مقال حول الشرط الجزائي في أحكام الشريعة الاسلامية .
أولاً- في فقه أهل السُنة والجماعة:
ورد في الأثر، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… المسلمون على شروطهم، إلا شرط حرم حلالاً أو أحل حراماً”. (رواه الترمذي).([1])
فدل هذا الحديث على صحة جميع الشروط التي يبرمها المتعاقدون، ولا يُستثنى منها إلا ما حرم حلالاً، أو أحل حراماً.([2])
وقد روى “البخاري” في صحيحه، في باب ما يجوز من الاشتراط وما لا يجوز، عن محمد بن سيرين أنه قال: “قال رجل لكريه (لناقله) رحل ركابك (أي شد على دوابك استعداداً للسفر)، فإن لم أرحل معك في يوم كذا وكذا، فلك مائتا درهم؛ فلم يخرج، فقال “شريح” القاضي: من شرط على نفسه طائعاً غير مُكره، فهو عليه”.
فهذا التابعي الجليل يحكم في هذه المسألة، وهي صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية، بالصحة ووجوب النفاذ، فهي واضحة الدلالة على أنه إذا التزم أحد طرفي العقد عند التعاقد أن يدفع للطرف الآخر مقداراً مُعيناً من المال إن لم يقم بتنفيذ العقد، وكان صادراً عن رضاء واختيار، فإن التزامه يكون صحيحاً ويجب العمل بمُقتضاه.([3])
فالأصل في الشروط الصحة وأنه لا يُحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً أو قياساً.
وفي هذا الصدد يقول ابن القيم: “هاهنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بُعِثَ بها رسوله:
أحدهما: أن كل شرك خالف حكم الله، وناقض كتابه فهو باطل كائناً ما كان.
والثانية: أن كل شرط لا يُخالف حكم الله، ولا يُناقض كتابه، وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط، فهو لازم للشرط.
ولا يُستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الصحابة” (انتهى).
فإذا كان الشرط الجزائي يحفظ لصاحب الحق حقه، ولا يُحل حراماً، ولا يُحرم حلالاً، فهو بذلك من الصنف الثاني. ويبقى الحال معه كقول عائشة رضي الله عنها عندما سُئِلَت عن “الشعر”، فقالت: “هو كلام، حلاله حلال، وحرامه حرام”.([4])
وقد طلبت الحكومة السعودية من هيئة كبار العلماء الفتوى الشرعية بشأن جواز النص على الشرط الجزائي من عدمه، وقد أصدرت هيئة كبار العلماء فتواها في دورتها الخامسة المُنعقدة في الفترة من 5 : 22 من شهر شعبان عام 1394 هجرية بمدينة الطائف، وقد جاء فيها: “… في القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله. وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقاً لقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”، لذلك فإن المجلس يُقرر بالإجماع أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح مُعتبر يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يُعتد به شرعاً، فيكون العذر مُسقطاً لوجوبه حتى يزول. وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يُراد به التهديد المالي، ويكون بعيداً عن مُقتضى القواعد الشرعية، فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف، على حسب ما فات من منفعة أو لحق من مضرة، ويُرجع في تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملاً بقوله تعالى: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”، وقوله سبحانه: “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى”، وبقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضِرار”. (انتهى).([5])
وتحريم الشرط (شرعاً) إذا كان مُفضياً إلى الربا:
إلا أن الشرط الجزائي يُحرم شرعاً إذا كان مُفضياً إلى الربا، وذلك بأن يكون محل الالتزام الأصلي مبلغاً من المال، والتزم المدين بأن يدفع للدائن مقداراً مُعيناً من المال إذا تأخر عن الوفاء بالدين أو الالتزام الأصلي في الوقت المُحدد للوفاء، وهو ما يُسمى في القانون الوضعي بـ “فائدة التأخير”، فإن هذا الشرط الجزائي لا يكون صحيحاً ولا يجوز العمل بمُوجبه (شرعاً) لأن هذه الفائدة أو التعويض الاتفاقي تكون “ربا”، والشريعة الإسلامية لا تجيزه ولا تقره بحال.([6])
فإذا كانت المماطلة في السداد من جانب المدين القادر محرمة شرعاً، لما ورد في الأثر من أن: “مطل الواجد ظلم”؛ إلا أن فرض غرامات على المدين المتأخر في السداد هي ربا محرم شرعاً، فيحرم فرض غرامات تأخير على من يتأخر في السداد، لأنها رباً مُحرم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء”. (رواه مسلم).
ثانياً- في فقه الشيعة:
عرف فقه الشيعة الإمامية الشرط الجزائي في عقد الإجارة، فقد جاء في كتاب “من لا يحضره الفقيه” من كتب الشيعة الإمامية ما يلي:
روى منصور بن يونس عن محمد الحلبي قال: “كنتُ قاعداً إلى قاض وعنده أبو جعفر (الإمام “الباقر” عليه السلام) جالس، فجاءه رجلان فقال أحدهما: إني تكاريت (استأجرت ناقل) إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن (المدن)، فاشترطتُ عليه أن يُدخلني المعدن (المدينة) يوم كذا وكذا لأنها سوق أخاف أن يفوتني، فان احتبستُ عن ذلك حططت من الكراء (أجرة النقل) لكل يوم احتبستُه كذا وكذا، وأنه حبسني عن ذلك اليوم كذا وكذا يوماً؟ فقال القاضي: هذا شرط فاسد، وفّهِ كراه (وفيه الأجرة كاملة)”. فلما قام الرجل أقبل إلى أبو جعفر (عليه السلام) فقال: شرطه هذا جائز ما لم يُحِط بجميع كراه (أجرته)”.([7])
فلم تكن خصوصية لعقد الإجارة في صحة الشرط الجزائي، فيكون الشرط الجزائي صحيحاً في جميع العقود إن لم يكن هناك نهي عنه، هذا بالإضافة إلى الحديث الصحيح: “المسلمون عند شروطهم” فإذا اشترط المشتري لبضاعة أنّ أيّ تأخير يحصل في تسليم البضاعة يستوجب نقصان قيمة (ثمن) البضاعة بمقدار 10% من الثمن الأصلي، أو أن البضاعة إذا تأخّرت شهراً عن الأجل المُحدد نقصت قيمة (ثمن) البضاعة 10% من الثمن الأصلي، فان تأخرت شهرين نقصت 20%، فان هذا الشرط يكون صحيحاً ونافذاً حسب قاعدة “المؤمنون عند شروطهم” وما لم يُحط بجميع السعر (الثمن) حسب “ما لم يحط بجميع كراه” أي بحيث لا يكون مُؤداه اشتريت البضاعة بلا ثمن.
أما إذا اشترط أنه إذا تأخر عن تسليم البضاعة في الوقت المحدد فينقص الثمن (ولم يُحدد النقصان) ففي هذه الصورة تبطل المُعاملة لجهالة الثمن على تقدير التأخير.
وعلى التحقيق فإننا نستثني من صحة الشرط الجزائي في البيوع ما إذا كان الثمن نسيئة أو الثمن مُؤجلاً (كلياً في الذمة) لما ثبت من أن بيع النسيئة الذي يكون الثمن في ذمة المشتري لا يجوز فيه تأجيل الثمن وتأخيره في مقابل المال لأنه داخل في الربا.([8])
الخلاصة الشرعية:
يجوز شرعاً أن يكون الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها ديناً (مبلغاً من النقود)، فإن هذا من الربا الصريح، وبناء على هذا لا يجوز الشرط الجزائي مثلاً في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المُتبقية سواء كان بسبب الإعسار، أو المُماطلة.
مع التنبيه على عدة أمور:
الشرط الجزائي، كسائر الشروط التي يجوز إسقاطها مجانا أو بعوض؛ لأنه حق للشارط، فله أن يرفع يده عنه.
يثبت الشرط الجزائي في ذمة المشروط عليه بمُجرد تخلفه عن الوفاء بما تعهد به، ويجوز للشارط إجباره على أدائه عند الامتناع، ويثبت له الخيار في الفسخ إذا أمتنع عن الأداء. والظاهر أن خياره غير مشروط بتعذر إجباره، بل له الخيار عند مُخالفته وامتناعه حتى مع التمكن من الإجبار.
لا فرق في ثبوت الشرط الجزائي، عند عدم قيام المتعهد بإجراء ما تعهد به، بين إخلاله بأصل النفع المُستهدف للشارط وبين تأخيره في ذلك؛ فلو اشترطت امرأة على رجل في ضمن عقد لازم أن يتزوج بها في زمان معين وإلا كان عليه كذا من المبلغ، فسواء لم يتزوج المشروط عليه بها أصلا أو تأخر في الزواج بها عن الزمان المعين، فإنه على كلا التقديرين يثبت عليه الجزاء المُتفق عليه؛ لان المتعهد به لم يكن مجرد الزواج، بل كان هو الزواج في زمان مُعين وقد تخلف عنه، فيثبت عليه الجزاء المقرر.
ومن أشترى شيئا ودفع بعض ثمنه وأستأجل (طلب أجلاً) لدفع الباقي، لأجل معين، فاشترط البائع عليه أنه إن لم يدفع الباقي عند حلول الأجل، يكون المعجل ملكاً للبائع، فقبل ذلك، صح الشرط وترتب عليه أثره عند الحنابلة. ويصير مُعجل الثمن ملكاً للبائع إن لم يقم المشترى بدفع الباقي في أجله المحدد.
والظاهر أنه يجوز أخذ الضمان أو الرهن أو الكفالة لتوثيق موجب الشرط الجزائي؛ لأنه حق مالي يثبت في ذمة المشروط عليه عند عدم قيامه بما تعهد به، فيجوز أخذ الوثيقة عليه بأحد الأنحاء المذكورة.
وبعض الفقهاء لا يشترطون وقوع الضرر لتحقق الشرط الجزائي؛ لأنه بمُجرد تخلف المشروط عليه عما تعهد به يثبت على عهدته الجزاء وإن لم يحصل ضرر للشارط أو كان ضرره أقل من مقدار الجزاء المُتفق عليه. ويقولون أنه إذا كان الشرط الجزائي مُطلقاً غير مُقيد بترتيب خاص، فالظاهر ثبوت الجزاء في ذمة المتعهد بمجرد عدم قيامه بما تعهد به، سواء كان عدم إجراء التعهد باختيار أو ناشئاً عن سبب اضطراري؛ مثل الحرب والثورة والإضراب والحريق والمرض ونحوها. لأن الشرط في الفقه الإسلامي يكون نافذاً على المشروط عليه ما لم يُخالف الكتاب والسنة، ومعنى ذلك: أن الشرط يجب على المُشترط عليه تنفيذه سواء كان تعويضاً عن ضرر مُقدر سابقاً سببه المُشترط عليه، أو كان تعويضاً عن ضرر بسبب غير المُشترط عليه – أجنبياً كان أو سماوياً – أو لم يكن هناك ضرر أصلا من عدم التزام المُشترط عليه، فالشرط إذا لم يُخالف كتاب الله وسنة رسوله وقد قبله المُشترط عليه باختياره ولم يكن سفيهاً، يجب عليه العمل به حسب الحديث النبوي الصحيح: “المسلمون عند شروطهم”، وحسب آية “أوفوا بالعقود” والشرط جزء من العقد.([9])
إلا أن مجمع الفقه الإسلامي اشترط – في دورته الثانية عشر والمُتعلقة بالشرط الجزائي – اشترط لاستحقاق التعويض الاتفاقي (الشرط الجزائي) وقوع الضرر، والضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لَحِق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي. ولا يُعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شُرِط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسببٍ خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.([10])
وكذلك اشترط عدد من الفقهاء ألا يتجاوز مقدار التعويض عن الضرر المالي قيمة الصفقة الإجمالية, لئلا يجتمع للمشتري الثمن والمثمن، فيفضي إلى الربح بدون مقابل. كما أنه من المقرر عند الفقهاء أن ضمان المتلفات يكون بالمثل أو بالقيمة، فإذا تأخر البائع في تسليم المبيع فإنه على أسوأ الأحوال يكون كما لو أتلف المبيع، فليس عليه حينئذ سوى المثل أو القيمة. فلا يجوز اشتراط تعويض مالي يزيد عن قيمة الصفقة.([11])
وفي حالة البيع بالتقسيط..
إذا تأخر المُشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه بأي زيادة على الدين الأصلي، سواء بشرط سابق، أو بدون شرط، لأن ذلك ربا مُحرم.
كما يحرُم على المدين المليء أن يُماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعًا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
ولكن يجوز شرعاً أن يشترط البائع لأجل (البائع بالتقسيط)، حلول جميع الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها، مادام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
ولا يحق للبائع الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.[12]))،
وقد قضت محكمة النقض المصرية في ظل القانون الوضعي بأن: “الاتفاق على سداد الثمن على قسطين، وعلى أنه إذا تأخر المشترون في الوفاء بأي قسط أو جزء منه التزموا بأداء نصف أجرة الأطيان المبيعة دون تنبيه أو إنذار، فإن هذا الشرط الجزائي يكون في حقيقته اتفاقاً على فوائد عن التأخر في الوفاء بالتزام محله مبلغ من النقود يخضع لحكم المادة 227 من القانون المدني، فلا يجوز أن يزيد سعر الفائدة المتفق عليها عن سبعة في المائة، وإلا وجب تخفيضها إلى هذا الحد”.([13])
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً