بعيداً كل البعد عن الأزمة الحالية بين نقابة الصحافيين ووزارة الداخلية، ودون الاقتراب منها من قريب أو بعيد؛ التزاماً واحتراماً للبيان الصادر من مكتب النائب العام في القضية رقم 4016 لسنة 2016م إداري قسم ثان شبرا الخيمة، بحظر النشر في هذه القضية لحين انتهاء التحقيقات فيها. فأنني سأتناول جرائم النشر وحرية الصحافة من الناحية القانونية المحضة موضحة موقف قانون العقوبات وقانون الصحافة منها.
فمما لاشك فيه أنه لا يوجد ثمة تعارض في القول بأن الصحافة حرة مع القول بأن الصحافة مسئولة . فهذه المسئولية لا تتعلق بحرية الصحافة، وإنما تتعلق بالتجاوز في استعمال هذه الحرية. ومن ثم فأن التجاوز هو محور المساءلة وليست حرية الصحافة. ويتفرع عن ذلك أن تقرير المسئولية الجنائية في مجال النشر لا يتعارض مع مضمون أو نطاق حرية الصحافة؛ بل أنه يمكن القول بأن هذه المسئولية تمثل ضماناً للحريات الفردية . وفي هذا المعني جاء رد الحكومة الفرنسية علي الأسئلة الموجهة إليها من الأمم المتحدة حول حرية الصحافة والإعلام عام 1948 م بأن ” المسئولية ليست فقط الوجه المقابل للحرية ، بل هي الضمان الذي يدعمها ، وحينما تتقرر المسئولية علي وجه تام ، فإن الحرية تتأكد بصفة فعلية ” .
و تعتبر حرية التعبير من المبادئ الدستورية التي حرصت كثير من دساتير الدول الديمقراطية علي تأكيدها . وقد أكد الدستور المصري علي ذلك بالنص علي أن حرية الرأي مكفولة ، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون ، وأن النقد الذاتي و النقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني .
كما نص الدستور المصري كذلك علي أن ” حرية الصحافة والطبع و النشر و وسائل الإعلام مكفولة ، والرقابة علي الصحف محظورة و إنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور” .
وتعتبر حرية الإعلام صورة من صور حرية التعبير . وقد أدت تلك الحرية إلي انتشار الأنباء بسهولة ويسر إلي الملايين في كل بقاع الأرض . وقد ساعد التطور التكنولوجي لوسائل الإعلام مثل الإذاعة والتلفزيون و الإنترنت إلي سهولة نشر المعلومات بطريقه فعالة في لحظات. فلا يقتصر النشر فيها على ذكر الأنباء فقط بل يمتد إلي التعليق وإبداء الرأي.
وتلعب الصحافة دوراً هاماً مما لا خلاف فيه ، لذ فإن حرية المعلومات وحرية الرأي يكفل الدستور حمايتها وذلك في المواد 47 و 48 . وقد تأكدت هذه الحرية بالمادة 7 من قانون تنظيم الصحافة الصادر سنة 1996م التي نصت علي انه ” لا يجوز أن تكون المعلومات الصحيحة التي ينشرها الصحفي سبباً للمساس بأمنه ” ، و وفقاً للمادة 9 من ذات القانون أن ” للصحفي حق الحصول علي المعلومات و الإحصاءات و الأخبار المباح نشرها طبقاً للقانون من مصادرها ؛ كما نصت المادة 9 علي انه ” يحظر فرض أي قيود تعوق تدفق المعلومات ” . وأمام عمومية عبارات هذه النصوص ، يثور البحث عما إذا كان حق النشر يعطي لصاحبه حصانه تسمح له بنشر وقائع تتضمن قذفاً اتجاه الأفراد العاديين .
وما يهمنا في هذا السياق ينصب علي تجاوز حرية التعبير و النشر ، بصورة تهدد المصلحة العامة أو المصلحة الخاصة للأفراد . فما هي الحالات التي تتدخل فيها قانون العقوبات لتجريم هذا التجاوز والعقاب عليه ؟ و ما هي القواعد أو الأحكام العامة التي يخضع لها مسلك قانون العقوبات تجاه التجاوز في حرية التعبير ؟ .
فلا تتحقق الجريمة في مجال النشر ، إلا عندما يتم التعبير عن الفكرة بإحدى طرق العلانية التي يكون من شأنها المساس بإحدى المصالح التي يحميها القانون ، فمرحلة كتابة الأفكار لا تعدو إلا أن تكون مرحلة تحضيرية أو إعدادا لتنفيذ الجريمة . وعلي ذلك يتحقق النشاط المادي للجريمة في مجال النشر بالتعبير عن الفكرة التي يعاقب عليها القانون علناً . فتصبح جوهر النشاط المادي في مجال جرائم النشر . فخطورة التجاوز في حرية التعبير تعتمد علي العلانية .
ويترتب علي أهمية العلانية ، أن إعادة نشر العبارات التي يجرمها القانون ، ولو كانت صادرة من ذات الشخص وفي ذات الجريدة ، تعتبر جريمة جديدة مستوفية أركانها وتأخذ حكم النشر الجديد . فالجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو بغيرها من وسائل العلانية ترتكب بمجرد توافر ماديات الجريمة ، والتي لا تستغرق غير وقت قصير . فتعتبر الجريمة مستوفية ركنها المادي بمجرد النشر مما يسمح لنا بالقول أن النشر الجديد بمثابة جريمة أخري منفصلة في أركانها عن الجريمة الأولي .
