توضيحات قانونية حول التطوير القانوني للقضاء الإداري
القضاء الإداري حامي الحقوق والحريات.. أما آن الأوان لتطويره ? د. نوفان العجارمة
العرب اليوم – التقاضي حق دستوري أصيل, وهو دعامة الحريات الأساسية التي تقتضيها أو تحتمها طبيعة الدولة القانونية, وركيزة كل حكم ديمقراطي سليم, فمهما بلغت الحقوق والحريات العامة التي يخولها أي نظام ديمقراطي, أو يكفلها دستور أية دولة قانونية, فإنها لا تقوم ولا تحقق مقاصدها إلا بقيام حق التقاضي, باعتباره السبيل الرئيسي والضمان المبدئي الذي يكفل حمايتها والتمتع بمباشرتها ورد الاعتداء الذي قد يقع عليها.
لقد أصبحت العلاقة ما بين الفرد والسلطة منظمة في دول عالمنا المعاصر, فهي علاقة قانونية, والدولة تعرف بدولة المشروعية أو الدولة القانونية وأصبحت السيادة في الوقت الحاضر للقانون, وإذا نشب أي خلاف ما بين الفرد والسلطة الإدارية , فان المرجع المختص بالفصل بهذا النزاع هو القاضي الإداري, والذي يعتبر الرقيب الأول على مشروعية أعمال الإدارة, والحصن الحصين لضمان وحماية حقوق الإفراد وحرياتهم, فالقاضي الإداري بحكم تخصصه وإلمامه بإعمال الإدارة وفهمه لظروفها ومطالبها, اقدر من القضاء العادي على الاضطلاع بهذه المهمة, علاوة على ما يتسم به القضاء الإداري من التجديد والتطوير, فهو قضاء إنشائي لا قضاء تطبيقيا, فدوره لا يقتصر على تطبيق القواعد القانونية على النزاع الماثل أمامه, بل يمتد دوره إلى خلق وابتداع القواعد التي تتلاءم والمنازعة الإدارية, إضافة إلى دوره في تفسير وتطوير القواعد القانونية لتتلاءم مع مستجدات الحياة وظروفها.
ويعد القضاء الإداري قضاء التوازن العادل بين السلطة والحرية, بين المصلحة العامة التي ترمي الإدارة العامة إلى تحقيقها من خلال إدارة المرافق العامة وضمان سيرها بانتظام واضطراد, وبين المصلحة الخاصة للافراد المتمثلة في ضمان وحماية حقوقهم وحرياتهم.
لقد نصت المادة (100) من الدستور الأردني لسنة 1952 على إنشاء محكمة عدل عليا حيث جاء المادة بالقول ((تعين أنواع المحاكم ودرجاتها وأقسامها واختصاصاتها وكيفية إدارتها بقانون خاص, على أن ينص هذا القانون على إنشاء محكمة عدل عليا)), أي إن الأمر أو الإيعاز الصادر من المشرع الدستوري إلى المشرع العادي جاء بصورة الإلزام ولم يعطه أي سلطة تقديرية بهذا الخصوص, وغني عن القول بان كلمة (إنشاء) في اللغة تفيد احداث شيء وخلقه من العدم بصفات وخصائص تجعله متميزا عن غيره, أي إن المشرع الدستوري قصد من خلال النص المتقدم إيجاد محكمة جديدة مستقلة عضويا ووظيفيا عن محكمة التمييز. ولكن مشرعنا في قانون تشكيل المحاكم النظامية لسنة 1952 لم ينشئ هذه المحكمة بل أوكل لمحكمة التمييز أن تنظر بعض المنازعات الإدارية وتنعقد بصفتها محكمة عدل عليا?
وبعد قرابة أربعة عقود من الزمان استجاب المشرع العادي لنداء المشرع الدستوري في عام 1989 عندما سَُن قانون محكمة العدل العليا المؤقت رقم 11 لسنة ,1989 وأصبح هذا القانون دائما عندما تم اعتماده من قبل البرلمان بعد إدخال بعض التعديلات عليه, وهو القانون النافذ حاليا رقم 12 لسنة ,1992 ولكن هذا القانون, ومع كل أسف, لم يحقق المطلوب والمأمول, ولم يتم تحقيق الهدف من إنشاء هذه المحكمة باعتبارها محكمة القضاء الإداري الوحيدة في المملكة, حامية الحقوق والحريات.
ونسوق الملاحظات والانتقادات التالية للتدليل على صحة ما ذهبنا إليه:
لم يأخذ المشرع بمبدأ تعدد درجات التقاضي: إن مشرعنا الأردني ومنذ عام 1951 وحتى تاريخه, جعل القضاء الإداري في الأردن على درجة واحدة, فأحكام المحكمة (العدل العليا) نهائية, أول درجة وآخر درجة, غير قابلة للاعتراض أو المراجعة بأي حال من الأحوال وهذا أمر خطير, ولا يحقق العدالة, لأنه يحرم الخصوم من ميزات مبدأ تعدد درجات التقاضي, فالحكم يكون نهائيا حتى لو أخطأت المحكمة كأن تستند إلى تشريع ملغي مثلا أو ترد الدعوى لعدم وجود بينة يتضح فيما بعد وجودها في ملف الدعوى. لذا نوصي مشرعنا بان يأخذ بمبدأ تعدد درجات التقاضي الإداري, بحيث يكون القضاء الإداري على درجتين على الأقل, لاسيما إن المجلس العالي لتفسير الدستور أفتى بأن ( الدستور لا يمنع من وضع قانون خاص مستقل بتشكيل محاكم إدارية يتضمن نصا على إنشاء محكمة عدل عليا- قراره رقم 2/20014), فمبدأ تعدد درجات التقاضي يمكن المتقاضين (الفرد والإدارة) من تصحيح أحكام محكمة الدرجة الأولى التي أصدرتها عن خطأ أو جهل أو تقصير, وهذا المبدأ يشبع غريزة العدالة في نفس المحكوم عليه (الخاسر) إذ يتيح الفرصة أمامه بعرض النزاع مجددا أمام محكمة أعلى درجة وقضاتها أكثر عددا وخبرة من قضاة محكمة الدرجة الأولى التي أصدرت الحكم, ومما لاشك فيه, إن هذا المبدأ يحض قضاة الدرجة الأولى على توخي العدالة والتأني في إصدار الأحكام خشية إلغائها أو تعديلها من محكمة الدرجة (الأعلى). ولا نعلم لماذا اقر مشرعنا مبدأ تعدد درجات التقاضي في القضاء النظامي (الحقوقي والجزائي وضريبة الدخل والجمارك) وحرمنا من هذا المبدأ في القضاء الإداري?? يبدو كما قال شاعر العربية ((حلال على بلابله الدوح… حرام على الطير من كل جنس)).
اختصاص المحكمة محدد على سبيل الحصر: على الرغم من أن المشرع حقق بعض التقدم في القانون الحالي بالنسبة لاختصاصات محكمة العدل العليا, إلا انه لم يصل بعد إلى جعل محكمة العدل العليا صاحبة الولاية العامة بنظر كافة المنازعات الإدارية, فما زال اختصاصها محددا على سبيل الحصر ولا نعلم ما هي الحكمة من وراء ذلك?? يبدو إن إيمان مشرعنا الأردني لم يصل بعد إلى حد اليقين بخصوص وجود قضاء إداري على درجتين.
وعليه, وطالما اختصاص محكمة العدل العليا محدد على سبيل الحصر تكون المحاكم النظامية هي صاحبة الولاية العامة بنظر المنازعات الإدارية, وهذا يفقد ميزة وجود محكمة قضاء إداري مستقلة, لأن المحاكم النظامية تطبق القانون المدني في حين محكمة العدل العليا تطبق القانون الاداري, وطالما المنازعات ذات طبيعة واحدة (إدارية) فالأصل أن تحكمها قواعد واحدة, لان اتحاد العلة يوجب اتحاد الحكم, وهي قواعد القانون الإداري, فتقرير الولاية العامة لمحكمة العدل العليا هو الذي يحقق وحدة القانون الذي يطبق على جميع المنازعات الإدارية, وهذا يحقق العدالة, كون قواعد القانون تطبق بشكل متساو على كافة المنازعات ذات الطبيعة المتشابهة. ويحقق كذلك نوعا من التوازن ما بين سلطات الإدارة وحقوق الإفراد وحرياتهم, فهل من العدالة أن تذهب المنازعة المتعلقة بالمكافأة الشهرية إلى القضاء النظامي في حين تذهب المنازعة المتعلقة بالزيادة السنوية إلى القضاء الإداري ونحن نتحدث عن علاقة واحدة (موظف وإدارته) في المثالين السابقين?
حقق المشرع الاستقلال للمحكمة لكنه لم يحقق ميزة التخصص لقضاتها: السادة قضاة محكمة العدل العليا غير متخصصين في القانون الإداري, وغير مستقرين في عملهم كقضاة محكمة العدل العليا, فهم مشبعون بروح القانون الخاص, لأنهم امضوا أكثر من 25 عاما يطبقون قواعد القانون الخاص على المنازعات التي ينظرونها, وهم ينظرون إلى الإفراد والإدارة نظرة متساوية, خلافا للقاضي الإداري المتخصص الذي يرى بحكم تكوينه وفلسفته, ان الإدارة والتي تمثل الصالح العام, لن تتساوى في خصومتها مع الإفراد. لأن طرفي النزاع غير متكافئين, ونظرية الإثبات في القانون الإداري تختلف عنها في القانون المدني, لذا نوصي مشرعنا, بأن يسن قانونا خاصا ينظم كافة المسائل المتعلقة بقضاة هذه المحكمة, من تعيينهم وترقيتهم وانتهاء خدماتهم. …الخ, ولا بد من النص كذلك على عدم قابليتهم للنقل أو للعزل, لأن مهمة القاضي الإداري أشبه ما تكون إبحارا في عين العاصفة واحتكاكه واختلافه مع السلطة التنفيذية أمر محتم لا مفر منه.
إن إنشاء قضاء إداري مستقل ومتخصص ويأخذ بمبدأ تعدد درجات التقاضي يعتبر ضرورة وطنية ملحة, فيها مصلحة وحماية للحاكم والمحكوم, وفيه مصلحة للسلطة التنفيذية ذاتها, فالإدارة المؤمنة بدور القضاء الإداري وأهميته, والتي تخشى المساءلة, سوف تحرص كل الحرص على وضع الفرد المناسب في المكان المناسب, حتى تأمن عدم إلغاء قراراتها الإدارية غير المشروعية من قبل القضاء الإداري.
وأخيرا, نقول لقد تعلمنا من تقاليدنا ان القضاء هو أمننا وهو حصننا, ولقد ظل في الأردن – حتى الآن – الأمل والحصن, وهو في ذات الوقت أمان للحكام وحصن لهم, وإن وجود قضاء إداري مستقل ومتخصص يأخذ بمبدأ تعدد درجات التقاضي, أسوة بدول العالم المتقدم – هو كالفضيلة بأجمل صورها, يجعل الفرد بالمجتمع نبيلا بغير ولادة, غنيا ً بلا مال, رفيعاً من غير حاجة إلى لقب, وسعيداً بغير ثروة.
راجيا أن يصل هذا الصوت إلى من يهمه الأمر,,,,,
اترك تعليقاً