا مُخَلِّدًا فيها أبدًا، ومَن وجأ بطنه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا، ومَن تحسّى سما فسمه بيده يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا”، فهذا الحديث يدل على حُرمة قتل الإنسان نفسه، ويدلّ على الوعيد الشّديد المترتّب على قتل النّفس.
قال الإمام الشاطبي: [ونفس المكلّف داخلة في هذا الحقّ أي حقّ الله الخالص إذ ليس له التّسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف]، وخلاصة القول إنّ الشّريعة الإسلامية وضعت تشريعات حكيمة للمحافظة على أنفس النّاس وأطرافهم من الاعتداء عليها، وجعلت لذلك عقابًا رادعًا زاجرًا هو القصاص.
كما رتّبت على القتل الخطأ بعض العقوبات الّتي تجعل الإنسان يُراعي في تصرّفاته وأفعاله الحكمة واليقظة ويترفّع عن التّساهل وعدم الحيطة، كما حرّمت قتل النّفس -الانتحار- تحريمًا قاطعًا، وبهذا التّشريع الحكيم حافظ الشّرع على نفوس النّاس وأعضائهم.
اترك تعليقاً