فجرائم النشر مثلها مثل أي جريمة أخري تقوم علي ركنين : ركن مادي متمثل في السلوك أو النشاط الإجرامي و النتيجة الإجرامية وعلاقة السببية بينهم ، وركن معنوي متمثل في القصد الجنائي . فجرائم النشر جرائم عمديه يشترط لقيامها توافر القصد الجنائي والذي له أهمية كبيرة في تحقق جرائم النشر ، فانتفاء القصد الجنائي يعني انتفاء الجريمة ، ومن ثم انتفاء المسئولية الجنائية عنها .
فتمر جريمة النشر بمرحلتين : الأولي مرحلة التعبير عن الفكرة أو الخبر والثانية هي مرحلة العلانية . وتتطلب المرحلة الأولي أن تتم بوسيلة من وسائل التعبير: حيث وردت في المادة 171 من قانون العقوبات المصري علي سبيل المثال وليس الحصر بمناسبة تجريم جريمة التحريض العلني كوسيلة اشتراك في جناية أو جنحة وذلك بأن نصت علي عقاب كل من أغري واحداً أو أكثر بارتكاب جناية أو جنحة ” بقول أو صياح جهر به علنا أو بفعل أو إيماء صدر عنه علنا أو بكتابة أو رسم أو صور شمسية أو رموز أو أية طريقة أخري من طرق التمثيل جعلها علانية أو بأية وسيلة أخري من وسائل العلانية ” .
أما المرحلة الثانية فترتكب باستعمال طريقة من طرق العلانية : والعلانية التي تتعلق بجرائم النشر واحدة لكل الجرائم التي يمكن أن تتحقق بواسطة الصحف أو غيرها من وسائل العلانية . فيستوي في ذلك الجرائم المضرة بالمصلحة العامة كجرائم التحريض أو الماسة بالنظام العام و الآداب العامة أو جرائم الإهانة و العيب أو الجرائم المضرة بالإفراد كجرائم القذف و السب و انتهاك حرمة الحياة الخاصة . وهذه العلانية ” علانية حكمية ” أفترض القانون تحققها بمجرد توافر إحدى الحالات التي نصت عليها المادة 171 من قانون العقوبات .
كما نظم المشرع المصري المسئولية الجنائية في مجال الصحافة في المواد 195 و 196 من قانون العقوبات . فتنص المادة 195 ” مع عدم الإخلال بالمسئولية الجنائية بالنسبة لمؤلف الكتابة أو واضع الرسم أو غير ذلك من طرق التمثيل يعاقب رئيس تحرير الجريدة أو المحرر المسئول عن القسم الذي حصل فيه النشر إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير بصفته فاعلاً أصلياً للجرائم التي ترتكب بواسطة صحيفته . ومع ذلك يعفي من المسئولية الجنائية : ( 1 ) إذا أثبت أن النشر حصل بدون علمه وقدم منذ بدء التحقيق كل ما لديه من المعلومات والأوراق للمساعدة علي معرفة المسئول عما نشر ، ( 2 ) أو أذا أرشد في أثناء التحقيق عن مرتكب الجريمة وقدم كل ما لدية من المعلومات و الأوراق لإثبات مسئوليته و أثبت فوق ذلك أنه لو لم يقم بالنشر لعرض نفسه لخسارة وظيفته في الجريدة أو لضرر جسيم آخر ” .
وتثير مشكلة تحديد الأشخاص المسئولين عن التجاوز في استعمال حرية الصحافة عدة صعوبات قانونية بسبب التنظيم الخاص بالصحافة ؛ حيث يمكن استظهار ثلاثة مشكلات أساسية تؤثر في تحديد الأشخاص جنائياً : ( 1 ) كثرة عدد المتداخلين في إعداد ونشر المطبوع ؛ ( 2 ) نظام اللاسامية في الكتابة أو عدم كتابة اسم الصحفي المسئول عما نشر وعدم توقيعه ؛ ( 3 ) سرية التحرير حيث أن من حق رؤساء التحرير أو المحررين أن يحافظ علي سرية مصادرهم الصحفية ، وهو ما يعرف ” بسرية التحرير ” .
إلا إن هناك أحوال أباح فيها المشرع جرائم النشر إذ يقرر في المادة 302 عقوبات مشروعية نشر الوقائع التي تعتبر قذفاً في حق الموظف العام بسبب وظيفته بإقامة قرينة قانونية غير قابلة للعكس علي توافر المصلحة العامة من إباحة القذف في حق الموظف العام بالشروط التي حددها المشرع.
كما أباح المشرع نشر الإخبار في الصحف بتوافر أربعة شروط آلا وهي: ( 1 ) أن يرد علي أخبار لا يحظر القانون نشرها ؛ ( 2 ) الالتزام بمراعاة الحقيقة ؛ ( 3 ) أن يكون هناك فائدة اجتماعية للأخبار بالنسبة للجمهور ؛ ( 4 ) توافر حسن النية .
الكاتبة في أسطر
الدكتورة / رشا فاروق أيوب
مدرس القانون الجنائي بكلية الحقوق جامعة بنها
دكتوراه في القانون الجنائي من جامعة بنها – جمهورية مصر العربية بالتعاون مع
Université de Paul Cézanne Aix-Marseille III – France
رسالة دكتوراة بعنوان : قواعد الاختصاص المكاني في القانون الجنائي ” في ضوء المستجدات الدولية والضرورات العملية “
والمستشارة بالنيابة الإدارية سابقاً
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً