مقالة عن الآثار السلبية لقانون الرسوم القضائية
في أواخر العام المنصرم صدر القانون رقم (26) لسنة 2013م بشأن الرسوم القضائية وتقرر العمل به منذ تاريخ صدوره. وقد شرعت المحاكم في تطبيق أحكام ذلكم القانون وأصبح من المتعذر قبول أي دعوى ما لم يؤد رافعها الرسم المنصوص عليه بين جنبات أحكام ذلك القانون .وقد بدت مساوئ القانون وتكشفت منذ الوهلة الأولى لتطبيقه وغدت تلك المساوئ واضحة للعيان وملموسة على أرض الواقع إذ أجبر طارقو أبواب القضاء أن يبوؤوا خائبين دونما أن تقيد دعاواهم وحيل بينهم وبين مطالباتهم بأخذ حقوقهم على الوجه المأذون شرعا وكان الحائل بينهم وبين ذلك رسوم فرضت لم يقدروا أداءها وأصبح عجزهم عن السداد سببا أوصدت لأجله أبواب العدالة في وجوههم ذلك لأن الوصول إلى ساحة العدالة لن يتأتى لمن ينشدها إلا بعد المرور من بوابتها الأولى والتي وضع أمامها عقبة كؤود لا يجتازها إلا أولوا القوة ممن تسمح لهم إمكانياتهم اجتيازها .
باء ناشدوا العدالة يجرون أذيال الخيبة وأصبح القضاء بالنسبة لهم سلعة غالية الثمن لا يقدر على شرائها إلا القادر على دفع ثمنها وطفق معظمهم بأفكار مشتتة يبحثون من خلالها عن وسائل تؤدي إلى استيفاء حقوقهم التي تعذر استردادها عبر القضاء ؛ فمنهم من لجأ إلى الشوارع والطرقات إذ رأوا فيها محاكم منصفة لهم ولم يكن من الصعب ذلك بل أضحى يسيرا على أحدهم أن يقف في طريق عام لبضع دقائق يرقب مرور أيا من أموال خصمه ليتقطع لها ومن ثم يحتجزها إلى أن يعاد إليه حقه حتى ولو وصل به الأمر حد التقطع لأية ممتلكات يمتلكها أيا من أقارب خصمه أو أبناء قبيلته كما أن منهم من لم يكترث لأن يتقطع لأي ممتلكات تابعة للدولة إن كانت مطالبته ناشئة عن حقوق لدى جهة أو مرفق حكومي. ومنهم من ارتمى بأحضان قبيلة ذي قوة ومنعة ورأى في قوة تلك القبيلة ومنعة شيخها وسيلة فعالة تكفل له أخذ حقه بتكاليف تكاد تكون منعدمة وفقا لأساليب العرف القبلي , ومنهم من لجأ إلى محكمة العدل الإلهية يذرف دموعا ويرفع أكف الضراعة والدعاء يلح في دعائه أن ينصفه الله من ظالمين أحدهما منعه حقه وثانيهما أوصد أبواب العدالة في وجهه .
الرسوم القضائية في ميزان الشريعة الإسلامية :
1- يتبوأ القضاء في الإسلام مكانة رفيعة ولسمو قدرها ورفعة مكانتها فقد اعتبر القضاء أهم الواجبات الملقاة على عاتق ولي الأمر قال تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا قدست أمة لا يحكم فيها بالحق) ويعتبر القضاء هو ميزان الله الذي تعتدل عليه أحوال الناس في الأرض وبإقامة العدل تصلح أحوال الرعية وتؤمن به السبل وينتصف المظلوم من ظالمه ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة . وفي سبيل تحقيق تلك الغاية فقد جعل الإسلام مبدأ مجانية القضاء أهم المبادئ التي يرتكز عليها نظام الحكم القضائي في الإسلام وأوجب الإنفاق على مرفق القضاء من بيت المال ولا يستقيم بأي حال من الأحوال أن يأمر ولي الأمر رعيته بأن يدفعوا أموالا مقابل أن يلجأووا إلى شرع الله ولم يرو قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خلفاءه من بعده أو التابعين ومن تبعهم أن فرض أحد منهم رسما على القضاء أيا كان نوعه نسبيا أو ثابتا ذلك لأن الأصل في أبواب القضاء أن تفتح على مصراعيها أمام العامة لأن مرتاديها يمارسون حقا شرعيا أوجبه الله على ولي الأمر حفاظا على أمن المجتمع واستقراره وبث روح العدل فيه وتبعا لذلك لا يجوز أن توصد تلكم الأبواب أو توضع أمامها حواجز تحول دون الدخول إلى محاريب العدالة ولا غرو في ذلك طالما وأن القضاء هو حق من حقوق الله الواجبة على ولي الأمر ويجب عليه تأديته وتيسير سبله وإزاحة العوائق والعراقيل عن الطرق المؤدية إليه .
2- تعتبر الشريعة الإسلامية رائدة الرسالات ومضرب المثل في السماحة والرحمة واليسر إذ باليسر أمرت أبناءها وعن التنفير نهتهم وفي ذلك قال عليه أفضل الصلاة والسلام ( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ) .
وإن خلق الحواجز والعراقيل أمام الناس بما يحول دون استيفاء حقوقهم بالطرق المكفولة شرعا بما في ذلك عدم قبول الدعوى ما لم يؤد الرسم المفروض عليها يعد تعسيرا وإرهاقا ينفرا الناس من اللجوء إلى القضاء كما يعد مشقة أتى بها موردها وهي جميعا أمور تأباها الشريعة الإسلامية بل وتؤدي إلى سخط الجبار وغضبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فأرفق به ومن ولي من أمرهم شيئا فشق عليهم فأشقق عليه) فهل آن لمصدري التشريع ولولي أمر هذه الأمة أن يرفقوا بالأمة؟ وأن يمكنوهم من مطالبة حقوقهم بطرق شرعية غير مثقلة بأعباء . . .؟
3- المعلوم فقها وقضاء بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض فلو سلمنا جدلا وعلى سبيل الافتراض بأن تحصيل الرسوم القضائية قد تتحقق مصلحته برفد خزينة الدولة بالمال والحد من الدعاوى الكيدية حسبما أسماه بعض المجتهدين ممن يبررون لمشروعية فرضها, وإن في هذين القولين جدل عقيم ورأي سقيم لا يستقيم الأخذ بأي منهما على اعتبار أن المفاسد التي تنتج عن فرض الرسوم تؤدي إلى أضرار بالغة تطال المجتمع في أمنه وسكينته واستقراره بسبب لجوء المتضررين من هذا القانون إلى سلوك طريق نزعة الاستئثار الفردي بشتى الوسائل غير المشروعة والتي من شأنها أن تعصف بالمجتمع فيما لو استمرت ,هذا بالإضافة إلى أن العاجز عن دفع الرسوم من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة لأخذ حقوقهم ولا حول لهم ولا قوة لهم في ذلك ستضيع حقوقهم وتهدر ,ومن شأن ذلك خلق مجتمع الاستقواء الذي يهيمن فيه القوي على الضعيف , ويغيب فيه دور الدولة وأجهزتها في مجتمع إسلامي يفترض فيه أن يكون القوي ضعيفا أمام ولي الأمر حتى يؤدي حقا أخذه على غيره ويفترض أن يكون الضعيف قويا حتى يعيد إليه ولى الأمر حقه من ظالمه ,وهو المبدأ الذي ذكره الخليفة أبو بكر الصديق رضي لله عنه في أول خطبة بعد توليه وكانت أولى كلماته: (القوي فيكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه والضعيف منكم عندي قوي حتى آخذ الحق له). كما أن من شأن ذلك أن يترك الحبل على الغارب وتقف الرسوم حجر عثرة دون الحكم بما أنزل الله وبهذا يتعطل إقامة الحدود و تفسد أحوال الرعية ولا تؤمن السبل ولا ينتصر للمظلوم ولما كان الحال كذلك وطالما وجدت مفاسد عدة تتعارض مع المصلحة التي قد تتحقق من فرض هذا القانون فإن القول بدرء المفاسد وإلغاء العمل بهذا القانون غدا أولى من جلب المصلحة التي يخيل للمشرع وجودها في فرض هذا القانون .
4- وأما بالنسبة لعذر الحد من الدعاوى الكيدية فلو سلمنا جدلا بصحته فإن في مقدور القضاة وضع حد له من خلال تغريم الكائد عند الحكم ومعاملته بنقيض قصده ضف إلى ذلك فإن الأخذ بهذا العذر يعد أمرا لا يستقيم شرعا ولا قانونا إذ أن الأصل في مبدأ التقاضي حسن النية وعدم الكيد ولو وجد كائدون فهم قليل ولا يجوز معاقبة العامة بفعل الخاصة بمعنى يؤكد أن هناك مفسدتين اجتمعتا وينبغي درء أشدهما ضررا إعمالا للمبدأ الفقهي إذا اجتمعت مفسدتان وجب أن تدرأ أشدهما ضررا.
5- مما لا خلاف عليه بأن القضاء سلطة سيان في ذلك بمنظور الشرع الإسلامي أو التشريعات الوضعية والأصل في السلطة أنها صاحبة سيادة تفرض هيبتها وتبسط نفوذها بمقتضى ما هو مخول لها وفقا لاختصاصها ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنحرف السلطة عن مقاصدها الأساسية , وبما أن القضاء هو سلطة الفصل في الخصومات والجرائم وتطبيق الحدود الشرعية والنصوص العقابية بمعنى أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينظر إلى القضاء كمرفق إيرادي شأنه شأن سائر المرافق الخدمية كالكهرباء والمواصلات وغيرهما من المرافق التي تفرض رسوما على مستخدمي خدماتها ووجه المفارقة يكمن في أن القضاء فريضة خلافا لما يتوهم البعض بأنه خدمة والشاهد في ذلك أن الخدمة بالمقدور اسقاطها والاستغناء عنها بينما الفريضة لا يمكن إطلاقا إسقاطها وهذا ما نهجته الشريعة الإسلامية عندما اعتبرت القضاء أمرا تكليفيا يجب أداءه وبوجوبه يجب أن تفتح جميع الأبواب المؤدية إليه دونما حاجز يحجز عنها أو يعوق مسير الدخول منها كون تلكم الأبواب في أصلها ملك لله وتؤدي الى تطبيق أحكام شريعته ,ولا يملك أحد الحق في أن يحول بين أبواب الله وعباده أو أن يمنعهم حكمه أو يجعل الحكم بالزيادة أو النقصان عما أمر الله به وفي هذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم 🙁 يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الله جل وعلا : أنتم رعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي ثم يقول لأحدهم لم ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به ؟ فيقول: يا رب لأنهم عصوك وخالفوك فيقول :جل جلاله لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي ؟ثم يقول للآخر لم ضربت عبادي أقل من الحد الذي أمرت به ؟ فيقول : يا رب رحمتهم فيقول تعالى : كيف تكون أرحم مني ؟ خذوا الذي زاد والذي نقص فاحشوا يهما زوايا جهنم).
والمستفاد من الحديث أن الحكم بين الناس يعد تكليفا من الله لولي الأمر ويجب عليه أداءه دون زيادة أو نقصان وبالتالي فمن باب الأولى لا يستقيم وضع العراقيل الحائلة دون أداء التكليف الإلهي .
فكيف الحال بمن يخاطبه المولى جل شأنه يوم الدين سائلا إياه لم أوصدت أبواب قضائي في وجه عبادي ولم تنصف مظلو مهم وتقتص من ظالمهم؟ كيف يكون حاله عندما يسأله الله لم جعلت بيني وبين عبادي حاجزا حال دون وصولهم إلي ؟.
مآخذ قانونية على قانون الرسوم القضائية
1- استهلت أحكام قانون الرسوم القضائية بمواد تنبئ عن هد كيان السلطة القضائية ونزع استقلاليتها والتي طالما تغنى بها منتسبوها وأعلنوا الإضراب مرات عديدة احتجاجا على قرارات رأوا فيها مساسا باستقلال السلطة القضائية سواء في الجانب المالي والإداري أو الجانب العملي وطالما ترددت في الآونة الأخيرة ما أسماه منتسبوا القضاء الثلاثية الرئيسية لاستقلال القضاء , وكما أن المتعارف عليه بأن مبدأ الفصل بين السلطات يعد مبدأ رئيسيا نص عليه في معظم الدساتير فإن المتأمل في قانون الرسوم القضائية في مادته الرابعة يتضح له بأن كل حرف فيها ينطق بأن القضاء غدا مرفقا إيراديا تابعا للسلطة التنفيذية ومساءلا أمامها وفقا للنظام المالي المعمول به وزاد الطين بلة ما أشارت إليه المادة ( 30) التي اعتبرت موظفي القضاء أشبه بتابعي السلطة التنفيذية من خلال منحهم نسبة تؤول إليهم من الإيرادات المتحصلة ولا نجد من وصف يمكن أن يضفى على تلكم المنحة سوى أنها مكافأة تشجيعية من السلطة التنفيذية تبتغي من وراءها تحفيز القائمين على تحصيلها بجباية أكبر قدر ممكن من المال ذلك لأن لهم نصيبا مفروضا يؤول إليهم من تلكم الإيرادات ولسان حال تلكم المادة كمن يقول كلما زادت الإيرادات عن طريقكم زادت المبالغ في رصيدكم . وبهذا يتضح بأن السلطة القضائية وفقا للنصين آنفي الذكر أصبحت أداة تابعة للسلطة التنفيذية وأنها أصبحت مرفقا إيراديا لا سيما وأن كل خطوة يخطوها المتقاضون أصبحت بمقابل وهذا ما تشير إليه جميع مواد ذلك القانون التي فرضت رسما على كل طلب بدءا مذ رفع الدعوى ومرورا بطلب إثباتها وتصوير محاضر جلساتها و….و….و…. والكثير الكثير مما نص عليه وكأننا أصبحنا في سوق تجاري يدفع مرتادوه ثمن ما يطلبون الحصول عليه. والغريب في الأمر أن من علت أصواتهم في الأمس القريب لم يتفوه منهم أحد ولم يعل صوت أيا منهم ليعترض على مبدأ المساس بكيان سلطتهم .
2- لم يوفق المشرع في إصدار القانون وأوجه مخالفاته كثيرة لا يمكن استعراضها في عدد أو عددين بالنشر.
السؤال الذي نختم به موضوعنا ( هل كان المشرع موفقا أن يصدر قانونا للجباية كهذا الذي صدر مؤخرا في ظل الظروف التي يمر بها الوطن ..؟) . أم (أن حالنا أصبح ينطبق عليه قول القائل: ما لجرح بميت إيلام ؟ ).
اترك تعليقاً