أسطورة عدالة نورمبرج
محمود حسن عمر
في 8 أغسطس 1945 اجتمع الزعماء الأمريكيُّون والإنجليز والفرنسيون والروس في لندن؛ للاتفاق على ملاحقة وتوقيع العقاب على كبار مجرمي الحرب التابعين لقوى المحور؛ وذلك بإنشاء مَحكمة عسكرية دوليَّة!
“إنَّ هذه المحكمة تمثِّل استمرارًا لجهود حرب الدول الحليفة”؛ روبرت جاكسون النائب العام للولايات المتحدة، جلسة 26 يوليه 1946.
وقد صَنفت الجرائم في المادة 6 من الفصل الثاني على النحو التالي:
1- جرائم ضد السلام، وهي تتعلَّق بتحديد مسؤولية مَن قاموا بإشعال الحرب.
2- جرائم الحرب، وتخصُّ خرْق قوانين وأعْرَاف الحروب.
3- جرائم ضدَّ الإنسانية، وهي الجرائم المقترفَة ضدَّ المدنيين، وتشكيل مثل هذه المحكمة يحتاجُ إلى بعض التعليقات:
أولاً: أنها لم تكنْ مَحكمة دولية؛ حيث لم تشكَّل إلاَّ مِن المنتصرين في الحرب، ومن ثَمَّ فإن الجرائم التي كانتْ ستناقَش هي الجرائم التي اقترفَها المنهزمون، وهو ما اعترفَ به النائب العام الأمريكي “روبرت جاكسون” الذي كان يرْأَس جلسة 26 يوليه 1964؛ حيث قال: ما زال الحلفاء عمليًّا في حالة حربٍ مع ألمانيا، وبوصفها محكمة عسكرية، فإنَّ هذه المحكمة تمثِّل استمرارًا لجهود حرب الشعوب الحليفة.
وعلى هذا، فالأمرُ يتعلَّق بمحكمةٍ استثنائيَّة تشكِّل آخر فصلٍ من فصول الحرب، وتنفي من حيث مبدؤها المسؤولية عن المنتصرين، وقبل كلِّ شيءٍ مسؤوليَّاتها إشعال الحرب؛ ففي “نورمبرج” لم تطرحْ مسألة ما إذا كانتْ معاهدة “فرساي” بكلِّ عواقبها – وخاصة تضاعُف حالات الإفلاس، وكذلك البطالة – قد أتاحتْ لشخصٍ “كهتلر” الوصول إلى الذروة؛ بموافقة غالبية الشعب الألماني، وعلى سبيل المثال إجبار ألمانيا المهزومة في 1918 على دفْع 132 مليار من الماركات الذهبيَّة كتعويضات حرب، في وقتٍ كانت فيه الثروة القومية لألمانيا تبلغ 260 مليار مارك ذهبيًّا، وانهارَ الاقتصاد الألماني، وأُصيبَ الشعب الألماني بالإحباط؛ مِن جرَّاء عمليَّات الإفلاس وتدهور العُمْلة، وخاصة البطالة؛ مما أدَّى إلى صُعود نجمُ “هتلر” بمنْحِه أسهلَ المبرِّرات؛ لدعْم فكرته الرئيسية، وهي إلغاء معاهدة “فرساي”، وما تضمَّنته من بؤْسٍ وإذلالٍ للشعب الألماني، وعندما حصلَ هتلر وأعوانه من السياسيين على الأغلبية المطلقة في “الريشتاخ” البرلمان الألماني، بدأتْ إعادة التسلُّح بمساعدة من الشركات الأمريكية، والإنجليزية، والفرنسية الكبرى، ومِن بينها شركة الكيماويات الأمريكية “ديبون دى نيمور”، وشركة “إمبيريال كميكالز” مصرف “ديلون” في نيويورك الذي قدَّم الإعانات لصناعة الصلب، وهناك صناعات أخرى مُوِّلتْ مِن طرف “مورجان أوروكفلر”.
وهكذا شارَكَ الجنيه الإنجليزي والدولار الأمريكي في المؤامرة التي جاءت بهتلر إلى الحُكْم.
ولكنَّ مديري هذه الشركات لم يتمَّ استجوابهم أمام مَحْكمة “نورمبرج” في إطار المؤامرة ضدَّ السلام.
وكثيرًا ما ذكرت اللعنات التي كان يكيلها هتلر وزعماء النازي للشيوعيين واليهود، وخاصة ما جاء في الفصل الخامس عشر مِنَ الجُزء الثاني من “كفاحي”؛ حيث تناوَلَ هتلر ماضي حرب الغازات التي شنَّها الإنجليز أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو الفصل الذي عنوانه: “حق الدفاع الشرعي”، والذي أشارَ فيه هتلر إلى أنَّه كان من الأدْعَى له التخلُّص من عِدة آلاف من اليهود في الوقت المناسب؛ حتى ينقذَ حياة مليون من الألمان الطيِّبين والشجعان.
وفي حديث له أمام البرلمان في 30 يناير 1939 قال: كذلك يستطيع اليهود أن يواصلوا شنَّ حرب الانتهاك في بعض الدول؛ حيث تحميهم الاحتكارات والامتيازات التي يمارسونها على الصحافة والسينما، والدعاية الإذاعية، والمسارح والأدب وغيرها، ومع ذلك فإذا ما نجَحَ هنا الشعب مرة ثانية في دفْع ملايين الأشخاص إلى نِزاع قد يعود عليهم بالفائدة، فإن ذلك سيُؤدِّي إلى ظهور شجاعة الحركة التوضيحيَّة التي سمحتْ بالقضاء نهائيًّا على اليهود في ألمانيا خلال عِدة سنوات.
وفي 30 يناير 1941 قال هتلر لجموع يهود أوروبا: إنَّ دورَهم سيكون قد انتهى بحالة حرب شاملة، وصرَّح في بيان آخرَ بتاريخ 30 يناير عام 1942 أنَّ الحرب ستقضي على اليهودية في أوروبا والوصيَّة السياسيَّة لهتلر التي نشرتْها المحكمة العسكرية الدولية الممتلئة بهذه الآراء، فهتلر يتحدَّث عن تدمير نفوذٍ ما، أمَّا “هيملر” فإنَّه يتحدث عن الأشخاص، فقد قال لجنرالاته في 5 يناير 1944 في سونتهوفن ما يلي:
ينبغي لنا أن نعتادَ على نسيان قواعد اللُّعبة والأخلاقيَّات المتعارَف عليها أثناء الحروب الأوروبيَّة الماضية، رغم أنها عزيزة علينا وتتناسب مع عقليَّتنا.
ولكن هذه الوحشيَّة لم تكنْ مِن نصيب معسكر واحدٍ؛ فقد طلَبَ “لكيفتون فاديمان” مُحرِّر نيويورك الأسبوعية في عام 1942 من الكُتَّاب خَلْقَ رُوحٍ من الحقْد الشديد ضدَّ كلِّ الألمان، وليس فقط ضدَّ زعماء النازي.
وأضاف: والطريقة الوحيدة – لكي يفهمَنا الألمان – هي قتلُهم، وحتى بهذا فإنَّهم لن يفهموا!
وفي شهر أبريل 1942 كتَبَ يمتدحُ كتاب دي سال: “إعداد الغد”، ويشرح مفهومه العنصري، فقال: إنَّ العدوان النازي ما هو بفعْل مجموعة من الأوغاد، ولكن التعبير النهائي عن الغرائز العميقة للشعب الألماني، وما هتلر إلاَّ تجسيد لقُوى أكبر منه، ووافَق على اقتراح “هيمنجواي” القائل: إنَّ الحل النهائي سيكون هو تعقيم النازي بالمعنى الجراحي للكلمة.
ولَم تكنْ هذه الآراء بالآراء المنفردة؛ فقد نشَرَ الأب “ويب” – في جريدة “الديلي هيرالد اللندنيَّة” – مقالاً في أعقاب بيان هتلر في “السبور تبالست” جاء فيه: إنَّ كلمة السرِّ يجب أن تكون القضاء عليهم، ومِن أجل ذلك تركَّزَ عملُنا على اكتشاف مفرقعات جديدة ومُخِيفة، ورغم أنَّ رجل الدِّين لا ينبغي له أن ينزلقَ إلى مثل هذه العواطف، إلاَّ أنني صراحة لو استطعتُ لمحوتُ ألمانيا من خريطة العالم؛ إنَّه جنس شيطاني، كان لعنة على أوروبا طوال قرون.
ولحسن الحظِّ ثارتِ الاحتجاجات ضدَّ مثل هذه الضلالات في إنجلترا؛ حيث لا يُمْكن الخَلْط بين الشعب الإنجليزي وثقافته الرفيعة، وبين زعماء دمَويين ممتلئين بالحِقْد والبغضاء، وهو ما ينطبقُ أيضًا على ألمانيا وشعْبِها.
ومنذ عام 1934 أعلنَ الزعيم الصِّهْيَوني “فلاديمير جانوتنكسي” أن مصالحنا اليهودية تحتِّمُ علينا القضاء النهائي على ألمانيا؛ فالشعب الألماني في مجموعه يمثِّل لنا خطرًا كبيرًا.
وقال تشرشل من جانبه في 16 يناير 1940: سنجوِّع ألمانيا، وسندمِّر مُدنها، ونحرق محاصيلها وغابتها.
وقال الوزير البريطاني اللورد “فانسيتارت” في عام 1942؛ لتبرير فظاعة الغارات البريطانية: إن الألمان الطيِّبين وحدَهم هم الموتى، وعلى ذلك فلتمْطِر السماء القنابل.
وكتَبَ تشرشل في يونيه 1944 إلى رئيس أركانه الجنرال “هيستنجر” مذكرة من أربع صفحات يقترحُ عليه فيها المشروع التالي:
أودُّ أن تفكِّر جِديًّا في مسألة الغازات الخانقة، وأودُّ أن نبحثَ بهدوءٍ نتائجَ استخدام الغازات الخانقة هذه، ولا ينبغي لنا أن نقفَ مكتوفي الأيدي بسبب مبادئ حَمْقاء!
ولم يقفْ تشرشل، ولا ترومان ولا ستالين في قفَص الاتِّهام كمجرمي حربٍ، كما لا يقف المنادون بأفظع الجرائم؛ مثل: تيودور كوفمان الأمريكي اليهودي الذي وجَّه في 1942 نداءً بالإبادة الفعلية ضمْنَ كتابه: “يجب إبادة ألمانيا”، قال فيه:
إن الألمان لا يستحقون أن يحيوا، وكذلك ما جاء في نداء الكاتب السوفييتي “إيليا أهر بنورج” عام 1944: اقتلوا؛ فلا أبرياء لدى الألمان؛ لا بين الأحياء ولا بين مَن سيولدون.
وهؤلاء أيضًا لم يقفوا في قفص الاتهام ضمن المتهمين في نورمبرج، كما لم يقفْ رؤساء دُوَلهم الذين كانوا يحمونهم ويساعدونهم، ولا المسؤولون الأنجلو أمريكيين عن قصْف مدينة “درسدن” الألمانية، والذي أسفَرَ عن 200000 من الضحايا المدنيين، ودونما ضرورة عسكرية؛ لأن تسليمَ اليابان كان قد قرَّره الإمبراطور.
ولا “بيريا وستالين” على سبيل المثال اللَّذان ألْقَيَا بمسؤولية مذبحة “كاتين” على الألمان، والتي قُتِل فيها الآلاف من الضبُّاط البولنديين.
لقد كانتْ أساليبُ الإجراءات تَنبثقُ عن نفْس المبادئ الخاصة باختيار المتهمين من بين المنهزمين وحدَهم، وهكذا جاء النِّظام الأساسي لهذه المحكمة.
المادة 19 لن تتقيَّدَ المحكمة بالقواعد المتعلِّقة بإقامة الأدلة والبراهين، وستطبق بقَدْر الإمكان إجراءاتٍ سريعة.
المادة 21 لن تتطلَّبَ المحكمة تقديم البراهين على الأعمال ذات الشهرة العامة وستعتبرها ثابتة، وستعتبرها كذلك كبراهين صحيحة، وكذلك الوثائق والتقارير الرسميَّة الصادرة عن حكومات الحُلفاء.
هذا هو الوحش القانوني الذي ينبغي أن تُؤْخَذَ قراراته كقاعدة مُسَلَّم بصحتها، وكمعايير لحقيقة تاريخيَّة لا يُمكن أن يمسَّها إنسانٌ طبقًا لقانون “جيسو فابيوس” الصادر في 13 يوليه 1990 في فرنسا.
فهذا النصُّ قد أضَاف إلى قانون حريَّة الصحافة الصادر في 1981 المادة 24 مُكرر التي تنصُّ على ما يلي:
يعاقبُ بالعقوبات المنصوص عليها في الفقرة السادسة من المادة 24 – وهي الحبْس لمدة تتراوَحُ بين شهر وسنة واحدة، وبغرامة قدرها من 2000 إلى 300000 أو بإحدى هاتين العقوبتين – كلُّ مَن ينكرُ إحدى الوسائل المنصوص عليها في المادة 23، وينكر وجود جريمة أو أكثر من الجرائم ضدَّ الإنسانيَّة؛ كما جاءتْ في المادة 6 من النظام الأساسي للمَحْكمة العسكرية الدولية الملْحَقة باتِّفاق لندن بتاريخ 8 أغسطس 1945.
وهذه العُقوبات ستُطبَّق على كلِّ مَن كان عضوًا في منظمةٍ ظهرَ أنها مُنظَّمة إجراميَّة؛ تطبيقًا للمادة 9 من النظام المذكور، أو ثبَتَتْ إدانتُه في مثل هذه الجرائم من مَحْكمة فرنسيَّة أو دوليَّة.
وللمحكمة أن تأْمُرَ كذلك بالآتي:
1- الإعلان عن قرارها بالشروط المنصوص عليها في المادة 51 من القانون الجنائي.
2- نشْر هذا القرار أو إدراجه ضمن بيان بالشروط المنصوص عليها في المادة 1 – 51 من القانون الجنائي، دون أن تتجاوزَ مصاريف النشْر أو الإدراج الحدَّ الأقصى للغرامة المستحقَّة.
ولقد أثارتْ إجراءات محكمة “نورمبرج” اعتِراضات، حتى في صفوف القانونيين الأمريكيين، وعلى أعلى مستوى وهم قُضاة المحكمة العُليا، بدءًا بالقاضي “جاكسون” الذي كان رئيسًا لمحكمة “نورمبرج”، وفي ذلك يقول المؤرِّخ الإنجليزي دافيد أرفنج: لقد شعرَ كبار القانونيين في العالم أجمع بالخجل من إجراءات “نورمبرج”، ولا شكَّ أن القاضي “روبيرت جاكسون” الرئيس الأمريكي للادِّعاء كان يخجلُ من هذه الإجراءات، وقد اتَّضَح ذلك مِن مُذكراته الشخْصيَّة.
أمَّا القاضي “فينرستروم” – من المحكمة العليا في الولايات المتحدة، ورئيس إحدى المحاكم – قد أبْدَى امتعاضه واشمئزازَه من جوِّ المحكمة، وموقف المترجمين والمحامين ووكلاء النيابة؛ حيث إنَّه رفَضَ قَبول تعيينه، وغادَرَ ألمانيا فجأة، وعاد إلى الولايات المتحدة، ونشَرَ في جريدة “شيكاغوديلي تريبيون” الصادرة في 23 فبراير 1948 اعتراضاته على التنظيم والإجراءات.
ووَفْقًا للنظام الأساسي لمحكمة “نورمبرج” الذي ينصُّ على أنَّ تقارير لجان تفتيش الحلفاء تعتبرُ من القرائن؛ فقد وافقتْ على التقرير السوفييتي بشأْن “كاتين”، والذي يتَّهم الألمان بقتْل 11000 ضابط بولندي كدليل إثبات صحيحٍ، ولا يُنَاقش من طرف المنتصرين، وفي 13 أبريل 1990 أعلنت الصحافة الدولية أنَّ جريمة “كاتين” كان مدبِّرها “بيريا” والسلطات السوفييتيَّة.
ولقد اعتمدتْ محكمة “نورمبرج” هذا الرقْم رسميًّا، وهو الأمر الذي ما انْفكَّ يُستخدم منذ ذلك الحين؛ للتلاعُب بالرأي العام في الصحافة المكتوبة والمقروءة، وفي الأدب وحتى في الكتب، غير أنَّ هذا الرقْم لا يَستند إلاَّ لشهادتين؛ شهادة “هوتل” وأخرى “لويزليسني”، وهما من ضُباط الأمن النازيين، وهاك ما أعلنه الأول:
في أبريل 1944 جرى حديث بيني وبين “أدولف إيخمان” الذي كنتُ أعرفه منذ 1938، وذلك في شقَّتي “ببودابست”، وكان يعرف أنه يعتبر من مجرمي الحرب من طرف الحلفاء لمسؤوليَّته عن قتْل آلاف اليهود، وطلبتُ منه أن أعرفَ عدد القتْلى، فأجابني رغم سريَّة العدد الشديدة أنه طبقًا للمعلومات التي يمتلكها، فقد وصَلَ إلى النتيجة التالية نحو 4 ملايين يهودي قُتلوا في مُخْتَلف معسكرات الاعتقال، كما أنَّ هناك مليونين ماتوا بوسائل أخرى.
كان إيخمان يقول: إنَّ شعورَه باقترافه قتْل خمسة ملايين شخص هو مصدر لسعادته ورضاه.
وهاتان الشهادتان كما يقول “مولياكوف” نفسُه من الممكن الاعتراض على هذا الرقْم الذي لا سندَ له، كما يمكن اعتباره رقْمًا مشبوهًا!
وتذكرُ الصحيفة العبْرية الصادرة في نيويورك بتاريخ 30 يونيه 1965 أنَّه في ذلك التاريخ كان هناك 3 ملايين و375000 شخص قد قدَّموا طلبات للحصول على تعويضات؛ نظير الخسائر التي تكبَّدوها إبَّان سيطرة هتلر، ونضيف أنَّ الشهادة الرئيسية – وهي الشهادة الأكمل والأدق – كانتْ شهادة “هوتل” عميل المخابرات.
وتأكيدًا منَّا لاعتراضات كبار القانونيين في المحكمة العليا للولايات المتحدة وغيرها على التشوُّهات القانونية لمحكمة “نورمبرج”، فسنذكرُ هنا فقط – وعلى سبيل المثال – انتِهاكات القواعد الثابتة لإجراءات أيَّة قضية حقيقيَّة:
1- إقامة الدليل على صِحَّة النُّصوص المقدَّمة والتحقُّق منها.
2- تحليل قيمة الشهادات، والظروف التي تمَّ في ظلِّها الحُصُول عليها.
3- البحث العلمي لسلاح الجريمة؛ لإثبات استِخدامه وآثاره.
النصوص:
تتآلَف النصوص الأساسيَّة – والتي تُعتبر حاسمة للتدليل على الحلِّ النهائي – مِن أوامر الإبادة التي تُنسب إلى كبار المسؤولين؛ “هتلر، وجورنج، وهيدريش، وهيلمر”، والتوجيهات الصادرة لتنفيذها.
أولاً: توجيهات هتلر بشأْن الإبادة: فرغم الجهود التي بَذَلها المنظِّرون للإبادة الجماعيَّة والهولوكوست، فلمْ يوجد لها أثرٌ، وكتبت السيدة “أولجا ورمسر ميجو” في 1968 تقول: كما أنَّه لا يوجد أمرٌ خَطي مكتوب بوضوح للإبادة بالغاز في “أوشفيتز”، فلا يوجد أيضًا أيُّ أمرٍ بإيقافها في نوفمبر 1944.
ويعترف الدكتور “كيبوفي” – مِن مركز الوثائق في “تل أبيب” عام 1960 – بأنه لا توجد أيَّة وثيقة عليها توقيعٌ من هتلر أو هيلمر أو هيدريش تتحدَّث عن إبادة اليهود، ولا تظهر عبارة إبادة في خطاب “جورنج” الموجَّه إلى “هيدريش” بشأْن الحلِّ النهائي للمسألة اليهودية.
وصرَّح “ريمون أرون، وفرانسوا فيري” – وهما مِن كبار المفكِّرين الفرنسيين في مؤتمرٍ صحفي عُقِدَ في فبراير عام 1982 – أنه رغْم البحوث المتعمقة لم يتم العثور مُطلقًا على أمرٍ مِن هتلر بإبادة اليهود.
ووقَّعَ بعضُ المؤرِّخين على البيان التالي – بإيعاز من “فيدال ياكيه، وليون بوليا كوف”.
“ولا يجب التساؤُل عن الكيفيَّة التي كان من الممكن بها تِقَنيًّا القيام بمثْل هذه المجزرة الجماعية، لقد كانتْ ممكنة تِقَنيًّا؛ لأنها حدثتْ، وهذه هي نقطة الانطلاق اللازمة لأيِّ تحقيقٍ تاريخي حول هذا الموضوع، وعلينا أن نذكرَ هذه الحقيقة بكلِّ بساطة، فلا نقاشَ، ولن يكونَ هناك نقاشٌ حول وجود غرف الغاز وهذه الممنوعات الثلاثة أو المحرَّمات الثلاثة، هي الحدود النهائيَّة لأيِّ بحثٍ؛ روجيه غاروديه.
وهذا النصُّ يُعتبر بالفعل بداية تاريخيَّة في تاريخ التاريخ؛ بوَضْعه مثلَ هذه الأوامر الشرطيَّة مسبقًا أمام أيِّ بحثٍ أو نقْد للأحكام التي أصدرَها المنتصرون.
ولكنَّ التاريخ إذا أرادَ أن يتحرَّى النُّظُم الأساسية العلميَّة، ينبغي أن يكونَ بمثابة بحثٍ دائمٍ وتفنيد لكلِّ ما نعتقدُ أنَّه قد ثبَتَ نهائيًّا.
وهاك مثال مشهور:
لقد توخَّت اللجنة الدوليَّة “لأوشفيتز” في نوفمبر 1990 استبدال اللوحة التذكاريَّة في “أوشفيتز”، والتي تشيرُ إلى 4 ملايين من الضحايا بأخرى تحمل عبارة أكثر من مليون قتيل، ولكن الدكتور “جولدشتين” رئيس اللجنة اعترضَ على ذلك، والواقع أن الدكتور “جولدشتين” لم يعترضْ على ضرورة تغيير اللوحة القديمة، ولكنَّه كانَ يرجو ألا تحمل اللوحة الجديدة أيَّ رقْمٍ؛ لعِلْمه أنه قد يُصبحُ من الضروري في زمنٍ قصيرٍ إعادةُ النظر مرة أخرى في تخفيض الرقْم المذكور.
وعلى هذا، فإنَّ اللوحة المثبتة على معسكر “بيركيناو” حملت التدوين التالي حتى عام 1994: “هنا وفي الفترة ما بين 1940 إلى 1945 عُذِّب أربعة ملايين؛ من الرجال، والنساء، والأطفال، وقُتلوا بواسطة عمليَّات الإبادة الهتلريَّة”.
وبفضْل ما قامتْ به اللجنة الدوليَّة لمتحف الدولة الذي يرْأسه المؤرِّخ “فلاديسوف برتوزيسكي” تعدَّل النص على النحو التالي والذي لا يبعد عن الحقيقة: “ليصبح هذا المكان الذي قتَلَ فيه النازيون مليونًا ونصف مليون؛ رجل، وامرأة، وطفل، معظمهم من اليهود مِن مختلف البلدان الأوروبيَّة، وإلى الأبد صرخة يأسٍ وإنذار للإنسانيَّة”.
وهذا المثال يبيِّن لنا أنَّ التاريخ لكي يفلتَ من الإرهاب الفكري للمنادين بالحقْد والبغضاء، يقتضي إعادة نظرٍ دائمة؛ فإمَّا أن يكونَ تعديليًّا؛ أي: قابلاً لإعادة النظر فيه وتعديله، وإمَّا أن يكون محض دعاية مُقنعة، ونعود الآن إلى التاريخ بمعناه الحقيقي، فقد عولجتْ مسألة اليهود في برنامج الحزب القومي الاشتراكي النازي في المادة 4 من البرنامج حيث نص على أنَّه: “لا يحقُّ لأيِّ شخصٍ حيازة الجنسيَّة الألمانية إلاَّ من المواطنين الكاملي المواطَنة، وهؤلاء المواطنون هم الذين يجري في عروقهم الدمُ الألماني دون تمييزٍ عقائدي، وعلى ذلك فلا يُمكن لأيِّ يهودي أن يكونَ مُواطِنًا كاملَ المواطَنة”.
وعلى ذلك فمَن لا يملك الجنسيَّة الألمانيَّة لا يُمكنه العيشُ في ألمانيا، ويجبُ أنْ يخضعَ للتشريعات المعمول بها بشأْن إقامة الأجانب.
وجاء في المادة 8: ضرورة إيقاف أية هجرة جديدة لغير الألمان، وكذلك الطرد الفوري لغير الألمان الذين دخلوا ألمانيا منذ 2 أغسطس 1914، وهذه النقطة الأخيرة موجَّهة بشَكْلٍ واضحٍ ضدَّ اليهود الشرقيين الذين وصلوا بأعداد كبيرة إلى “الريخ” أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، ونصَّت المادة 23 على أنَّه لا يحقُّ لليهود العملُ في الصحافة، وأكَّدت المادة 24 على أنَّ الحزب يُكافِح ضدَّ العقلية المادِّيَّة اليهوديَّة.
أوامر هتلر بشأْن الإبادة:
كتبَ “راؤول ولنبرج” في كتابه “القضاء على يهود أوروبا” الذي صدرتْ طبعته الأولى عام 1961 أنَّ هناك أمرين للإبادة صدرا عن هتلر في ربيع 1941؛ دخول روسيا، والآخر بعد عِدة شهور مِن هذا التاريخ.
ولكن في عام 1985، وفي الطبعة الثانية المنقَّحة حُذفتْ جميعُ الإشارات إلى أوامر هتلر بشأْن الحلِّ النهائي بصورة منهجيَّة.
ففي طبعة 1961 يذكرُ “ولنبرج” أنَّ الأمرَ كان شفويًّا؛ أي إنَّ الجنرال “جوديل” قال: إنَّ هتلر….!!!
وكان هتلر ينادي في كتابه “كفاحي” برغبته في طرد اليهود من ألمانيا، واقترحَ “ريبنتروب” تجميعَهم في “مدغشقر” التي كانتْ تابعةً لفرنسا آنذاك.
وفي يوليه 1940 أوجزَ المسؤول عن الشؤون اليهوديَّة “فرانز راد” هذا التوجيه في العبارة التالية: كلُّ اليهود خارج أوروبا، وكان يتوقَّع للحلِّ النهائي فترة أربع سنوات وإمكانيَّات ضخْمة.
خطاب جورنج إلى هيدريش 31 يوليه 1941
طلب هيدريش من جورنج في 1939:
أعطيتني الأمرَ باتخاذ التدابير المتَعَلِّقة بالمسألة اليهوديَّة، فهل عليَّ الآن مَدُّ هذه المهمة التي أسندتموها إليَّ؛ لتشمل الأراضي الجديدة التي استولينا عليها في روسيا؟
وهنا لا شيء بخصوص قتْل اليهود، والأمر لا يتعلق إلاَّ بنقْلِهم جغرافيًّا؛ وذلك لمراعاة الظروف الجديدة، فالحلُّ النهائي كان يَكمن في تفريغ أوروبا من اليهود، والإمعان في إقصائهم بعيدًا؛ حتى تسمحَ الحرب بوضعهم داخل “جيتو” خارج أوروبا كمشروع “مدغشقر”.
وافتراض لغة سِريَّة وشفرية هو افتراض بلا سند؛ لأنَّ هناك وثائق واضحةً للجرائم الأخرى، ومنها الموت الرحيم، وأمْر قتْل الكوماندوز البريطانين، وسحْل الطيَّارين الأمريكيين في الشوارع دون محاكمة، وإبادة أهالي “ستالنينجراد” من الذِّكْر عند احتلالها، وعن هذه الجرائم جميعها فالوثائق موجودة، في حين أنه بالنسبة لهذه الجريمة لا توجد أصول ولا صور ولا أوامر، أو توجيهات لازمة لتنفيذ هذه التعليمات الضخْمة.
في يناير 1942 أبْلَغَ “رينهارد هيدريش” رئيس “الجستابو” زعماء “برلين” أن “ألفوهور” قد قرَّر إخلاءَ كلِّ اليهود نحو الأراضي الشرقيَّة، مُستبدلاً بذلك عملية الإبعاد السابقة.
وفي تلك المذكرة – التي عُمِّمتْ في مارس 1942 داخِل مكتب “هيدريش” – أبْلَغَ الوزراء أنَّ يهود أوروبا سيُجْرَى تجميعهم في الشرق؛ انتِظارًا لإرسالهم بعد الحرب إلى أراضٍ نائية؛ مثل: مدغشقر؛ لكي تصبحَ وطنَهم القومي.
ويذكر “بولياكوف”: وكان مشروع مدغشقر – وحتى التخلِّي عنه – هو الذي كان يُطْلِق عليه الزعماء الألمان اسم: الحل النهائي للمسألة اليهوديَّة.
ومِن أجل الإبقاء على نظرية الإبادة الجسديَّة بأيِّ ثمنٍ تطلَّب الأمرُ إيجاد ذريعة، ولقد كانتْ عبارة الحلِّ النهائي للمشكلة اليهودية من العبارات التقليديَّة للإشارة إلى الخطة الهتلرية الرامية إلى إبادة اليهود الأوروبيين.
وليس هناك ما يُبرِّر هذه اللغة الشفريَّة التي كانتْ تسمح لأيِّ وثيقةٍ بأن تُفْصِحَ عمَّا نريد أن تقولَه، وهاك مثالاً على ذلك:
الأول: خطاب “جورنج” المؤرَّخ في 31 يوليه 1941، والذي يستكملُ فيه جورنج تعليماته إلى هيدريش: استكمالاً للمهمة التي أُسندتْ إليكم بتاريخ 24 – 1 – 1939 أكلِّفكم بأنْ تعرضوا عليَّ وبسرعة مشروعًا إجماليًّا يتناول الإجراءات التنظيميَّة، والتدابير الملموسة والمادية؛ لتحقيق الحلِّ النهائي الذي نتطلَّع إليه للمسألة اليهودية، منطقة النفوذ الألماني في أوروبا.
وبإيجازٍ فإنَّ تعليمات جورنج إلى هيدريش لا تعدو أن تكون تطبيقًا على ما كان يطبَّق في ألمانيا على أوروبا؛ نظرًا للظروف التي استجدتْ، ما لم تفسَّر تفسيرًا تعسُّفيًّا طبقًا لمخَطط مُسبق، والهدف في حدِّ ذاته هو دون شكٍّ هدف غير إنساني وإجرامي، ولكنَّه لا يشيرُ في أيِّ لحظة إلى فكرة الإبادة التي ألْصقَها له المدَّعي العام في نورمبرج “روبرت كمبنر”، عندما أعلنَ بهذه السطور كلَّفَ هيدريش وأعوانه رسميًّا بالقتْل القانوني لليهود.
وقد اعترَضَ جورنج على الترجمة الإنجليزيَّة للعبارة الألمانيَّة: “الحل الشامل” بعبارة: “الحل النهائي”؛ مما حدا بالمدَّعِي العام “جاكسون” أن يعترفَ بالتزوير، وإرجاع العبارة إلى أصلها الحقيقي، وهذه الموافقة التي دَمَّرتْ نظرية بأكْملها لم تتحدثْ عنها الصحافة بكلمة واحدة.
وفي 10 فبراير 1942 كتَبَ مسؤول وزارة الخارجيَّة الألمانية “رادماخير” في رسالة رسميَّة يقول: لقدْ أتاحتْ لنا الحربُ ضدَّ الاتحاد السوفييتي الحصولَ على أراضٍ جديدة للحلِّ النهائي، وعلى ذلك فقد قرَّر “ألفوهور” نقْلَ اليهود نحو الشرق لا نحو مدغشقر، ومن ثَمَّ لَم تَعُدْ هناك حاجة لاختيار مدغشقر للحلِّ النهائي.
والمثال الثاني على هذا التعبير التعسُّفي لمعاني الكلمات؛ لتبرير قضيَّة ما هو الخاص بمؤتمر “وانسي الكبير” الذي انعقدَ في برلين في 20 يناير 1942.
ومنذ بداية المؤتمر لم ينفك هيدريش يذكرُ أنَّه قد تمَّ تعيينه في منصب المسؤول المكلَّف بإعداد الحلِّ النهائي للمسألة اليهوديَّة في أوروبا، وأنه سيكون مِن الآن فصاعدًا المسؤول عن مجموع الإجراءات اللازمة للحلِّ النهائي للمسألة اليهوديَّة، دون اعتبارٍ للحدود الجغرافية.
ويلخص هيدريش بعد ذلك السياسة المعادية لليهود التي تمَّت حتى ذلك التاريخ في الآتي:
• طرْد اليهود بعيدًا عن الدوائر الحيوية للشعب الألماني.
• طرْد اليهود خارج الحيِّز الحيوي للشعب الألماني.
نصَّ مؤتمر وانسي 20 يناير 1942 أثناء الحلِّ النهائي:
سيسيرُ اليهود تحت إدارة مناسبة نحو الشرق؛ للاستفادة بهم في العمل، وسيتم التفريق بينهم بحسب الجنْس، وسيرحل اليهود القادرون على العمل في طوابير ضخْمة إلى مناطق الأعمال الكبرى؛ لبناء الطرق، ولا شكَّ أن عددًا كبيرًا منهم سيموت بواسطة الانتقاء الطبيعي، ومَن سيظلُّ منهم على قيد الحياة في نهاية المطاف، فإنهم سيشكِّلون دون أدنى شكٍّ العنصر الأقوى، وينبغي معاملتهم طبقًا لذلك، ولأنهم يمثِّلون الانتقاء الطبيعي ينبغي اعتبار تحريرهم بمثابة الخليَّة المولِّدة للتطوير اليهودي الجديد، كما توضِّحه تجارب التاريخ.
ويُعَد بروتوكول “وانسي” بمثابة المحضر الحرفي للمؤتمر الذي عُقِد في الفترة من 20 يناير 1942، واشتركَ فيه الوزراء المهتمون إداريًّا بحلّ المسألة اليهوديَّة، ورؤساء الإدارات المكلَّفة بالتنفيذ، ويتعلَّق الأمرُ بنصٍّ لم تَرِدْ فيه عبارة غرف الغاز أو الإبادة، ولكن نقل اليهود فقط إلى الشرق الأوروبي!
وهذا المحضر له كلُّ خصائص الوثيقة المزوَّرة والمزيَّفة، إذا ما رجعْنا إلى صورته التي نُشرتْ في كتاب السيد “روبرت كمبنز”، فلا خاتم ولا تاريخ ولا توقيع، والحروف كُتبت على آلة كاتبة عادية، وعلى ورق من القطع الصغير.
وعلى كلِّ حال، فلا يوجد بها أيُّ إشارة إلى غرف الغاز، وفضْلاً عن ذلك، فإن مؤتمر “وانسي” – المنعقِد في 20 يناير 1942، والذي ادُّعِي طوال أكثر من ثُلُث قرن أنَّ قرار إبادة يهود أوروبا قد اتُّخذ أثناء انعقاده – اختفى تمامًا من أدبيَّات أشد أعدائه المطالبين بمراجعة التاريخ منذ عام 1984، فقد تخلَّوا صراحة عن هذا التفسير، ورجعوا تاريخهم حول هذه النقطة أثناء انعقاد مؤتمر “شتوجارت” في مايو 1984.
وقد وصفَ “ياهودا بور” في جريدة أخبار اليهود الكنديين الصادرة في 30 يناير 1992: أنَّ تفسيرَ “وانسي” كان تفسيرًا أحمق.
وأشار أحد المؤرِّخين المتَشدِّدين – وهو جان كلود بريساك – إلى أنَّ عبارة الإبادة قد نُقِّحَتْ وصارتْ طرْدًا.
وبخصوص مسألة الحلِّ النهائي للمشكلة اليهودية، وأنها لن تُحَلَّ إلا بعد الحرب، فإنَّ الملف الخاصَّ بصيف عام 1941 يشهدُ على ذلك؛ فقد جاء في الفقرة المعنونة: تعليمات لحلِّ المشكلة اليهودية ما يلي:
لا يجب أن تُتَّخذ أيُّ إجراءات بشأْن المسألة في الأراضي المحتلَّة في الشرق الأوسط إلا بعد الحرب، وستجد المسألة اليهودية في أوروبا حلاًّ عامًّا.
ولقد كان هتلر في السنتين الأخيرتين للحرب في وضْع ميْئوس منه؛ فالحلفاء يدمِّرون مراكز الإنتاج الحربي بقصْفهم لها، ويحطِّمون طرقَ المواصلات، واضطر إلى حشْد أعدادٍ أخرى للعمل بالمصنع، فكان يعمل في “مونوفيتز” بالقُرب من “أوشتفيز” 10000 معتقل، و100000 عامل مَدَني، و1000 سجين حربٍ بريطاني، وفي 25 يناير 1942 وجَّه هيلمر تعليماته إلى المفتش العام لمعسكرات الاعتقال، جاء فيها: استعد لاستقبال 100000 يهودي، وستُسْنَد مهام اقتصاديَّة كبيرة إلى مُعسكرات الاعتِقال في الأسابيع القادمة.
وفي مايو 1944 أمَرَ هتلر باستخدام 200000 يهودي كعُمَّال في البرنامج الإنشائي “جاجر”، ومنظَّمة “تودت”، فصدرَ أمرٌ في 18 نوفمبر 1943 تُمْنَح بمقتضاه علاوة للمعتقلين حتى اليهود منهم الذين يبرزون في العمل.
ولا يتعلَّق الأمرُ هنا بالجنون والخرافة، بل هو في المقام الأول يشكِّل دحْضًا إضافيًّا لأطروحات الإبادة.
الشهادات:
أثناء محاكمة “أوشفيتز” التي جرتْ في فرانكفورت في الفترة من 20 ديسمبر 1963 وحتى 20 أغسطس 1965، كان الأمرُ أشبه بمسرحٍ كبير واسع، وهو ما يليق بعملية سياسيَّة مُثيرة، ورغم هذا الإخراج القضائي، فإنَّ محكمة الجنايات لن تستطيعَ تفادي الاعتراف بأنها لا تملك سوى عناصر واهية لدعْم حُكْمها.
كان ينقص المحكمة معظمُ الوسائل والمعلومات تقريبًا التي توضعُ عادة تحت تصرُّف محاكمة جنائية عادية؛ حتى يتسنَّى تشكيلُ صورة أمينة للوقائع، كما حدثتْ فِعْلاً أثناء الجريمة، فكان ينقصُها جثثُ الضحايا وتقارير التشريح، واستنتاجات الخُبَراء بشأْن أسباب الوفاة، وكان ينقصُها الآثار التي ترَكَها المتهمون وسلاحُ الجريمة… إلخ، ولم يتم التحقُّق من الشهادات إلاَّ في حالاتٍ نادرة.
وسلاح الجريمة كان مع ذلك غرف الغاز، وها هم القضاة لا يجدون لها آثارًا!
ولكن كان يكفي أن يكونَ الأمرُ معروفًا للجميع؛ حتى لا يشكِّكَ فيه أيُّ إنسان، وإلاَّ ذهَبَ هو نفسُه إلى الجحيم.
وحتى عام 1757 كان من المعروف للجميع أنَّ الشمس تدورُ حول الأرض، وكانتْ هذه حقيقة ثابتة!
وكتَبَ أحدُ القانونيين الأمريكيين الذين أُرْسِلوا إلى “داخاو” بعد أنْ أصبح مُعسكرًا أمريكيًّا، ومركزًا للمحاكمات ضدَّ جرائم الحرب.
يقول لقد عِشْتُ في “داخاو” طوال 17 شهرًا بعد الحرب كقاضٍ عسكري للولايات المتحدة، وأستطيع أنْ أشهدَ أنَّه لم يكنْ هناك أيُّ غرف للغاز، وما يعرض على الزوَّار تُقَدَّم – بطريقة خاطئة – على أنَّها غرفٌ للغاز، مع أنها مَحْرقة لجُثَث الموتى، ولم يكن هناك أيُّ غرفٍ للغاز في ألمانيا، ويقولون لنا: إنه كان في “أوشفيتز” غرف للغاز، ولكننا لم نحصلْ على إذنٍ من السلطات الروسيَّة – التي كانتْ تُشْرِف على هذه المنطقة – لزيارتها، كما أنهم يستخدمون الأسطورة القديمة للدعاية بأنَّ ملايين اليهود قد قُتلوا، وأستطيع أنْ أؤكِّدَ – بعد 6 سنوات على انتهاء الحرب في ألمانيا والنمسا، أنَّه كان هناك الكثير من اليهود الذين قُتلوا، ولكنَّ رقْم المليون لم يتم بلوغه قطُّ، وأعتقدُ أنَّني مؤهَّلٌ أكثر من غيري للحديث عن هذا الموضوع.
ونظرًا لانعدام أيِّ دلائل خطيَّة ووثائق لا يَرْقَى إليها الشكُّ، فإنَّ محكمة “نورمبرج” قد قامتْ على شهادات؛ منها: أنَّ الفارِّين الذين شَهِدوا على وجود غرف الغاز قاموا بذلك ليس على أساس ما شاهدوه، ولكن على ما سمعوه.
والشاهد الرئيس الذي جِيء به لإثبات نظرية المنتصرين المرتَدِين لباسَ القضاة، كان “رودولف هيس” قائد معسكر أوشفيتز، وكان الموجز الذي أدْلَى به عند إلقاء القبض عليه، والذي قامتْ عليه اعتِرافات في نورمبرج يستجيب تمامًا لما كانتْ تنتظره منه المحْكَمة، وهاك اعترافه الذي أدْلى به بعد أن حَلِف اليمين، ووقَّع عليه “رودولف هيس” في 5 أبريل 1964: توليتُ قيادة أوشفيتز حتى أوَّل ديسمبر 1943، وأعتقدُ أن 2500000 ضحية قد أُعْدِموا أو أُبيدوا بالغاز أو الحرْق، وأنَّ نصفَ مليون آخرين قد ماتوا من الجوع أو المرض، وبهذا يصلُ عددُ القتْلى إلى نحو 3000000، وكان الحلُّ النهائي للمسألة اليهوديَّة يَعني: إبادة كلِّ اليهود من أوروبا، وقد تسلَّمتُ أمرَ إعداد الإبادة في أوشفيتز في يونيه 1941، وفي ذلك الوقت كان هناك ثلاثة معسكرات أخرى للإبادة في الحكومة العامة: هي “بلزيك، وتربلينكا، وولزيك”، فكيف بالله تمَّ تسجيلُ هذه الشهادة الهامة دون التحقُّق منها مُسْبقًا؟!
ويشرح “هيس” نفْسَ هذا قائلاً: كُتِبَت الاعترافات الأولى تحت إشراف السلطات البولنديَّة التي اعتقلتْني.
وفي كتاب “السيرة الذاتية”؛ “لرودولف هيس” جاء ما يلي: “أثناء استجوابي الأول انْتُزعت الاعترافات منِّي بضربي، ولا أعرف ما في هذا التقرير، رغْم أنني قد وقَّعتُ عليه”.
ولم تتأكَّدْ عمليَّات التعذيب التي تعرَّض لها “هيس”؛ للحصول على أدلَّة إلاَّ في عام 1983 عندما كتَبَ “روبرت بتلر” كتابه عن فيالق الموت، والذي جاء فيه لدى إلقاء القبض عليه ضُرِب ضرْبًا مُبرحًا إلى درجة أن ضابط الصحة تدخَّل بإلحاحٍ لدى الكابتن قائلاً له: قُلْ له: أنْ يوقفَ الضرب، وإلاَّ فإننا لن نحصلَ إلا على جُثَّة هامِدة.
محاكمة أوشفيتز:
إنَّ مصيرَ المتهم الرئيسي – وهو آخر قائد لمعسكر أوشفيتز “ريتشارد باير” الذي توفِّي قبل بَدء المحاكمة – جديرٌ بالذِّكْر؛ فقد تمَّ إيقافُه في ديسمبر 1960 بالقُرْب من “هامبورج”؛ حيث كان يعمل ويعيش، وفي يونيه 1963 ماتَ في السجن في ظروفٍ غامضة.
وطبقًا لمصادر عديدة رَفَضَ “باير” بعناد إثبات وجود غرف الغاز في القطاع الذي كان يشرف عليه.
ويقرر محامي نورمبرج “إبرهارد إنجلهاردت” أن “باير” قد دُسَّ له السُّمُّ أثناء التحقيق.
والمثال الثاني: تقرير “جرشتين” أحد ضباط النازي، وهو التقرير الذي رفضتْ مَحكمة نورمبرج العسكرية الأخذَ به كدليلٍ في جلسة 30 يناير 1946؛ لعدم جِدِّيَّته، وما جاء فيه تضليل، والذي استخدمه جزئيًّا النائب العام الفرنسي “ديبوست”، ثم اسْتُخدِم بعد ذلك أثناء محاكمة “إيخمان” في القدس في 1961.
وطبقًا لهذا الشاهد، فإنَّ ضحايا بلغَ عددُهم 25 مليونًا، منهم: 60000 يوميًّا في المعسكرات: “بيلزيك، وتريبلينكا، وسوبيبور”، ورأى فضلاً عن ذلك من 700 إلى 800 شخص مكدَّسين وقوفًا في غرفة مساحتها 25 مترًا مربَّعًا؛ أي: أكثر من 28 في المتر المربع الواحد!!
والمثال الثالث: ولكي نتمسَّك بالشهود المشهورين نذكرُ الدكتور “ميكلوس نيسزلي” الطبيب الْمَجَرِي الذي اعْتُقل في أوشفيتز، وهو يقول عن غرف الغاز: إنَّ طولَها 200م، بينما الوثيقة المقدَّمة لمحكمة نورمبرج تقول: إنَّ مساحتها كانتْ 120م مربَّعًا، أو 400 م مربَّعًا، أو 850 م مربَّعًا؛ أي: 1، 5 في 2 م أو 2، 90 م، وهو يؤكِّد كذلك أنَّه عند وصوله إلى المعسكر في أواخر مايو 1944 كانت الإبادة بالغاز قد دامتْ منذ أربع سنوات، مع أنَّ وثيقة نورمبرج رقم 4401 تشيرُ إلى أنَّ طلبات المحارق جرتْ في أغسطس 1942، والوثيقة 4463 تقول: إنها لم تكنْ جاهزة إلاَّ في 20 فبراير 1943!
وفي أغسطس 1960 أعلَنَ معْهد التاريخ في “ميونخ” للصحافة ما يلي:
لَم تُسْتكملْ غرف الغاز في “داخاو”، ولم تُوضعْ موضعَ التنفيذ قطُّ، وأن الإبادات الجماعيَّة لليهود بالغاز في 1941 – 1942 في مناطق محدودة من بولندا المحتلة فقط، وليست في ألمانيا بأي حالٍ من الأحوال.
أمثلة أخرى:
قال “سوكل” أحد المتهمين الرئيسيين في جلسة 30 مايو 1964 لمحكمة نورمبرج ما يلي:
أقرُّ بأنَّ تَوْقيعي يظهر في هذه الوَثيقة، وأطلبُ من المحكمة السماحَ لي بأنْ أشرحَ كيفيَّة الحصول على هذا التوقيع، لقد قُدِّمتْ هذه الوثيقة إليَّ في شكْلها النهائي، فطلبتُ الإذنَ في قراءتها ودراستها؛ حتى أقرِّرَ ما إذا كان عليَّ أن أوقِّعَها، ولكن رُفِض طلبي، ثم دخلَ أحدُ رجال البوليس البولنديين أو الرُّوس، وقال: أين أُسرة “سوكل”؟ سنأخذ “سوكل” معنا، أمَّا الأسرة فستُسَلَّم في الأراضي الروسيَّة، وأنا والد 10 أطفال، ففكَّرتُ في أُسْرتي، ووقَّعتُ على الوثيقة.
ومِن بين شهادات مجرمي الحرب، فإنَّ شهادة الجنرال “أوهلندروف” تعتبرُ من الشهادات المعبِّرة بشكلٍ خاصٍّ؛ فقد كان يديرُ الجماعات المكلَّفة بإعدام المفوضين السياسيين في جنوب روسيا، وأعلَنَ أثناء المحاكمة الدوليَّة العسكريَّة أنَّه قد تلقَّى أوامرَ شفوية؛ لكي يُضيف إلى وظائفه وظيفة إبادة اليهود باستخدام الشاحنات المجهَّزة بمعدات الموت، بما في ذلك النساء والأطفال، وجاءتْ شهادته في المحاكمة الثانية مختلفة تمامًا، وتراجَعَ عن تصريحاته السابقة واعترفَ بأنَّه قتَلَ عددًا من اليهود والغجر، ولكن في إطار المعركة ضدَّ العدوِّ، وليس بموجب خطة محدَّدة لإبادة اليهود والغجر، كما اعترفَ بأنَّه قتَلَ 40000 شخص، وليس 90000 كما قال في السابق.
ولم ينبسِ المؤرِّخون النقَّاد بكلمة واحدة؛ لدحْض هذه الأقاويل، ولم تَصْدُرْ عنهم أيَّة مناقشة عملية معارِضَة، ولكن فُرِضَ عليهم الصمتُ والاضطهاد.
فهذا الصمت وهذا الاضطهاد وعمليَّات القمعِ ضدَّ التاريخ الانتقادي للجرائم الهتلريَّة ترتكزُ على حُجج واهية وكاذبة، وهي دليلٌ على أنَّ الجرائمَ الضخْمة التي ارتكبَها هتلر حيالَ اليهود وحيال كلِّ أعدائه من الشيوعيين الألمان أو السلاف، لم تكنْ تحتاجُ إلى أي أكذوبة للكشْف على فظاعتها، وأنَّ الحديث عنها انتقاديٌّ، وإنما هو في نظر أعداء التاريخ الانتقادي بمثابة تبرئة هتلر أو التخفيف من حِدَّة جرائمه، فالتدليلُ على أنَّ جرائمَ النازي لم تقتصرْ إلاَّ على اليهود وحدَهم، وأنها خلَّفتْ عشرات الملايين من القتْلى للكفاح ضدَّ الفاشية والنازية، فهي عنصرية تشجِّع على التمييز والحِقْد العُنْصريَّين.
ولِمُقاومة ظاهرة الحِقْد ضدَّ الباحثين الانتقاديين، فإنَّنا اليوم نسعى إلى إضافة عناصر جديدة بمصادرها ومراجعها إلى هذا الملف على أنْ تؤدِّي إلى قيام مناقشة جديدة صريحة حول الوقائع الموضوعية، دون دفْعهم مُسبقًا بالتحيُّز أو إجبارهم على الصمْت، ولا يُمكن الإعدادُ للمستقبل مع مُواصلة مشاعر الحقْد وتغْذِيَتها بالأكاذيب؛ “روجيه جارودي”.
ونقْد الشهادات المحققة تاريخيًّا، والدراسات العلميَّة التي تسمحُ بمنْح الرأي العام إمكانيَّة التفكير في جرائم الأمس؛ للحيلولة دون حدوثها غدًا، هو التزام أخلاقي بقدْر ما هو التزامٌ عِلمي.
وأسهمت الرواية في هذا الخداع والمخاتلة، وصدرت مؤلَّفات؛ مثل: “أيَّام موتنا”؛ لدايفيد روسيه الذي جمَعَ فيه بأسلوب روائي بارع كلَّ ما هو مُبتذل وتافه؛ لتشكيل قالب أدبيَّات معسكرات الاعتِقال.
وحتى “مارتن جاري” في كتابه “باسم كلِّ أبناء جِلْدتي”، والذي استعانَ في كتاباته بأحد الكُتَّاب الفرنسيين الكبار؛ لوصْف معسكر لهم لم تَطَأه قَدَماه قطُّ، وابتداءً منَ المحفوظات المزيَّفة لوزارة قُدَماء المحاربين التي اكتشفَها “سيرج كلارسفيلد” الذي يقول: إنه رأى بعينه لهبًا ضخْمًا يصعدُ مِن حفرة في الهواء الطَّلق؛ حيث كانوا يلقون فيها أطفالاً صغارًا.
وذروة هذه الأدبيَّات الرومانسيَّة هو كتاب “يوميَّات آن فرانك” الذي حقَّق أحسنَ المبيعات عالميًّا، و”آن فرانك” فتاة يهوديَّة كانتْ معْتقلة في أحد المعسكرات، وفي هذا الكتاب المؤثِّر تحلُّ الرواية محلَّ الواقع، ومرة أخرى تخفَّت الأسطورة في ثياب التاريخِ.
يقول المؤرِّخ الإنجليزي “دافيدا رفنج” عن هذا الكتاب: لقد وافَقَ والد “آن فرنك” أخيرًا التي راسلته عِدَّة سنوات على إخضاع أصول كتاب “اليوميَّات” للفحْص المعْمَلي، وهو ما أُطالب به دائمًا عندما يكون هناك اعتراضٌ على وثيقة ما.
وكان المعْمَل الذي فُحِصَتْ فيه أصول الكتاب هو مَعْمَل البوليس الجنائي الألماني في “فيسبادن”، وكانت النتيجة هي أنَّ جزءًا من يوميَّات “آن فرانك” كُتب بقلم جاف، وهذا النوع من الأقلام لم ينزل الأسواق إلاَّ في عام 1951 في حين أنَّ “آن فرانك” قد توفِّيتْ في عام 1945؛ روجيه جاروديه.
ويستطرد “دافيد أرفنج”، وكان استنتاجي بشأْن “يوميَّات آن فرانك” هو الجزء الأكبر منه كتبتْه حقيقةً فتاة يهوديَّة في العاشرة من عُمرها، أبوها “أوتو فرانك” أخرجَ هذه النصوص بعد موت ابنته المأْسَاوي من جرَّاء “التيفوس” داخل معسكر الاعتقال، وقد قامَ الأبُ وأشخاص آخرون لا أعرفهم بتصحيح اليوميَّات؛ لإعطائها شكْلاً صالحًا للبيع؛ لإثراء الوالد ومؤسَّسة “آن فرانك” في آنٍ واحد.
أمَّا كونه وثيقة تاريخيَّة، فهذا الكتاب ليس له أيَّة قيمة؛ لأن النصَّ قد شُوِّه وحُرِّف.
وهذه البضاعة الإبادية لا تَستخدم إلاَّ شهادات تشيرُ بطُرق مختلفة إلى قتْل الضحايا بالغاز، دون أن يوضِّحوا لنا طريقة تشغيل غُرفة غازٍ واحدة – والذي أثبته “لوختر” هو استحالة ذلك ماديًّا وكيميائيًّا – أو شاحنة واحدة من تلك الشاحنات التي استُخْدمتْ بطريقة انبعاث الديزل منها كغرف غاز مُتنقِّلة.
سلاح الجريمة:
“لو انطلقنا من وجْهة نظر الموضوعيَّة المفروضة من محاكمة جنائيَّة، فسيكون من الأهميَّة بمكان سماعُ أقوال الخُبراء بشأْن عددٍ كبيرٍ من الأسئلة، وحتى لو مجرَّد تكوين فكرة بخصوص مصداقية عددٍ كبير من الشهود، وكذلك بعض من الوثائق، ونستأذن في طرح عددٍ من هذه الأسئلة:
• كم من الوقت يجبُ أن يمرَّ؛ حتى يتفاعلَ غاز زيلكون “ب”؟ وما هي الكيفية التي كانتْ تظهر بها آثارُها؟
• هل كان من الممكن – كما يؤكِّدون – الدخول دون كمامات إلى المواقع المشبَّعةِ بغاز زيلكون “ب” بعد نصف ساعة من استخدامِ هذا الغاز؟
• هل كانت المحارق تستطيعُ أن تعملَ ليلَ نهار دون أن تتوقَّفَ؟
• هل من الممكن حرق جُثث بشريَّة في حُفَر عُمْقُها عِدَّة أمتار؟”؛ روجيه جاروديه.
ونطرح هنا مثالين اثنين:
• المثال الخاص بغرف الغاز المتنقِّلة بواسطة الشاحنات، والآخر خاصٌّ بالصابون المصنوع من الدهْن البشري، وأكذوبة استعماله بالفعْل في الحرب العالميَّة الأولى.
وقد انتشرتْ قصة عمليَّات الإبادة بغُرف الغاز المتنقِّلة والمولَّفة من الشاحنات التي أُبيدَ فيها آلاف الناس بتوجيه مخارج الديزل نحو الداخل، ولأول مرة لدى الرأي العام الغربي عندما صدرتْ في جريدة النيويورك تايمز بتاريخ 16 يوليه 1943، الصفحة السابعة، وحتى ذلك الحين لم يتناول هذا الموضوع سوى الصحافة السوفييتيَّة.
وهنا أيضًا، فإنَّ سلاح الجريمة وهو مئات أو آلاف الشاحنات المجهَّزة لعمليَّات القتْل هذه قد اختفتْ ولم تظهرْ واحدةٌ منها في أيِّ محاكمة كدليل إثبات.
ويُلاحظ كذلك أن خُطَّة الإبادة كان مُقدَّرًا لها أن تظَلَّ سرًّا مطلقًا، كما قال “هيس”، فمن الغريب أن يعلمَ به آلاف من سائقي الشاحنات، وأعوانهم الذين تسلَّموا الضحايا دون أمرٍ رسمي، وأخفوهم بطريقة سحريَّة مع احتفاظهم بهذا السرِّ الفظيع.
وروَّج “فيزنتال” لخُرافة الصابون البشري في مقالاته المنشورة عام 1946 في جريدة الطائفة اليهودية النمساوية “درنيوفنج” – الطريق الجديد – كتبَ يقول:
لقد سمعتُ هذه العبارات المخيفة لأوَّل مرة في أواخر عام 1942، وقد تمَّ هذا في الحكومة العامة لبولندا، وفي المصنع الذي كان كائنًا في “جليسي” في “بلزيك”، ومِن أبريل 1942 وحتى مايو 1943 استُخْدم 9000000 يهودي كمواد أوليَّة في هذا المصنع، وأضَاف أنَّه بعد تحويل الجُثث إلى موادها الأوليَّة استُخْدمتِ البقايا الدُّهْنيَّة؛ لإنتاج الصابون ثم قال: ولا يُمكنُ للعلم المتمدِّن أن يتصوَّرَ سرورَ النازي بهذا الصابون، وفرحة زوجاتهم بهذا الصابون، يحملُ الحروف rif، وهو رمز على مكتب الرايخ للتموين بالمواد الدُّهنيَّة، وقرأ البعض هذا الرمز خطأً على أنه rtf؛ أي: بمعنى دُهن يهودي صافي، وبعد ذلك انتشرت الشائعة كالرِّيح.
وتوجد ثلاثُ وثائق قد تسمحُ لو نوقِشتْ بجِديَّة وعَلنًا بوضْع حدٍّ للجَدل بشأْن غُرف الغاز، وهي تقرير “لوشتر” 5 أبريل 1988، ومعاينه “كراكوفي” المضادَّة بتاريخ 24 سبتمبر 1990، ووثيقة “جرمار رودلف” 1994؛ لأنها هي الوحيدة التي تكشفُ عن نهْج عِلمي وموضوعي، وتتضمَّن تحليلَ العيِّنات المأخوذة على الموقِع؛ مما يتيحُ التحليل الكيميائي.
والزيكلون “ب” المصنوع من حامض السيانيدر هو الذي زعم أنه قتَلَ عددًا كبيرًا من المعتَقلين بالغاز، وهو عادة ما يُسْتَخدم لتطهير الملابس والأدوات التي يُخْشَى منها أن تنشرَ الأوبئة، ولا سيَّما “التيفوس”، وقد استُخْدِم ابتداءً من الحرب العالمية الأولى لأوَّل مرة، ولكنَّه استُعْمِل بعد ذلك؛ لتنفيذ حُكْم الإعدام في أحد المحكوم عليهم بالإعدام في “أريزونا” عام 1920 ثُم استَخْدمتْه ولايات أمريكيَّة أخرى لنفْس الغرض، ولا سيَّما في “كاليفورنيا، وكولورادو، والماريلاند، والمسيسيبى، ونيفادا، ونيومكسيكو، وكارولينا، الشمالية”، وقد عَمِل المهندس “لوشتر” كخبير استشاري لولايات “ميسوري، وكاليفورنيا، وكارولينا الشمالية”، وقد تخلَّتْ ولايات كثيرة اليوم عن هذا النمط من الإعدام؛ بسبب تكلفته الباهظة، ليس فحسب بالنسبة لغاز “السيانيدر”، ولكن بالنسبة أيضًا لمواد تصنيعه وصيانته التي تستلزم إجراءات أمنيَّة لاستخدامه؛ مما جعلَه أغْلَى طريقة للإعدام.
وبعد أنْ قامَ “لوشتر” بزيارة واختبار عيِّنات غُرف الغاز المزعومة في “أوشفيتز، وبيركيناو” وغيره من معسكرات الشرق، توصَّل إلى الاستنتاجات التالية:
أنَّ الفحْصَ العيني للمنشآت يشيرُ إلى أنَّ تصميمَها كان رديئًا للغاية، وخطرًا إذا ما استُخْدِمتْ كغرف للإعدام، وخَلُصَ “لوشتر” إلى أنَّ أيًّا من الشروط لم تستوفَ للقول بأنَّها غُرف الغاز القاتلة، وكان أيُّ إنسانٍ يعمل فيها يعرِّض نفسَه للخطر، وبعد أن استعرضَ جميع المواد الوثائقيَّة وفحَصَ جميع الأماكن في “أوشفيتز، وبركيناو وماجدانك”، وَجَدَ أنَّ البراهين دامغة، فلم توجد في أيٍّ من هذه الأماكن غرف غاز قاتل!
وفي أثناء محاكمة “تورنتو” كشَفَ المحامي “كريستي” أن الشهادات كانتْ تتعارَض مع حقيقة الإمكانيَّات الكيميائيَّة والتِّقَنِيَّة، وكما توضِّح العيِّنات والمعاينة التي قامَ بها لوشتر، فإنَّ آثارَ حامض “السياندر” في الزيكلون “ب” كانتْ أهمَّ بكثيرٍ في القاعات التي تأكَّد أنَّها كانتْ مخصصة للتطهير في القاعات المزعوم أنَّها كانتْ غُرفًا للغاز.
وهذه النتيجة أكَّدتْها جزئيًّا المعاينةُ المضادَّة “لكراكوفي” التي أجْرَاها معهد عينات الطبِّ الشرعي في “كركوفي” بتاريخ 20 فبراير وحتى 18 يوليه 1990، والتي أبلغتْ نتائجها للمتحف بالخطاب المؤرَّخ في 24 سبتمبر 1990.
هذا وقد فحَصَ “لوشتر” الأماكن التي استخدمها النازي وفْقًا للخرائط الرسميَّة “لبيكركيناو” كمقابر للحَرْق؛ للتخلُّص من الجُثث، وشدَّد على أنَّه منَ المستحيل حَرْق الأجسام تحت الماء؛ لأن “أوشفيتز، وبيركيناو بنيتا” قائمة على مستنقعات.
أما اليوم أوفشيتز، وهو يضمُّ 189 صورة أُخذتْ من المعسكر نفسِه في ذلك العهد، والذي قدَّم له “سيرج لاسفلد” تظهرُ 189 منظرًا للحياة في معسكرات الاعتقال لدى وصول قافلة من المعتقلين القادمين من الْمَجَر، وليس فيه أيُّ شيءٍ يثبتُ الإبادة الجماعيَّة والمنظَّمة، بل على العكس، فإنها تستبعدُ مثلَ هذه الإبادة.
ويبدو أن الكندي “جون بول” خبير تفسير الصورة الجويَّة هو الذي جمع أكبرَ قدْرٍ من المستندات التصويريَّة الأصليَّة، وأجرى بكفاءةٍ تحليلاً صارمًا لها، وجاءت استنتاجاتُه متعارِضة تمامًا مع التاريخ الرَّسْمي.
ولا يُمكنُ لكتاب “بريساك” المعنون: “محارق أوشفيتز” الذي لا يُخَصِّص سوى فصلٍ واحد من 20 صفحة لغُرف الغاز، والذي لا يُشير إطلاقًا إلى تقرير “لوشتر” أن يوازنَ أو يعادلَ تحليلات لوشتر.
وطالما لم تُجْرَ بين خبراء مِن ذَوِي الكفاءات المتساوية مناقشة علمية وعَلَنية بشأْن المهندس “فرد لوشتر”، وبشأْن معاينة “كراكوفي” المضادَّة التي جرتْ في 1990 بناءً على طلبٍ من سلطات متحف “أوشفيتز”، وطالما أنَّ مجموع أوراق النِّقاش حول غرف الغاز لن يخضعَ لمناقشة حُرَّة، فإنَّ الشكَّ سيظل قائمًا، بل والرِّيبة!
وحتى هذه اللحظة، فإن الحُجج الوحيدة التي استُخْدمِت حيالَ الرافضين للتاريخ الرسمي، كانتْ هي الامتناع عن المناقشة والاغتيال، والرقابة والاضطهاد.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً