الاحاطه بأية فكره قانونية لكي تثمر عن فهم سليم لها ، لابد من سبر أغوارها لكشف كنهها وجذورها وكيف بلغت نضجها وما صيرها وطورها . وهكذا يلزم توضيح نشأة فكرة الغلط ومراحل تطورها ، ثم بيان تعريف الغلط وتحديد نطاقه وشروطه وجزاء وعلاقته ونظرياته ومجالاته .
اولا” – لمحة تاريخية عن تطور فكرة الغلط واستقرارها .
من الثابت أن القاعدة العامة للغلط قد وضعت في الأصل للتشريع المدني دون الجزائي ، على اعتبار أن المشرع الروماني في عهده الأول قصد عدم تأثير الغلط في العقود والأعمال القانونية التي كانت تجري ضمن اطار شكلي ترتدي فيه طابعا احتفاليا في الصيغة والعبارة بما لايعذر فيها أي خطأ أو التباس . ثم انتقلت هذه القاعدة ضمنا الى نطاق الشريعة الجزائية على سبيل القياس في النظام القانوني الواحد .
وقد أخذ علماء الفقه المدني الفرنسي فكرة الغلط وآثاره عن القوانين البريتورية المتطورة وكرسوها في مؤلفاتهم . ولم تلبث هذه النظرية ان توسعت في مفهومها خلال القرن التاسع عشر مستبقة بذلك موقع الغلط في الحقوق الجزائية . ثم حصل الانفصال في الغلط بصفته قاعدة جزائية عنه كقاعدة مدنية بفضل التشريعات المكتوبة التي نصت عليها والقرارات القضائية التي ابرزت فوارقها ، حتى استقرت في القانون الجزائي على ما هي عليه في الوقت الحاضر ، على الرغم من بعض العيوب والنواقص (1). وعلى هذا فقد مر التطور التأريخي لفكرة الغلط بعدة مراحل وعلى النحو الاتي :-
المرحلة الأولى – في القانون الروماني القديم . وكانت فيه الشكلية تسود التصرفات القانونية ، فالتصرف يعد تاما اذا استوفى الشكلية المطلوبة . فقد كان ينظر الى بعض الاجراءات التي كان القانون ينص عليها على أنها اداء طقوس أو ألفاظ معينة ، ولا ينظر الى الارادة ما اذا كانت معيبة ولا تعبر عن الحقيقة . فكانت آثار التصرف تستند الى ذلك الشكل لا الى ارادة الطرفين . وفي ظل نظام تسوده الشكليه هكذا ، لا يمكن أن نتصور أن يكون هناك مجال للأخذ بفكرة الغلط .وفي العصر العلمي وعصر الامبراطورية السفلى للقانون الروماني لم يختلف الأمر كثيرا” ، فقد ظلت تلك الشكلية سائدة فيه مع ظهور يسير للرضائية في بعض عقود البيع والايجار والشركة والوكالة . وكان البطلان المطلق لا النسبي هو الأثر القانوني للارادة المعيبة . بيد أن الفقهاء الرومان على الرغم من ذلك لم يتصوروا الغلط عيبا” في الارادة ، انما كانو ا يتصدون له في معرض تحديدهم لمضمون التصرف القانوني وتفسيره في مجال العقود الرضائية . وعليه لم تر النور فكرة عدم مشروعية الغلط في القانون الا في نهاية عصر الامبراطورية السفلى . ولما عرف القانون الروماني العقود الرضائية ، عرف معها فكرة الغلط ، لأن وجود الغلط كان يحول دون اتمام التراضي ، وقد قسم فقهاء الرومان الغلط تبعا للشيء الذي يتعلق به على ثلاثة أقسام : غلط في التعيين ، وغلط في المحل ، وغلط في المادة . وكان الغلط في التعيين أساسا لا يعتد به ، وكان الغلط في المحل يحول دون اتمام التراضي ، أما الغلط في المادة فكان الفقهاء القدامى يعدونه غلطا غير مهم ثم أمكن الاعتداد به في ظل توافر ظروف معينة (2).
المرحلة الثانية – في العصور الوسطى . ظهر في العصور الوسطى ازدواج في القانون الروماني ، تمثل في ظهور القانون المدني والقانون البريتوري معا . فكان البريتور بمساعدة الفقهاء الرومان يتدخل ليحدمن آثار التصرفات القانونية متى شاب الارادة عيب الغلط ونــــــــحوه تحت تأثير مبدأ العدالة (3). ولم تقر قاعدة (( عدم مشروعية الغلط في القانون )) الا في عصر الامبراطور جستنيان ، وذلك نتيجة اهتمام البريتور والفقهاء بمسألة عيوب الارادة الناشئة عن الوهم المفضي الى غلط ، حتى تقرر بطلان التصرف بطلانا مطلقا أو نسبيا استنادا الى الغلط بصفته عيبا” من عيوب الرضا . وصار بذلك عصر جستنيان عصرا حاسما لنظرية الغلط في ميدان القانون (4). وعرف الفقــــهاء في أواخر القرون الوسطى الغلط في نوع التصرف وفي محل التصرف وفي الشخص ، أما الغلط في المادة فقد كان التعامل معه على أنه غلط في المحل يمكن الاعتداد به . وكان لهذا التقسيم دور مهم في التقنينات القديمة (5).
المرحلة الثالثة -في القانون الطبيعي ( النظرية التقليدية ) . شهدت هذه المرحلة تطورا كبيرا في فكرة الغلط اذ أعطى فقهاء القانون الطبيعي في ألمانيا معنى خاصا لفكرة الغلط . ومع تطور فكرة الوعد ، ومن بعدها تطور فكرة التصرف القانوني ، صار ينظر الى الغلط بوصفه حالة عامة يمكن تطبيقها في جميع التصرفات . وهكذا نشأت فكرة أن الغلط اختلاف وتباين بين الارادة والاعلان عنها يجعل التصرف غير نافذ ، ومن ثم يلزم الطرف الذي وقع في الغلط بتعويض الطرف الآخر اذ ا كان الغلط قد حدث نتيجة خطأ من وقع فيه . وكان قد ظهر اتجاه آخر الى جانب هذا الاتجاه يدعو له بعض فقهاء القانون الطبيعي في جنوب شرق ألمانيا وفي النمسا ، يرفض الاعتداد بالغلط ويوجب اخذ من صدر عنه اعلان الادارة باعلانه مراعاة لمصــــــلحة الطرف الآخر (6). أما في فرنسا فقد كانت فكرة الغلط في هذه المرحلة متأثرة بالقانون الروماني ، وسادت في القانون الفرنسي القديم نظرية أطلق عليها اسم ( النظرية التقليدية في الغلط ) ، أخذ منها القانون المدني الفرنسي لعام ( 1804 م) نصوصه الخاصة بالغلط .
وتقسم هذه النظرية الغلط بحسب تأثيره في صحة العقد على أنواع ثلاثة :-
الأول – غلط يجعل العقد باطلا بطلانا مطلقا ( الغلط المانع ) . وهو غلط يعدم الرضا ويتحقق في صور ثلاثة :-
1-غلط في ما هية العقد ( طبيعة العقد ) . وهو غلط يعدم الرضا من أساسه فلا تقوم للعقد قائمة ، كما اذا اتجهت نية البائع الى بيع الشيء الموجود لديه ، في حين يعتقد الطرف الآخر أن اشتراط وجود الثمن ما هو الا صورة من أجل أخفاء نية البائع الذي يريد بذلك هبة مستترة (7).
2- غلط في وجود سبب الالتزام .كأن يتعهد الوارث بتسلم شيء موصى به الى الموصى له تنفيذا لوصية ، ثم يتضح أن الوصية ملغاة بوصية لاحقة .
3-غلط في ذات المحل . وفي هذا النوع من الغلط يرغب العاقد في شي يختلف عما يريده الآخر ، كما لو أجر شخص الى آخر شقة معينة واعتقد الآخر أنه يستأجر شقة أخرى . وظاهر أن هذا النوع من الغلط ( المانع ) يعدم الارادة ، لا يقتصر على اعابتها ، ذلك لعدم توافر الارادتين على عنصر من عناصر العقد الأساسية . فالتراضي اذا غير موجود أساسا والعقد باطل . وهذا ما يدعو الى استبعاد حالة الغلط المانع من حالات عيوب الرضا (8).
الثاني – غلط يجعل العقد باطلا بطلانا نسبيا . وهو غلط يفسد الرضا ولا يعدمه ، فالارادة موجودة الا أنها تكون معيبة . ويتحقق هذا النوع من الغلط في صورتين :-
1.غلط في مادة الشيء محل العقد ، أو في جوهر الشيء موضوع التعاقد . كمن يشتري خاتما يعتقد أنه من الذهب ، فاذا هو من فضة مطلاة بالذهب .
2.غلط في شخص المتعاقد اذا كانت شخصيتة محل اعتبار ، أو في صفة جوهرية فيه . كمن يتعاقد مع طبيب معين ليجري له عملية جراحية معتقدا أنه الجراح المشهور فلان ، فاذا هو طبيب آخر تشابه اسمه معه (9).
الثالث – غلط لا يؤثر في صحة العقد . وهو غلط لا يعدم الرضا ولا يفسده أو يعيبه . ويتحقق في ست صور :-
1.غلط في صفة غير جوهرية في الشيء محل العقد . كمن يشتري سيارة معتقدا أنها تبلغ سرعة معينة ، فيظهرأنها لا تبلغها .
2.غلط في شخص المتعاقد أو صفته اذا لم تكن شخصيته ذات اعتبار في العقد .كما اذا باع شخص دارا الى زيد ظنا أنه مهندس فتبين أنه طبيب وكان يستوي عنده أن يبيعها لأي شخص ما دام يدفع الثمن المطلوب .
3. غلط في قيمة الشيء محل الالتزام . وهو مجرد غلط في التقدير لم ينشأ في صفة من صفات الشيء الجوهرية فلا تفضي الى غبن فاحش . كما اذا باع شخص شيئا ثمينا كصورة زيتية بسعر زهيد لأنه يجهل قيمتها الحقيقية وندرتها ، أو اشترى شيئا بأكثر من قيمته معتقدا أنه يساوي القيمة التي اشرى بها . فان مثل هذا الغلط لا يؤثر في صحة العقد ولا يبطله ما لم يرافقه غلط في صفة جوهرية في الشيء .
4.غلط في الباعث على التعاقد . فهو غلط يسبق العقد ويتعلق بأمور شخصية ، مجهولة على الاغلب للمتعاقد الآخر ، لذا كان من الطبيعي أن لا يتأثر العقد بمثل هذا النـــوع من الغلط . كمن يشتري سيارة معتقدا أن سيارته قد تحطمت فيظهر انها سليمة (10).
والباعث هو الدافع غير المباشر الى التعاقد . ويكون جوهريا اذا بلغ حدا من الجسامة بحيث يمتنع المتعاقد عن التعاقد لو لم يقع في هذا الغلط . مثل الموظف الذي يستأجر شقة في مدينة ما متصورا انه نقل اليها ثم يكتشف خطأ تصوره . وكمن يظن أنه مريض مرض الموت فيبيع عقاراته بثمن بخس ثم يشفى من هذا المرض او يضهر ان المرض غير موجود فيه.
5.غلط في نقل الارادة . في هذه الحالة لا يتعلق الغلط بتكوين الارادة ، بل في نقلها ، وعندئذ لا يتم تطابق الارادتين ، ومن ثم لا ينعقد العقد . ومثالها قيام شخص بارسال برقية يحدد فيها ثمن السلعة التي يروم بيعها فيحصل تغيير في البرقية يعدل الثمن ، او كالرسول الذي لا يحسن التعبير عن ارادة من أرسله .
6.غلط في الحساب ( الغلط المادي ) . في هذه الحالة لا يقع الغلط في تكوين الارادة ، انما يقع بعد تكوين الارادة الصحيحة ، ولكن يقع الغلط في عملية الحساب وجرات القلم أو الطبع ونحوها ، وهو غلط مادي يمكن تصحيحه ولايؤثر في الارادة (11). فهو غلط في عمليات الطرح أو الجمع أو القسمة الحسابية ، أو غلط في نقل الارقام من سجل الى آخر أو من صفحة الى اخرى ، أو غلط في كتابة المقصود من العقد . فهو غلط غير جوهري لايؤثر في الرضا ولا يسوغ طلب ابطال العقد، انما يقتضي تصحيحه اعمالا لارادة الطرفين الحقيقية ومنعا” للظلم الذي قد يحيق بأحدهما لو تم التعامل معه على أساس ما مدون في السند الذي حصل فيه الغلط المادي . ويكون التصحيح بمقارنة الغلط مع باقي مفردات وحيثيات العقد ثم يصحح بمقتضاها . واذا تعذر ذلك جاز اثبات الغلط بالبينة . فهو (( غلط مادي )) يقع حال تحرير المحرر المثبت للتعاقد ، وليس هو (( غلطا” معنويا )) يقع حال تكوين الارادة المفسدة للرضا (12).
المرحلة الرابعة – آراء الفقيه سافيني و ((النظرية الحديثة )) . في هذه المرحلة دخلت نظرية الغلط في ألمانيا مرحلة تطور جديدة على يد الفقيه سافيني . فقد تأثرت النظرية باراء هذا الفقيه التي عرضها في الجزء الثالث من كتابه (( نظم القانون الروماني )) الذي صدر في برلين عام 1840 م . وكانت نقطة البداية في فقه سافيني أن الغلط هو عدم التطابق بين الارادة والاعلان عنها يحول دون صدور اعلان صحيح للارادة ، اذ يؤدي الى الاعلان عن ارادة لا تمثل ارادة التصرف الحقيقية ، فتكون واقعة الاعلان عن الارادة معيبة ، الأمر الذي يترتب عليه منطقيا بطلان اعلان الارادة نتيجة ذلك الغلط . وبناء على ما ورد في فقه سافيني وضع الفقيه ( زتلمان ) مؤلفه ( الغلط والتصرف القانوني ) الصادر عام 1879 . وقد كانت آراء سافيني وزتلمان في فكرة الغلط سائدة تماما في ألمانيا قبل وضع القانون المدني الألماني عام 1896م فتاثر واضعوه بتلك الأفكار فتضمنها (13). أما في فرنسا فقد تطورت نظرية الغلط عما هي عليه في نصوص القانون المدني ، وحصل التطور على يد القضاء الفرنسي الذي لم يقتنع بما انتهت اليه النظرية التقليدية في تطورها ، فأطلق ( النظرية الحديثة في الغلط ) لأنه أراد أن يقيم معيارا مرنا يؤخذ به في جميع الحالات ، لا فــرق في ذلك بين أن يقع الغلط في مادة الشيء أو شخصية متعاقد أو في القيمة او في الباعث ، فيجب النظر في جميع الحالات الى ما هو جوهري في نظر المتعاقد وتقديره بصرف النظر عن موضوع الغلط ،وذلك بأن يكون الغلط هو الدافع الرئيس الى التعاقد (( أي المعيار أو الغرض الذاتي للمتعاقد ))، فأيا كان الأمر الذي يهتم به المتعاقد ويتعاقد من أجله فأن الغلط فيه قد يكون غلطا جوهريا يعيب الارادة . وبهذا يصبح المعيار ذاتيا شخصيا يطبق في جميع الحالات (14).
فالنظرية الحديثة لا تأخذ بالتقسيم الثلاثي للغلط ، اذ تستغني عن النوع الأول ،وهو الغلط المانع الذي يمنع انعقاد العقد ، على أساس ان العقد فيه لايبطل بطلانا مطلقا بسبب الغلط انما بسبب عدم اتفاق ارادة المتعاقدين أساسا. كما ان النظرية الحديثة تهدم من جهة أخرى الحاجز بين النوعين الآخرين من الغلط الذي تقول بهما النظرية التقليدية ، وهما الغلط الذي يبطل العقد بطلانا نسبيا ، والغلط الذي لايؤثر في صحة العقد (15). وقد أخذ القانون المدني العراقي بالنظرية الحديثة في الغلط موفقا بينها وبين الفقه الاسلامي ، فقد نصت المادة (118 ) مدني عراقي على انه :- (( لاعبرة بالظن البين خـــطؤه ، فــــلا ينفذ العقد : 1.اذا وقع غلط في صفة للشىء تكون جوهرية في نظر المتعاقدين أو يجب اعتبارها كذلك للظروف التي تم فيها العقد ولما ينبغي في التعامل من حسن نية 2. اذا وقع غلط في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته وكانت تلك الذات أو هذه الصفة السبب الوحيد أو السبب الرئيس في التعاقد 3. اذا وقع غلط في أمور تبيح نزاهة المعاملات للمتعاقد الذي تمسك بالغلط أن يعتبرها عناصر ضرورية للتعاقد )) . واشترطت المادة (119 ) مدني عراقي في الغلط المفسد للرضا أن يكون مشتركا ، فلا يجوز للمتعاقد الذي وقع في غلط ان يتمسك به الا اذا كان المتعاقد الاخر قد وقع في الغلط نفسه أو كان على علم به أو كان من السهل عليه أن يتبين وجوده . وهذا تأكيد على الأخذ بالنظرية الحديثة في الغلط (16).
ثانيا – معنى الغلط في التشريع المدني و تمييزه من الغلط في التشريع الجنائي :
1- معنى الغلط في التشريع المدني :
الغلط ،هو اعتقاد خاطئ يقوم في ذهن الشخص فيوهمه ويحمله على تصور غير الواقع تصورا كاذبا يدفعه الى التعاقد وابرام تصرف قانوني ما كان ليحصل لو تبين حقيقة الأمر (17). فالغلط اذا هو توهم يتصور فيه العاقد غير الواقع واقعا ، فيحمله على ابرام عقد لولا هذا التوهم ما اقدم على ابرامه (18) ، فهو وهم يقوم في ذهن الشخص فيصور له الأمر على غير حقيقته ويكون هو الدافع الى التعاقد . والتوهم أو الوهم هو تصور كاذب يؤدي بالشخص الى ابرام تصرف ما كان ليبرمه لو تبين حقيقة هذا الواقع ، فهو يصيب الارادة عند أبرام التصرف فيوجهها وجهة لا تتفق مع الواقع الذي تمثل في ذهن العاقد على غير حقيقته ، كأن يشتري شخص تمثالا يعتقد أنه أثري وهو ليس كذلك (19). وقيل أن الغلط هو (( قصور الغرض المباشر من التعهد عن اجابة الحافز أي الباعث الدافع الى التعاقد )) . وهو عند الفقيه الفرنسي سالي :- (( عدم توافق الارادة الحقيقية أي الباطنة مع الارادة المعبر عنها أي الظاهرة )) (20). والغلط على ما تقدم ، عيب من عيوب الارادة يتعلق بتوهمها . وهو وصف نفسي لا يتفق مع ما عنته ، فيجعلها تتوهم غير الواقع فتنصرف عن تحصيله . وهذا الوهم اما أن يقوم في ذهن المتعاقد من تلقاء نفسه فيصور له الأمر على غير حقيقته فيدفعه الى التعاقد ، وهذا هو (( الغلط التلقائي )) . واما أن يقوم الوهم في نفس المتعاقد نتيجة تعرضه لغش وتدليس ( أي تغليط ) المتعاقد الآخر أو الغير الذي يستخدم وسائل احتيالية ليوقع المتعاقد في الغلط ويحمله على التعاقد ، وهذا هو التدليس أو التغرير على وفق تسمية الفقهاء المسلمون الذين يعدون التغرير ايهاما مستثارا من الغير (21). وهذا أمر تحدثت عنه أيضا المادة (456) من ق .ع العراقي والخاصة بالاحتيال . والارادة بتوهمها غير الواقع تصير ضالة بلا شك ، كونها لا تحيط بجميع العوامل المؤثرة في صوغ قرارها احاطة صحيحة ، فهذه الارادة بنيت على وقائع زائفة ، ولذا قرر القانون عدم صلاحيتها لترتيب الآثار التي قصدتها (22). وهكذا فالإرادة خليط من جملة بواعث ودوافع ، متى امتزج بها اعتقاد خاطئ ذاتي نتيجة غلط ، أو اعتقاد خاطئ خارجي نتيجة تدليس أو تغليط في وجود أمر معين أو عدمه فان الارادة تكون مظللة . اذ لولا هذه البواعث التي انطوت على غلط أو تغليط ( تدليس ) لكانت تلك الارادة قد اتجهت وجهة أخرى واتخذت صورة أخرى .وهذا تماما هو الأمر الذي يسوغ حماية القانون للمتعاقد الذي وقع في غلط أو كان ضحية تغليط ، ويسوغ في النهاية اعطاء الحق للمتعاقد في ابطال تصرفه بتوافر شروط معينة (23). والحقيقة أن الغلط حالة تتعلق بالنفس ترد على (( العلم )) أولا فيتأثر بها ، حتى يسيء الشخص فهم الحقيقة فيتوهم. خلافها ، فتتأثر الارادة تبعا لذلك العلم المزيف ، فتتجه وجهة زائفة لا تعبر عن الحقيقة ، فيتصرف الشخص تصرفا خاطئا مشوبا بالغلط او التغليط .
2. تمييز الغلط في التشريع المدني عنه في التشريع الجنائي :
يبدو أن غاية المشرع الجزائي جاءت متوافقة ومنسجمة مع روح المشرع المدني في جعل الغلط مانعا من موانع الاسناد المعنوي . كما أن واقع الحال يدل على أن القانون الجزائي استعار من التشريع المدني بعض الأحكام الأساسية ، لا سيما في مجال الغلط في الوقائع . كالغلط في الشخص ، والغلط في عناصر الجريمة ، ومن حيث قياس موقف الفاعل عند الغلط على موقف الرجل الاعتيادي في الظروف المماثلة والمشابهة . ولعل من أهم مظاهر الالتقاء هذا نجدها في نطاق التفرقة بين الغلط الجوهري وبين الغلط غير الجوهري ،وفي اعتماد المعيار بحسب أهمية الواقعة التي ينصب عليها ، فان كانت من تلك الوقائع التي يشترط القانون الجزائي العلم بها لتحقق القصد الجنائي ، فالغلط يعد جوهريا . أما اذا كانت من الوقائع الأخرى بعكس ما تقدم ، فيعد هذا الغلط غير جوهري ، على أن الأول يزيل الاسناد المعنوي في حين لا يترتب هذا الأثر في الثاني .وعلى الرغم من نقاط الالتقاء المذكورة ، يختلف المفهوم الحقيقي للغلط في القانون الجزائي عنه في القانون المدني ، على اعتبار أنه عيب من عيوب الارادة في العقود الرضائية ، على حين انه عيب من عيوب العلم في القصد الجنائي . كما انه سبب قانوني يحق بموجبه لطرفي العقد أن يتذرعا به لالغاء العقد أو ابطاله ، اما في الجزاء فهو يقتصر على شخص فاعل الجريمة وحده دون المجني عليه ، فضلا” عن كون افعال الجاني تبقى مطلقة ولا مجال فيها للقول بنسبية البطلان وبإمكانية التأييد كما هو الحال في التشريع المدني . كما يتميز العقد المدني الذي يمثل موضوع الغلط من الجرم الجزائي في حالة توافر هذا الغلط . اذ الأصل في العقود أنه يعد عملا قانونيا مباحا، انما يظهر الى حيز الوجود تحت تأثير خطأ معين يقع فيه أحد طرفي العقد عند تقدير واقعته الأساسية ، وكان من شأن هذا الخطأ أن أعطى العقد كيانه، اذ لولاه لما حصل ، فيكون من الطبيعي أن يزول هذا العقد في حال تحقق الغلط ، أو يبقى في حال عدم توافر عيب الغلط الذي وقع عليه على حين أن الجريمة في الأصل عمل غير مشروع ولا مباح ، لا يجوز لمرتكبها أن يتملص من المسؤولية والعقوبة بادعائه الجهل بالقانون ، لأن الغلط الذي وقع فيه الفاعل ليس في الاصل هو السبب الدافع لاقتراف الفعل الجرمي ، وانما هو وضع عارض طارىء أصاب الفاعل الذي كان مثابرا على التنفيذ بصرف النظر عن هذا الغلط (24).
ثالثا : – شروط التمسك بالغلط :
يشترط في الغلط بصفته عيبا من عيوب الارادة ثلاثة شروط ليتسنى للعاقد التمسك به وهي :-
1-أن يكون الغلط جوهريا دافعا الى التعاقد . يكون الغلط جوهريا اذا بلغ حدا من الجسامة يمتنع معه المتعاقد عن التعاقد لو انه لم يقع في هذا الغلط . فالغلط الجوهري هو الغلط الذي يؤثر في ارادة الشخص نفسه بحيث يدفعه الى التعاقد ، سواء انصب على مادة الشيء أم صفة جوهرية فيه ، أو على شخص المتعاقد ، أم على قيمة الشىء ، أم على الباعث على التعاقد .
2.أن يكون الغلط مغتفرا . بمعنى لايجوز للمتعاقد أن يتمسك بغلطة نتيجة خفة أو رعونة أو جهل فاضح أو غلط منه ،كما لو كان الغلط ناجما عن عدم قراءة نصوص العقد دون عذر أو مانع، أو كما لو كان ناتجا عن عدم معاينته للعين المعينة أو الشيء المحدد في العقد . اذ يرجع الغلط هنا الى المتعاقد الذي وقع فيه ولم يكن الطرف الآخر يعلم به ، الأمر الذي يلزم معه عدم مفاجأته بطلب ابطال العقد . كمن يشتري قطعة من النحاس الخالص وهو يعتقد أنها من الذهب الخالص . فهنا وقع المشتري في غلط فاضح لا يمكن لشخص اعتيادي ان يقع فيه لان هناك فرقا شاسعا ما بين الذهب والنحاس ، فلا يجوز أن يتمسك بغلطه .
3. علم المتعاقد الآخر بالغلط . يشترط القانون لامكان المطالبة والتمسك بابطال العقد بسبب الغلط أن يكون المتعاقد الآخر قد وقع في الغلط أو كان على علم به ، لو كان من السهل عليه أن يكتشفه ، وذلك حتى لايضار المتعاقد الآخر أو يفاجأ من طلب ابطال العقد ، علاوة على الحفاظ على استقرار المعاملات وعدم زعزعة الثقة بها (25).
______________
1– القاضي فريد الزغبي – الموسوعة الجزائية – المجلد الثالث في الحقوق الجزائية العامة ( الضابط المعنوي والفعل الجرمي) – ط 3 – دار صادر للطباعة والنشر / بيروت – 1995 – ص 337 .
2- د. محمد جابر الدوري – عيوب الرضا ومدلولاتها الفلسفية في التشريعات المدنية – مطبعة الشعب – بغداد/ -1988 ص 21. وينظر : د. عبد المجيد محمد الحفناوي – نظرية الغلط في القانون الروماني – منشأة المعارف / الاسكندرية – 1974 – ص 382 . وينظر : د. حسين عطا حسين سالم –نظرية الغلط في القانون والشريعة الاسلامية-ط1-دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع –لبنان/بيروت-1986.– ص 21 وما بعدها . وينظر : د. محمد يحيي المحاسنة-الغلط في الباعث في القانون المدني الأردني-بحث منشور في مجلة العلوم القانونية-تصدرها كلية القانون في جامعة بغداد-المجلد/14-العددان/1،2-1999.
– ص 172 .
3- د. حسين عطا حسين سالم – المصدر السابق – ص 22 وما بعده .
4– د. محمد جابر الدوري-عيوب الرضا ومدلولاتها الفلسفية في التشريعات المدنية-مطبعة الشعب-بغداد-1988.– ص 22 .
5 – د. محمد يحيى المحاسنة – المصدر السابق – ص 169
6 – د. عبد الودود يحيى – نظرية الغلط في القانون المدني الالماني – مطبعة جامعة القاهرة – بلا طبعة ولاتاريخ – ص 5-6
7-Alex weill et ftancois terre – Droit civil – 4 em edition – Dalloz – p. 168 . Andnd : –
J-mitrgeaud – l erreur de iacheteur – revue trimestre de droit civil – 1982 – p . 55
Aubert – Droit civil – paris – 1982 – No . 199 – p . 193 8- Flour et
وينظر د. عبد العزيز اللصاصمة – نظرية الغلط باعتباره عيبا في الارادة في القانون المدني الأردني الحديث-بحث منشور في مجلة العلوم القانونية-تصدرها كلية القانون في جامعة بغداد-المجلد/14-العددان/1،2-1999– ص 269.
9- د . محمد الدوري – المصدر السابق – ص 39. وينظر : د. حسين عطا حسين – المصدر السابق – ص 85- 95
10- د. عبد العزيز اللصاصمة – المصدر السابق – ص 273 . وينظر: د . محمد جابر الدوري – المصدر السابق – ص 23 – 34 .
11- د. محمد عبد الله الدليمي – النظرية العامة للالتزام – القسم الأول / مصادر الالتزام – الناشر الجامعة المفتوحة / طرابلس – 1998 – ص 84 وص 86 .
12– المستشار أ نور طلبة – الوسيط في القانون المدني – ج / 1 – المكتب الجامعي الحديث / الاسكندرية – 2001 – ص 349. وينظر : د. حسين عطا حسين – المصدر السابق – ص 82 .
وينظر نص المادة / 120 من القانون المدني العراقي :- (( لا يؤثر في نفاذ العقد مجرد الغلط في الحسا ب ولا الغلط المادي وانما يجب تصحيح هذا الغلط )) . وعلى ذات النسق سارت النصوص التالية :- المادة (123 ) مدني مصري ، والمادة (124 ) مدني سوري ، والمادة (207 ) مدني لبناني ، والمادة (123 ) مدني ليبي .
13– د. عبد الودود يحيى-نظرية الغلط في القانون المدني الألماني-مطبعة جامعة القاهرة-الطبعة والتاريخ بلا.ص 6 وما بعدها
14- د.عبد المنعم فرج الصدة – محاضرات في القانون المدني – نظرية العقد في قوانين البلاد العربية – الن بلا –1985 ص 168 وما بعدها . وينظر : د. محمد جابر الدوري – المصدر السابق – ص 40 وما بعدها .
15– د. عبد المجيد الحكيم – الوجيز في شرح القانون المدني العراقي – ج /1 مصادر الالتزام – 1960-ص131 .
16 – لقد أخذ المشرع في القوانين المدنية بالمعيار الذاتي الذي يقترن بضوابط موضوعية وعلى وفق ما تقول به النظرية الحديثة في الغلط ، وقد جاءت نصوص القوانين الجديدة صريحة في هذا المعنى ، كالمواد (121،122) مدني سوري (120،121) مدني ليبي، و(120،121)مدني مصري ، أما المواد(204،205)مدني لبناني فانها على الرغم من تأثرها بالنظرية التقليدية بالغلط فان جانبا من الفقه هناك يرى وجوب تطبيق معيار الغلط الجوهري ( أي الغلط في الباعث ) . كما حاول كل من المشرع التونسي والمغربي الاقتراب من النظرية الحديثة في الغلط عندما اشترط أن يكون الغلط دافعا الى التعاقد . ينظر ذلك في مصدر : د .عبد الناصر توفيق العطار – نظرية الالتزام في الشريعة الاسلامية والتشريعات العربية – مطبعة السعادة – ط/ 1975 – ص 142 – وينظر كذلك : المستشار أنور طلبة-الوسيط في القانون المدني-ج/1-المكتب الجامعي الحديث-الأسكندرية-2001– ص121 .
17- د. عبد المجيد الحكيم و د. عبد الباقي البكري و د. محمد طه البشير – الوجيز في نظرية الالتزام في القانون المدني العراقي –ج / 1 مصادر الالتزام – مطابع مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر في جامعة الموصل / العراق –1980 – ص 80. وينظر: د . حسين عطا حسين – المصدر السابق –ص 18.
18– الاستاذ مصطفى الزرقاء –المصدر السابق –ص 390.
19– د . عبد المنعم فرج الصدة – مصادر الالتزام – دراسة في القانون اللبناني والقانون المصري – دار النهضة العربية – ط 1974 – ص 216.
20– المحامي عبد القادر اللامي – معجم المصطلحات القانونية – ط 1 – شركة آب للطباعة المحدودة / بغداد- 1990 – ص 105.
21- د . محمد جابر الدوري – المصدر السابق – ص 19 .
22–المصدر السابق – ص 20 .
23– د عبد الحي حجازي – موجز النظرية العامة للالتزام –ج /1 مصادر الالتزام –المطبعة العالمية في القاهرة –1955 – ص 304 .
24- القاضي فريد الزغبي-الموسوعة الجزائية-المجلد الثالث/في الحقوق الجزائية العامة(الضابط المعنوي والفعل الجرمي)-ط3-دار صادر للطباعة والنشر-بيروت-1995 – ص 338 وما بعدها .
25- د محمد عبد الله الدليمي-النظرية العامة للالتزام-القسم الأول/مصادر الالتزام-الناشر الجامعة المفتوحة-طرابلس-1998 –ص 84-87 . وينظر : د . حسين عطا حسين سالم – المصدر السابق – ص 35-40 .
المؤلف : مجيد خضر احمد عبد الله
الكتاب أو المصدر : نظرية الغلط في قانون العقوبات
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً